السبت 23 تشرين الثاني 2024

عدت من زيارة إلى غوانتانامو وما زلت أحاول استيعاب غرابة المكان


النهار الاخباريه- وكالات
مجرّد دقائق قليلة بالسيارة تفصل ما بين الهيكل المهجور لمخيم أشعة إكس، أحد أسوأ السجون سمعة في العالم، وبين مطعم ماكدونالدز في خليج غونتانامو أي بين رمزين من رموز أميركا. وتمرّ في طريقك إليه بصفوف من المنازل المكسوّة بألواح الخشب مع حدائقها المرتّبة ولوازم حفلات الشواء خلفها. كما تمرّ بمدرسة وملعب رياضي. ويمارس الناس رياضة الهرولة على جنب الشارع في طريقهم إلى الشاطئ. إن كان وصف هذه الحالة الانتقالية يبدو متنافراً، فهو لأنها فعلاً كذلك. لكنها حدّدت شكل رحلتي بأكملها. 
خلال حياتي السابقة كمراسلٍ في الشرق الأوسط، زرت عدداً لا بأس به من القواعد العسكرية. زرت قاعدة كيو ويست خارج الموصل في العراق، التي أطلق الجنود الأميركيون منها آلاف الصواريخ باتجاه أهداف "داعش" في المدينة. كما ذهبت إلى قاعدة قوات سوريا الديمقراطية الكردية في دير الزور، أحد مواقع الانطلاق في المعركة النهائية ضد "داعش" في الباغوز. كما دخلت إلى قاعدة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في بغداد، العاصمة العراقية، والواقعة ضمن موقع محصّن داخل المنطقة الخضراء في المدينة. وكانت كلها بلا استثناء، أماكن غريبة جداً.
لكن لم يكن أياً منها يشبه غرابة خليج غوانتانامو لا من قريب ولا من بعيد. 
كنت أحد أفراد فريق صغير من المراسلين سُمح لهم أخيراً بدخول هذه القاعدة من أجل حضور جلسة استماع تسبق محاكمة سجين مُحتجز في المُعتقل على الجزيرة. كان الخبر مهماً، ولكنني شعرت بحشرية بالدرجة نفسها لرؤية القاعدة بذاتها واكتساب معرفة إضافية تمكّنني من فهم هذا المكان السري للغاية. فيما تصل الحرب على الإرهاب إلى خواتيمها، إلى ماذا يرمز هذا المكان؟ وما هدفه؟
وُجدت القاعدة الاميركية في هذا المكان، بشكل أو بآخر، منذ أكثر من مئة عام. ووضعت الولايات المتحدة يدها على الخليج في عام 1898 خلال الحرب الإسبانية- الأميركية، ووقْعت في عام 1903 عقد إيجار دائم مع رئيس البلاد آنذاك، تزعم أنه ما زال قائماً حتى يومنا هذا. أما الحكومة الكوبية الحالية، بالطبع، فتعتبر القاعدة احتلالاً يفتقر إلى المشروعية.
والغاية الرسمية من هذه القاعدة هي "الحفاظ على النفوذ الاستراتيجي لأميركا في الكاريبي". يمتد المجمّع على مسافة 45 ميلاً مربعاً عبر خليج المياه العميقة ويسكنه نحو ستة آلاف جندي وموظف محلي متعاقد وأسرهم. 
وهو يبدو جزئياً، إن من ناحية الشكل أو الانطباع، مثل أي مدينة أميركية عادية، أكثر من أي شيء آخر. وُضع خارج أحد المتاجر لوح للإعلانات يعدّد الفعاليات التي تجري في القاعدة- ومنها "حفلة شواء على موسيقى البلوز" تضم أشخاصاً يمشون على سيقان خشبية طويلة ورسماً على الوجوه، ولعبة البينغو والبولينغ وصفوف صناعة الخزف وأمسيات مخصصة للعبة الأسئلة المنوّعة. كما يمكنكم التدرّب على الرماية في ميدان للعبة كرة الطلاء (بينتبول) في الموقع صفر.
ولّدت فيّ مظاهر الوضع الطبيعي العادي هذه شعوراً بالتنافر بشكل خاص لأنني، مثل كثيرين غيري حول العالم، لطالما ربطت هذه القاعدة بمركز الاعتقال الذي أُنشئ عليها في عام 2002 لإيواء "أسوأ الأشخاص على الإطلاق" في حرب أميركا الطويلة على الإرهاب؛ وبالبدلات البرتقالية، والتعذيب وسوء المعاملة. 
وهذا هو السؤال الذي أراد كل المراسلين في هذه الرحلة أن يطرحوه على قائد القاعدة الجديد، النقيب سامويل وايت، حين سُمح لنا بإجراء مقابلة معه. ظللنا نسمع من الناس الذين يسكنون في المكان أن سوء فهم هائل يحيط بهوية خليج غوانتانامو الحقيقية- فما رأيه بالموضوع؟ 
وصف النقيب دوره على أنه [في مثابة] مالك عقار، والسجن أحد المستأجرين في مبناه. وقال "لا أصدر أي حكم بشأن الجيد والسيء وأي شيء، أو إن كان يجب وضع أحد الأمور وراءنا. المستأجر موجود لأداء مهمة محدّدة، ولدينا واجب ضمان أمن وسلامة كل الطاقم الموجود في هذه المنشأة". ربما كانت فرصة للتطرّق إلى سوء الفهم المزعوم- لكن كان هناك تردّد في الحديث عن هذا الجزء من ماضي غوانتانامو تماماً.
شكّل النقيب مثالاً على الأفكار المتناقضة السائدة حول هذه القاعدة. فهذا التناقض الإدراكي يسمح للناس بقضاء يومهم بشكل عادي فيما يُنقل السجناء حولهم. كما الرغبة بالتقدّم والاستمرار من دون التوقف للحساب. ربما ليست هذه وظيفتهم، باعتبارهم أعضاء غير سياسيين في البحرية الأميركية، لكن بالنسبة لغريب يزور المكان للمرة الأولى، بدا الأمر عبثياً.
وفي هذه الأثناء، تعمل إدارة بايدن على إغلاق مركز الاعتقال بهدوء بعيداً من الأنظار. نُقل أول سجين في ظل حكم بايدن، عبد اللطيف ناصر، إلى بلده الأم، المغرب، بعد أسبوعين من مغادرتنا غوانتانامو. وهدف بايدن النهائي هو إغلاق هذا المعسكر نهائياً فور نقل المساجين المتبقّين البالغ عددهم 39 شخصاً إلى بلدان أخرى.
ماذا سيكون خليج غوانتانامو عند مغادرة آخر السجناء؟ هل سيعود مجدداً مجرّد قاعدة بحرية أخرى؟ أو سوف يظل يُعتبر أثراً من زمن آخر؟ هل سيختفي تدريجاً من الذاكرة ويصبح مجرّد قاعدة على أرض أجنبية ترى حكومتها وجودها غير شرعي؟ أم سيظل ذكرى تجسّد إحدى أسوأ الحقبات في التاريخ الأميركي المعاصر، ومكاناً، بحسب كلمات باراك أوباما، "قوّض فيه (البلد) أثمن قيمنا"؟