الأحد 24 تشرين الثاني 2024

صواريخ القسام وصورة أبي عبيدة: كيف انتصرنا في الحرب المعنوية

صواريخ المقاومة سلاحًا معنويًا
لا تزعم المقاومة، ولا أشد أنصارها حماسًا، أن صواريخها، مهما بلغ مداها أو قوتها التفجيرية، ستكون هي العنصر الفصل في حرب تحرير فلسطين. قد تثبت صواريخ المقاومة تطورًا غير مسبوق، وقد تشكل توازن رعب جديد مع العدو وترسم له الحدود الحمراء، أو تستنزفه اقتصاديًا وتشجّع الهجرة من كيانه. ولكن، ما دامت الحرب هي حرب تحرير كل فلسطين، تبقى الصواريخ وسائل مواجهة عن بعد، لا تغني عن الاشتباك المباشر.

العبرة إذن ليست بما يحدثه كل صاروخ من دمار، وإنما بالدور الذي تلعبه منظومة المقاومة الصاروخية في حرب التحرير الأشمل.

لسنا خبراء في العلوم العسكرية، ولسنا قريبين من الميدان بما يؤهلنا لتقديم قراءة ميدانية للدور الذي لعبته الحرب الصاروخية في الجولة الماضية وما قد تلعبه في الجولات الآتية ما بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وربما لن يكون لدينا جميعًا رفاهية تقييم هذا الدور إلا بعد تحرير فلسطين.

ما نهدف إلى تقديمه هنا هو قراءة للأهداف الميدانية-المعنوية التي أصابتها المقاومة. وإن كان حديثنا سينصبّ بالأساس على دور المقاومة المعنوي على جبهتنا نحن، فإننا نرى ضرورة الحديث عن دورها المعنوي على جبهة العدو، لكي لا يكون حديثنا معلقًا في الفراغ، أو يبدو كما لو كان حديثًا عن المعنويات، منفصلًا عن الواقع المادي والميداني.

الأهداف المعنوية في الميدان
لا نعني، حين نتحدث عن الأهداف المعنوية، أهدافًا وهمية تنفصل عن الواقع الميداني وظروفه المادية؛ ولا نتحدث عن حرب الأعصاب فحسب. كل الدول هي في نهاية المطاف كيانات معنوية كما هي كيانات مادية، وأي حرب تدور رحاها ضمن هذه الشبكة المادية-المعنوية (ولهذا كان لحامل الراية دورٌ في الحروب القديمة وهذا قبل أن يصبح الاعتراف الدولي والعلاقات الدبلوماسية وشبكات الإعلام والأرصدة البنكية ومواقع الإنترنت جزءًا من كيانات الدول وبالتالي جزءًا من المجهود الحربي).

لم يقتصر تطوير المقاومة لأساليبها القتالية على عنصر الصواريخ، إذ امتدت هجمات المقاومة إلى الكيان المعنوي والسيبراني للاحتلال الإسرائيلي، وفي هذا الإطار كان نشر المقاومة لرقم هاتف المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، ليتلقفها جمهورها ويمارس حربه النفسية الصغيرة ضد أدرعي، الذي أصبح يتلقى «الإزعاجات والشتائم» بشكل مستمر (ما شكل ردًا مناسبًا على محاولة استخدام دولة العدو للشخصية الافتراضية التي اختلقها أدرعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجل اختراق الوعي العربي). هذه العمليات «المعلوماتية» تتضافر كذلك مع الحرب السيبرانية التي كانت قد بدأتها دوائر التضامن الدولي، وبالذات مجموعة «أنونيموس» في عام 2013، ضد الكيان الافتراضي-السيبراني لدولة العدو. وقد امتدت الهجمات السيبرانية حتى عشية معركة سيف القدس، إذ تعرضت مجموعة من الشركات والجمعيات الإسرائيلية في أواخر شهر نيسان إلى الهجوم من نشطاء يُعتقَد أنهم من إيران. 

كل صاروخ، أصاب أم لم يصب، كان يصيب الأسطورة الصهيونية التي تدّعي أن المستعمرة الاستيطانية في فلسطين هي السبيل الوحيد لأمان اليهود، أي أنه يصيب بشكل ما الفكرة الصهيونية في صميمها.

غير أن مسألة الحرب المعنوية تتعدى هذه الهجمات إلى لب المعركة العسكرية نفسها: لا تريد المقاومة، على المدى البعيد، تحسين شروط التفاوض مع العدو أو التعايش معه، وإنما تسعى إلى إنهاء وجوده. ولا تسعى، بطبيعة الحال، إلى تدمير سائر أراضي فلسطين التاريخية التي يسيطر عليها العدو، ولا حتى إلى تدمير كافة المنشآت الإسرائيلية على أرض فلسطين؛ وتدرك أنه من غير الوارد، في الوقت الحالي على الأقل، أن تحرز في معركة واحدة نصرًا حاسمًا على عدوها، تخرجه به من الوجود. ومن ثم فإن حرب تحرير فلسطين، هي بالأساس حرب إنهاء الوجود المعنوي لدولة «إسرائيل»، وفي الشق العسكري من هذه الحرب يظل الدمار الذي يمكن أن تحدثه أي عملية عسكرية أو نوعية أمرًا ثانويًا تزيد أهميته أو تنقص بمقدار الدور الذي ستلعبه في تدمير الكيان المعنوي والاعتباري لدولة العدو. 

فعندما اتبعت المقاومة أسلوب الرشقات الذي خفض فعالية القبة الحديدية الإسرائيلية (تذهب بعض التقديرات إلى أن فعاليتها أصبحت لا تتعدى 5%) فإنها، من خلال هذا التفوق الميداني، كسرت أسطورة من أساطير الأمن الإسرائيلي، ومن خلال هذا الكسر خطت خطوة أخرى في ترسيخ كون دولة الصهاينة ليست ملاذًا آمنًا، وعندما فرضت عمليًا حظر التجوال على تل أبيب وألجأت سكان مدن الكيان إلى الملاجئ، وأجبرت شركات الطيران على تعليق رحلاتها إلى الكيان وأخرجت مطاراته من الخدمة، فإنها كانت تسقط معادلات الأمن الصهيوني بشكل مادي ومعنوي في آن (هروب الناس عمليًا إلى الملاجئ، وخواء الشوارع، وتعليق حركة الطيران وما ترتب عليه من تكاليف مادية؛ كلها تجسيد مادي للمكاسب المعنوية التي تحققها المقاومة). كل صاروخ، أصاب أم لم يصب، كان يصيب الأسطورة الصهيونية التي تدّعي أن المستعمرة الاستيطانية في فلسطين هي السبيل الوحيد لأمان اليهود، أي أنه يصيب بشكل ما الفكرة الصهيونية في صميمها. 

وبينما كانت الصواريخ تصيب عقيدة العدو، كانت تشعل أهدافها كذلك في عقيدتنا وعقولنا. فإن الاستعمار، كما علمنا فرانز فانون ومن تبعه ممن انتهجوا نقد الاستعمار، أثر نفسي كما هو غزو عسكري وهيمنة اقتصادية وسياسية، وإذ يمارس الاستعمار العنف النفسي الذي يجعل المستعمَر ينظر إلى نفسه نظرة دونية، فإن أي انتصار مادي عليه، كبيرًا كان أم صغيرًا، يحررنا كذلك من ربقته المعنوية. صواريخ المقاومة وعملياتها المختلفة تصدق ما قاله فانون عن العنف الثوري في مواجهة الاستعمار، إذ «تخلّص المستعمَرين من عقد النقص: من السلبية واليأس؛ تجعلهم شجعانًا وتعيد لهم الثقة». 

صواريخ المقاومة على جبهتنا المعنوية
عندما بدأت جماهير القدس وسائر الضفة الغربية في الهتاف للمقاومة وصواريخها ولمحمد ضيف قبل بداية الحرب في غزة، كانوا يضعون صواريخ المقاومة في قلب ثورة الشعب الفلسطيني واستراتيجيته التحررية. استجابت المقاومة واضطلعت بالدور الذي حمّلها إياه أبناء شعبها، ثم التقط أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات الخيط. كانت صواريخ المقاومة تصيب شيئًا في نفوس الفلسطينيين ونفوسنا جميعًا؛ تؤكد على أنها صواريخ الشعب الفلسطيني وصواريخنا (خاصةً أن هذه أول معركة، منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 2005، تخوضها المقاومة في غزة لا دفاعًا عن القطاع وإنما دفاعًا عن القدس وعن خطوط الشعب الفلسطيني الحمر) وتنزلنا منزلة «نا» الفاعلين في مقولة الطفل المقدسي البليغة في الفيديو الشهير «قصفناكوا».

إذ يمارس الاستعمار العنف النفسي الذي يجعل المستعمَر ينظر إلى نفسه نظرة دونية، فإن أي انتصار مادي عليه، كبيرًا كان أم صغيرًا، يحررنا كذلك من ربقته المعنوية.

التقطت جموع الشعب الفلسطيني انتصارات مقاومتها المعنوية وجعلت منها سلاحًا لشنّ المزيد من الهجمات النفسية؛ مثل الشاب الذي استولى على جهاز بث للشرطة الإسرائيلية ليقول فيه بالعبرية «أبو عبيدة في الطريق». ومن هذا أيضًا ما تردد على بعض وسائل التواصل الاجتماعي (ولم نجد مصدرًا موثقًا للحادثة) عن إطلاق بعض الفلسطينيين صفارات الإنذار من مكبرات الصوت في مآذن المساجد ليسمعها المستوطنون فيهرعوا إلى الملاجئ قبل أن يكتشفوا أنها خدعة. 

هذه الحكاية، صحت أم لم تصح، تشير إلى هذه الحالة النفسية التي تضع الفلسطيني، من قبل أن يحمل سلاحًا أو حجرًا أو ينزل إلى مظاهرة، في موقع الفاعل، المهاجِم الُمبادِر، تحرره، كما قال فانون «من السلبية واليأس»، وتجعل من الحرب النفسية التي تشنها فصائل المقاومة مادة خام يصنع منها المدني الفلسطيني مقاومته الخاصة وحربه النفسية ضد أعدائه. ولا يفوتنا كذلك كيف تشير هذه الحكاية إلى دور السخرية وروح الدعابة في حرب التحرير.

لهذه الحكاية كذلك رمزية ثقافية لا يمكن إهمالها: أنَّ مآذننا تجبرهم على الاختباء في الملاجئ. يمكننا أن نقرأ في السياق نفسه إصرار كتائب القسام على تكرار استعارة «الوقوف على رجل واحدة» في تهديداتها للعدو والتي يصعب ترجمتها إلى اللغات الأخرى كأنها تفرض على الصهاينة والعالم أن يأتوا إلى ثقافتنا واستعاراتنا، بدل أن نذهب نحن إليهم، وتكسر استئثار اللغة الإنجليزية ومنظومة الثقافة الغربية بالمعنى. قد لا يهم كتائب القسام إن استعصى على الصهاينة وعلى وسائل الإعلام الأجنبية فهم الاستعارة أو ترجمتها؛ فالصهاينة وحلفاؤهم في النهاية مضطرون إلى أن يبذلوا جهدهم في ذلك ليفهموا التهديد.

هذا الإحساس بأننا نحاربهم بثقافتنا امتد إلى وسائل التواصل الاجتماعي: ففي لحظة وجدنا وسائل التواصل الاجتماعي تُقصينا وتمنعنا من إبداء رأينا، شعرنا بالاضطهاد معًا، ولذنا بثقافتنا معًا، ولجأ بعضنا إلى حيلة الكتابة بالعربية دون نقاط لمراوغة الرقيب الإلكتروني. وإذ أثبتت التجربة أن الفكرة ليست عملية (عملية الكتابة بدون نقاط في حد ذاتها معقدة ومرهقة ولم يلجأ إليها إلا القليل) وأن خوارزمية الفيسبوك قد تكون قادرة على كشفها بعد حين، مثلت هذه البادرة نوعًا من العودة الرمزية إلى الجذور خاصة وقد انتشرت معها مقولات تفتخر بأننا نحن العرب لا نحتاج للنقاط وأن النقاط وضعت لمساعدة غير العرب وأنه قد آن الأوان أن نعود لمخاطبة بعضنا البعض من دون أن يفهمنا الأعاجم.

هذا المحتوى الثقافي للمقاومة ليس جديدًا: مقاومة الاستعمار عبر العصور لجأت إلى أشكال من إحياء التراث، خاصةً حين يشن الاستعمار حروب تطهير ثقافي وعرقي؛ ولم يغب هذا العنصر يومًا عن الثورة الفلسطينية (التي كان لها إسهام ربما هو الأكبر في حركة الأدب العربي عمومًا)؛ إلا أن هذا المحتوى الثقافي وهذه الإحالات التراثية تكتسب زخمًا خاصًا في رحاب أبي عبيدة. 

رمزية أبي عبيدة: من «أبي عبيدة» إلى «الجراح»
يأتي المتحدث الرسمي لكتائب القسام حاملًا اسمًا حركيًا من صميم التراث الإسلامي: فهو سَمِيّ أبي عبيدة بن الجراح، فاتح بيت المقدس وسائر بلاد الشام، وهازم إمبراطورية الروم. توظف المقاومة، المقاومة المدنية للشعب الفلسطيني، التي جعلت من المآذن سلاحًا معنويًا، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، التي استحضرت أبا عبيدة، والتي لا نستبعد أن يكون استحضارها لرمزيته ودوره في فتح فلسطين مقصودًا، التراث الإسلامي في مشروع وطني لا يحصر نفسه طائفيًا، وتنزل هذا التراث منزلته اللائقة ضمن المشروع التحرري. 

ورغم أن حي «الشيخ جراح» سُمّي على اسم جراح صلاح الدين الأيوبي لا على اسم أبي عبيدة بن الجراح، فإن اسم أبو عبيدة يستدعي بالضرورة، بالمصادفة الموَفَّقة وبالتداعي الحر، «الجراح»؛ تمنحنا المصادفة الموفقة خيطًا آخر نستطيع أن ننسج به الميادين التاريخية والحاضرة إلى بعضها في نسيج هوياتي واحد: من فتح فلسطين الأول، إلى عهد صلاح الدين، إلى صواريخ المقاومة، إلى انتفاضة أحياء القدس في وجه المستوطنين ودولتهم. 
وفي اللحظة التي وجدنا فيها أنفسنا مبعدين من الحيز العام من الإعلام العالمي، واتضح لنا أكثر اغترابنا عن الصورة المثالية التي يقدمها هذا الإعلام (المواطن الصالح، الذي لا يخوض في الممارسات التي يراها الرقيب الإلكتروني وتراها المنظومة الإعلامية السياسية الغربية المهيمنة، إساءةَ أدب، فلا ينتقد الصهيونية، وإلا أصبح معاديًا في عرفهم للسامية، ولا يدعم المقاومة، وإلا أصبح داعمًا في عرفهم للإرهاب؛ والذي يشبه أو يتشبه بالرجل الأبيض أو البطل الهوليودي الذي يشبه بدوره ضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي بأكثر مما يشبهنا أو يشبه أبطال مقاومتنا) التففنا نحن حول صورة هي النقيض من تلك الصورة التي تريد السينما الأمريكية ووسائل التواصل الاجتماعي أن تجعلها مثالية.
لا تستمد صورة أبي عبيدة قوتها من فراغ ولا من ولع بالمظاهر أو استغناء بالصورة عن البرنامج والتنظيم السياسي، وإنما تستمد قوتها من ترسانة مادية ومعنوية ورمزية تجندها المقاومة في حرب التحرير.

محصت النظريات النقدية في التحليل النفسي والسينما أثر الصورة السينمائية، الهوليوودية بالذات، وكيف تجعل مشاهديها يتماهون مع ملامحها ومع خصوصياتها الثقافية، على حساب أنفسهم أحيانًا، ومن قبل ذلك كان تحذير فرانز فانون من أن الجهاز الثقافي للاستعمار يفرض التماهي مع صورة الرجل الأبيض، صورةً مثاليةً ومُجَمَّلة، بما يجعل صورة الآخرين المستعَرين صورة سالبة تمثل نقيض الخير والجمال. وإن كانت صورة هوليوود تقوم على فرض معايير جمالية معينة، فإن أبا عبيدة يقدم لنا تسيّد صورة المقنع الذي لا نرى ملامحه. 

لثام أبي عبيدة يردنا إلى حالة الإبهام التي لا تريدها السلطة والتي يحتمي بها المحتجون في كل أنحاء العالم، إذ يداري اللثام الوجه من أعين السلطة، ويقاوم اللثام فرز الناس إلى أفراد ويجعل الوجه المقنع هو وجه الجمع (وقد انتشرت شائعات بالفعل على وسائل التواصل الاجتماعي تزعم أن أبا عبيدة أكثر من شخص. وإن كان شخصًا واحدًا فإنه بإخفائه ملامحه يصبح وجه المقاومة ووجه الجميع)
أي وجه يظهر أمام الإعلام متحدثًا باسم المقاومة ومتوعدًا المستعمرين والمستكبرين (بالذات حين لا يكون هذا الوجه أوروبيًا أو أمريكيًا، وخاصة حين يفعل ذلك بالعربية أو بأي لغة من لغات الشعوب المستعمرة والمقهورة)، يمثل نوعًا من المقاومة المرئية والثقافية للصورة الهوليوودية، الأمريكية-الأوروبية، السائدة؛ إلا أن صورة أبي عبيدة ملثمًا تقاوم الصورة السائدة على مستوى أعمق. لا شك أن أسباب تلثّم أبي عبيدة عملية قبل أن تكون رمزية؛ إلا أن هذا اللثام يلعب دورًا رمزيًا ونفسيًا، إذ يقدم لنا صورة مثالية لا ملامح واضحة لها لنتماهى معها. هذا التماهي الجديد، الذي لا يقوم على الملامح، يكسر بشكل ما الفردانية، إذ يصبح التماهي مع اللثام وما يمثله لا مع ملامح صاحبه، وتخرجنا من الفردي إلى الجماعي، حيث وجه الملثم يصبح وجه كل الناس ووجه كل الجموع وكل المحتجين.

وإذ تجذبنا صورة أبي عبيدة بعيدًا عن الصورة المهيمنة وعن ملامح المستعمرين والمستكبرين الذين يجعل منهم الإعلام وتجعل منهم هوليوود أبطالًا (خاصة إذ يقتلون أشرارًا يشبهوننا)، فإنها تأخذنا نحو الكوفية الفلسطينية بكل ما تمثله لنا من تاريخ وذكريات ودلالات ومشاعر. صورة أبي عبيدة ملثّمًّا بالكوفية تستحضر صورة كل مناضل ارتداها غطاء رأس أو وشاحًا أو لثامًا، من عز الدين القسام إلى آخر مناضل في آخر مظاهرة أو اعتصام في فلسطين أو الشتات، إلى آخر عملية مقاومة تمت بمبادرة فردية أو بتخطيط أحد تنظيمات الثورة الفلسطينية. ويستحضر لون كوفية أبي عبيدة، الأحمر بالذات، كوفية يحيى عياش؛ وبالتداعي تستحضر الكوفيتان تاريخًا مستمرًا لحركة المقاومة الإسلامية حماس، في تطوير العمل المقاوم، من عبوات يحيى عياش المتفجرة إلى الصواريخ؛ وفي تقديم الرمز، من صورة يحيى عياش الشهيرة إلى صورة أبي عبيدة، إلى الصورة المبهمة لمحمد الضيف. 

لا تستمد صورة أبي عبيدة قوتها من فراغ ولا من ولع بالمظاهر أو استغناء بالصورة عن البرنامج والتنظيم السياسي، وإنما تستمد قوتها من ترسانة مادية ومعنوية ورمزية تجندها المقاومة في حرب التحرير. تأتي متممة لمشروع تحرري متكامل؛ لتتوج المقاومة التي «تخلص المستعمرين [والحديث ينطبق هنا لا على الفلسطينيين فحسب بل على عموم العرب وكل المستضعَفين والواقعين تحت الاستعمار المباشر أو غير المباشر وكل رعايا الإمبراطورية الأمريكية وضحاياها] من عقد النقص، من السلبية واليأس» بصورة تنازع الصورة المهيمنة التي يزرعها الاستعمار في أذهان الناس، وتواجه عنف الصورة الاستعمارية بصورة المقاوم الملثم.
أحمد ضياء دردير