الكاتب صالح الشحري
كلما تقدمت في قراءة مذكرات ريم النمر الشخصية أعدت النظر إلى العنوان الفرعي للكتاب "متاهة حروب وجبهات"، وأردّد في نفسي كم كان عنواناً صادقاً ومعبراً!
ريم رفعت النمر هي ابنة عائلة النمر الفلسطينية، وهي عائلة من عائلات نابلس العريقة التي قاومت العثمانيين في بداية حقبتهم، ثم تحالفت معهم، وكان لهم في العهد العثماني أراض ومال وكذلك نفوذ سياسي ضخم. وكان ديوان النمر مقصداً لأبناء نابلس، وأغنياؤهم يطمعون في علاقات سياسية تُفضي إلى الحصول على المناصب والرضا عند الولاة، وكذلك اقتناص فرص التجارة والاستثمار. أما الفقراء فكانوا يقصدون سرايا آل النمر طلباً للمساعدة المادية، وهكذا قدمت العائلة الولاء للسلطان العثماني مقابل عملهم كوسطاء بينه وبين الشعب.
وانهارت تلك المكانة بنهاية سلطنة آل عثمان، ولكن بقيت لها أراضيها الكثيرة التي فقدت أكثرها بقيام دولة إسرائيل.
إلى ذلك، فريم هي ابنة عمة طاهر المصري، رئيس الوزراء الأردني الأسبق.
ولد رفعت النمر والد ريم عام 1918، ودرس في مدارس نابلس الحكومية التابعة لسلطات الانتداب البريطاني، ولكن سرعان ما نشط في العمل العلني والسري ضد سلطات بريطانيا، وأصبح رئيساً لرابطة الطلاب الفلسطينيين. وعملت الرابطة في الدعم اللوجستي لثورة مفتي القدس أمين الحسيني. لكن انتهى به الأمر إلى السجون، وفُصل من الدراسة، وهرّبه أهله إلى لبنان، إذ صدرت بحقه مذكرة اعتقال من السلطات الانتدابية البريطانية، حرمته من العودة لفلسطين. انتقل بعدها لدراسة الأدب العربي في جامعة فؤاد الأول في القاهرة، عميد الأدب العربي كان أستاذه آنذاك، وكان يدعوه بالثائر الفلسطيني. وبعد انتهائه من الدراسة وظفه البنك العربي في فرعه في بغداد، ثم رُقي ليصبح معاون مدير البنك العربي في عمان، وبوراثة السلطات الأردنية لإدارة الضفة الغربية عثر على مذكرة الاعتقال البريطانية الصادرة سابقاً بحق رفعت، وبناء على ذلك -ويا للسخرية- صدر خطاب بالاعتقال ففر إلى السعودية، حيث عمل نائباً لمدير بنك الرياض، وبسبب ناصريته فقد أُعلن شخصاً غير مرغوب فيه. فعاد إلى لبنان وأسس مجموعة من المصارف هناك بالتعاون مع مستثمرين كويتيين، ونجح نجاحاً كبيراً. الأمر الذي أهّله بعد ذلك لحضور مؤتمر القدس عام 1965، المؤتمر الذي أُعلن فيه عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وقد تم اختيار رفعت فيه ليكون نائباً لمدير الصندوق الوطني الفلسطيني. ورغم صداقته لكل زعماء الثورة الفلسطينية آنذاك فقد اختصم مع ياسر عرفات يوم وصل إلى قيادة منظمة التحرير، وتكشف الكاتبة ريم النمر سر الخلاف بأن ياسر عرفات لم يكن فاسداً على المستوى الشخصي، ولكنه كان مفسداً عظيماً، وتذكر خلافات والدها معه في أوامره بصرف أموال لهذا وذاك.
متاهة ريم النمر
ولدت ريم النمر في نابلس عام 1952، ودرست في كلية فيكتوريا في مدينة الإسكندرية، وفي سن السادسة عشرة كانت تعيش حياة الطبقات المرفهة في رأس بيروت، وأصبحت حريصة على التمتع بالحياة، رغم أن عقلها بدأ يحمل أفكاراً شيوعية. اشترى لها والدها سيارة ماركة "ألفا روميو"، سيارة سباق فارهة مفتوحة السقف، تتميز عن معظم السيارات الفخمة التي كانت تعج بها بيروت في الستينيات. وهكذا رآى مرتادو "كورنيش الروشة" سيارة فاخرة تقودها فتاة ترتدي التشارلستون وتدخن سجائر "المارلبورو"، والسيارة تتراقص على أنغام أغاني فرقة "البيتلز". لم يكن في بيروت إلا اثنتان مثل سيارتها، واحدة يملكها ابن كامل الأسعد، رئيس مجلس النواب اللبناني آنذاك والإقطاعي الشيعي، والثانية يملكها وليد كمال جنبلاط، وكم شهدت أمسيات الرملة البيضاء في بيروت سباقات تحدٍّ بين السيارات الثلاث، وانتهى الأمر بأن اشتكى رئيس شرطة بيروت إلى والدها الذي صادر السيارة وباعها.
التحقت ريم بحركة فتح عام 1970، ولكن بعد عام واحد وجدت أن فتح لا تناسبها، فالتحقت بالجبهة الشعبية التي يرأسها الحكيم جورج حبش، صديق والدها. على المستوى الثقافي تعمق فهمها للشيوعية، عشقت تشي جيفارا، وقاد ذلك بعد عام آخر إلى أن انفصلت مع بعض الرفاق لتؤسس الجبهة الشعبية الثورية، وهكذا استبدلت بمقاهي شارع الحمراء المقاهي الشعبية في الفكهاني.
قادتها ثوريتها إلى القاهرة، حيث انغمست في حراك طلبة جامعة القاهرة المعترضة على سياسة المفاوضات التي كان يجريها السادات مع الصهاينة أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول، وعندما كانت تغادر مطار القاهرة ألقت سلطات الأمن المصرية القبض عليها. ولم تخرج إلا بتوسط ابنة خالتها "أم اللطف"، التي قال لها ضابط الأمن خذيها وقولي لها بألا تعود مطلقاً إلى مصر.
متاهة المنظمة الشيوعية العربية
خالفت ريم النمر أسرتها بإصرارها على الزواج من محمد، ابن مخيم "صور"، كان محمد يشبه جيفارا بصورته، ويعمل فى التحليل السياسي. بينما كان أخوه الأصغر يحمل كل ثورية جيفارا، قالت لأهلها إنكم عائلة برجوازية، لذا ترفضون محمداً لأنه فقير، وقررت المضي وراء سعادتها، وهربت مع محمد حيث تزوجا. زواجها أثر كثيراً على وحدة العائلة، وهربت من وجه أبيها مع محمد إلى برلين الشرقية لتتزوج، وهناك قضت عدة أسابيع حتى هدأت الضجة، ثم عادت لتسكن بيتاً في قانا، جنوب العاصمة بيروت. كان بيت قانا القروي المفتوح على السماء والهواء أبعد ما يكون عن بيت أبيها في رأس بيروت. وسرعان ما بدأت الحمل الأول، ومعه انفصلت عن الجبهة الشيوعية الثورية، التنظيم الذي لم يتجاوز حيز التثقيف الثوري، لتقوم بتأسيس تنظيم جديد وهو "المنظمة الشيوعية العربية" عام 1975. وقرروا أن يعاقبوا الأنظمة التي لم تقف مع الثورة الفلسطينية، وخططوا لنسف وزارة الدفاع السورية انتقاماً من الجيش السوري الذي كان يضيّق على الثوار مثلها في لبنان، لكن من أين يأتون بالتمويل اللازم؟
لم تكن منظمة التحرير تعترف بهم، لم يكن لهم دخل مادي، فقرروا السطو على بنك في صيدا، ووقفت ببندقيتها تحرس علي وهو يأخذ من مال البنك. عادت إلى بيتها بعد أن قرر علي الغضبان، قائد العصبة الشيوعية، أنها -وقد أصبحت أماً حديثاً- لا تصلح للمشاركة في تلك العملية الخطرة، وتمكنت المجموعة من تفجير جزء من مبنى وزارة الدفاع السورية. احتفلت ليلتها ومحمد بالإنجاز، لكن تبعات الحدث كانت قاسية، أصدر حافظ الأسد مرسوماً باعتقال أي شخص له صلة بمنظمتهم، وخلال يوم واحد اختطفت المخابرات السورية علي الغضبان وأعدمته مع أربعة آخرين، كلهم من طلبة الجامعات.
أما الرفيقات اللبنانيات اللواتي عرفن بأسمائهن الحركية لوسي ويمنى وليلى فقد أمنتهن عناصر القائد الفلسطيني أبو إياد بعيداً عن أعين المخابرات السورية، لكن ريم ومحمد ظهرت صورهما في الشوارع وعليها جملة (مطلوب للعدالة)، ولم يتقدم أي من عناصر منظمة التحرير لتوفير المأوى لهما، فهربا من بيت لبيت مع وليدهما الصغير بمساعدة محام شيوعي لبناني، وبدأت متاهة جديدة!
متاهة أبو العباس
اختبآ في بيروت، ثم هربا عندما أحاطت بالمكان قوات سورية، تركا طفلهما عند أهل زوجها، وهربا إلى سوريا، حيث اختبأت عند بدوي فلسطيني، كانت الفتاة الحامل ببنطالها الجينز أعجوبة لأهل البدوي، تمكنا من الحصول على وثائق سفر عراقية لريم، شك فيها ضابط الحدود العراقي، لكنه تعاطف معها وأذن لها بالمرور. فى بغداد، أصبحت موظفة سنترال فى أحد الفنادق، زوجها الوسيم أصبح لوسامته موظف استقبال في الفندق، لم يعد ثائراً، وحدث أن نزل القائد السياسي الفلسطيني أبو العباس في الفندق نفسه، فتواصلت معه، وكانت حكايتها معروفة. فدبّر لهما جوازي سفر عراقيين أصليين، سافرا إلى العاصمة الإيفوارية أبيدجان حيث شقيق زوجها، وجاءت أمها لرؤية حفيدها، وحملت لها عشرة آلاف دولار، اضطرت لقبولها بضغط الحاجة. عاشت وعائلتها بهما عامين، انتهى زواجها، عادت إلى بيروت، دخلت تطلب الغفران من والدها، وعاشت في بيروت حتى الاحتلال الإسرائيلي. بعدها خطبها أبو العباس، وهكذا أصبحت مسئولة عن أربعة أطفال، ابنيها وابني أبو العباس من زواج سابق!
حدثها أحد رفاق زوجها أبو العباس يوم كانوا فى السجن الأمريكي في العراق: "دخلوا ومعهم النقالة، رفض أبو العباس الاستلقاء كما طلبوا، وأصر على السير معهم.. تمنيت له حظا طيباً، سار معهم ونحن نراه حتى وصل إلى باب غرفة الفحص الطبي، رأيته يقع أرضاً، أدركت أن النخلة قد سقطت.. وتمنيت له موتاً طيباً".
محمد زيدان أو أبو العباس هاجر والده إلى سوريا عندما كان جنيناً، درس وزملاء له تاريخ الثورة الفلسطينية، وقرروا إحياء جبهة التحرير العربية. سبب ذلك أن مؤسسها شفيق الحوت كان رجلاً شريفاً نال إعجابهم لأنه كان نظيف اليد والفكر. عدد كوادرهم لم يزد مطلقاً عن مئتين. وفي أول أعمالهم العسكرية تسلل ثلاثة من المقاتلين إلى الحمة في الجولان السورية المحتلة، واشتبكوا مع الخطوط الخلفية للقوات الإسرائيلية التي كانت تنفذ عملية غزو لبنان، وعرفت بعملية "الليطاني". العملية الثانية سمّوها عملية "كمال جنبلاط"، حيث قام ثلاثة من العناصر بالهبوط بطائرة شراعية فوق حي الجليل، اشتبكوا مع قوة إسرائيلية، جرأة المقاتلين أصابت الصهاينة بالشلل.
أما العملية التي لفتت الأنظار أكثر فقد كانت عملية "نهاريا"، إذ قام أربعة من عناصر الجبهة كلهم من العرب، ثلاثة سوريين من حمص والسويداء واللاذقية بقيادة سمير القنطار اللبناني ابن الستة، انطلقوا من صيدا مع الغروب في قارب صمموه ليتحرك بمحرك خارجي قوته خمسة وخمسون حصاناً، ما جعل سرعته تصل إلى ثمانين كيلومتراً في الساعة. وبحلول منتصف الليل كانوا قد وصلوا شاطئ مستعمرة نهاريا. كان هدفهم اختطاف إسرائيليين والعودة بهم أسرى إلى لبنان. المقاتل الأول قتل عند اقتحام الشقة الأولى، بينما اقتحم الثلاثة الآخرون شقة أخرى وأخذوا أباً وابنته رهينتين ليعودوا إلى قاربهم، وهناك اشتبكوا مع قوات جولاني، قُتل الرهينتان، وكذلك قُتل أحد المجاهدين بينما أُسر سمير قنطار وأحمد الأبرص، وقد حُكم عليهم بالسجن مدى الحياة، مضاف إليه 47 عاماً!
وقامت البحرية الإسرائيلية بالرد بقصف مخيم نهر البارد وقتل ثلاثة من سكانه المدنيين. كانت عمليات جبهة التحرير تتمتع بخيال كبير وبأساليب مستحدثة لم يسبق إليها أحد.
"الختيار" كان يتباهي بأبو العباس في مجالسه الخاصة، ولكنه أدانه بالإرهاب أمام العالم، وقال حين ظهرت أخبار اختطاف السفينة "أكيلي لاورو" إنه نفذ عملية إرهابية. ولكن أمام العالم حلقت شهرته في السماء، لكنها ليست الشهرة التي كان الرجل يرحب بها أبداً.