السبت 23 تشرين الثاني 2024

تراجع أستراليا عن صفقة الغواصات ليس الطعنة الوحيدة

النهارالاخباريه- وكالات

لم يكن رد فعل فرنسا على إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الضخمة مع باريس غضباً عادياً، بل وصل إلى مستويات غير مسبوقة تهدد علاقاتها مع أمريكا وبريطانيا وقبلهما أستراليا، فهل أصبحت الصناعات العسكرية الفرنسية مهددة بالخروج من المنافسة؟
صحيح أن فرنسا خسرت صفقة ضخمة تقدر بعشرات المليارات كانت قد وقعت اتفاقها بالفعل منذ سنوات مع أستراليا، لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي تتعرض فيها باريس لهذا الموقف في صفقات السلاح الضخمة، فقد حدث ذلك مع صفقة حاملات طائرات هليكوبتر "ميسترال" مع روسيا قبل أكثر من 10 سنوات.
والواضح أن "طعنة أوكوس"، حسب وصف فرنسا لمبادرة الشراكة الأمنية بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة والتي تم بموجبها إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بصفقة غواصات نووية توفرها واشنطن ولندن لكانبيرا، قد أعادت فتح جرح غائر في جسد قطاع الصناعات العسكرية الفرنسية المنهك بالفعل.
إلغاء صفقة "ميسترال" مع روسيا
وترجع قصة صفقة "الميسترال" إلى عام 2011، حين اتفقت باريس مع موسكو على أن تستورد الأخيرة حاملتي طائرات هليكوبتر من طراز "ميسترال" وبلغت قيمة الصفقة نحو 1.53 مليار دولار، ونصت على تسليم حاملة الطائرات الأولى عام 2014 والثانية عام 2015.
كما نصت الصفقة على أن تقوم روسيا بإنتاج حاملتي طائرات هليكوبتر من نفس الطراز الفرنسي بالتعاون مع قطاع الصناعات العسكرية الفرنسية. وكان قطاع صناعة السلاح الفرنسي في ذلك الوقت يواجه أزمة حادة بسبب تراجع الطلب على السلاح الفرنسي، ما أدى إلى خسارة آلاف الوظائف في ذلك القطاع.
لكن صفقة "المسترال" الفرنسية مع روسيا لم تعجب البعض في الجانب الآخر من الأطلنطي، وتقدم ستة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، منهم السيناتور الراحل جون ماكين، بمشروع قانون لإجبار إدارة باراك أوباما على التدخل لمنع تنفيذ الصفقة. وقالت إدارة أوباما، وكان الرئيس الحالي جو بايدن نائب الرئيس وقتها، إنها عبرت لباريس بالفعل عن قلقها من الصفقة لكن وسط إصرار فرنسا لأسباب اقتصادية، لم يكن هناك ما يمكن للإدارة الأمريكية أن تفعله.
وهكذا بدا أن الصفقة في طريقها بالفعل لأن تتم، لكن في عام 2014 أتت الرياح بما لا تشتهي سفن باريس، حيث أقدمت روسيا على غزو شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ففرضت واشنطن عقوبات على موسكو، كان من بينها حظر تصدير السلاح.
واضطرت فرنسا إلى الإعلان عن تأجيل تسليم حاملة الطائرات الأولى، وسط اعتراض روسيا بالطبع، وفي نهاية المطاف ومع تزايد الضغوط الأوروبية والأمريكية اضطر الرئيس الفرنسي وقتها فرانسوا أولاند إلى إلغاء تسليم حاملتي الطائرات، وأعادت باريس لموسكو قيمة الصفقة كاملة وهي 1.53 مليار دولار، لتنتهي الصفقة بخسارة كبيرة لفرنسا.
تراجع الصناعات العسكرية الفرنسية
وكان قطاع الصناعات العسكرية الفرنسية في ذلك الوقت، وقت الاتفاق على صفقة الميسترال لروسيا، يواجه أزمة عنيفة فقد على إثرها أكثر من 30 ألف عامل وظائفهم، من نحو 300 ألف يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة السلاح الفرنسي.
وكانت أسباب تلك الأزمة خليط من تراجع الطلب على السلاح الفرنسي بشكل عام منذ نهاية الحرب الباردة، واتجاه حكومة جاك شيراك إلى تقليص عجز الميزانية ما أدى إلى تخفيض ميزانية وزارة الدفاع بنحو 16% ونتج عن ذلك بالطبع تراجع الطلب على السلاح للجيوش البريطاني.
وعلى الرغم من التعافي النسبي لصناعة السلاح في فرنسا خلال الفترة من 2011 حتى 2020، إلا أن دخول ألمانيا بقوة ضمن قائمة مصدري السلاح الأكبر عالمياً، إضافة إلى زيادة حصة الولايات المتحدة الأمريكية من 32% من صادرات السلاح عالمياً إلى 37% خلال تلك الفترة، قد أدى إلى تقليص حصة فرنسا التي تراجعت إلى 8.2% مقابل استعادة روسيا للمركز الثاني عالمياً بحصة بلغت نحو 22%.
وفي ظل هذا التنافس الشرس بين الدول الكبرى في مجال التصنيع العسكري، بذلت فرنسا جهوداً دبلوماسية مرهقة وممتدة على مدار سنوات، ليس فقط بهدف التوصل إلى صفقة الغواصات التقليدية لأستراليا والتي تبلغ قيمتها نحو 65 مليار دولار، ولكن أيضاً بهدف تأسيس شراكة أمنية بين الجانبين تجعل فرنسا المورد الأول للسلاح وتقنيته إلى القارة الأسترالية.
وبالتالي لم تكن صفقة الغواصات الملغاة مجرد عقد لتوريد 8 غواصات فرنسية إلى أستراليا، بقدر ما كان شراكة استراتيجية ممتدة كانت ستوفر شرياناً رئيسياً لعدد كبير من الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة وخلق مئات الآلاف من الوظائف على مدى 50 عاماً قادمة، بحسب خبراء التسليح الفرنسيين المطلعين على الصفقة الملغاة.
هل وجهت أمريكا ضربة قاصمة للسلاح الفرنسي؟
وترسم هذه الصورة رؤية أكثر عمقاً لحجم الغضب الفرنسي بعد الإعلان عن "أوكوس"، والذي يبدو أن خطوة استدعاء باريس لسفيريها في واشنطن وكانبيرا بناءً على طلب مباشر من الرئيس إيمانويل ماكرون ليست نهايته وإنما بدايته، فالقصة هنا تتعلق بضربة قاصمة وجهتها إدارة بايدن لقطاع الصناعات العسكرية الفرنسية، بحسب وصف تقرير موقع Firstpost حول أزمة السلاح الفرنسي حالياً بعنوان "من الغواصات إلى حاملات الطائرات: كيف دمرت الولايات المتحدة الصناعات العسكرية الفرنسية".
لكن إذا كانت صفقة حاملات الطائرات "ميسترال" إلى روسيا قد تم إلغاؤها بقرار فرنسي لأسباب ربما تكون الظروف السياسية وقتها قد فرضتها، ويمكن للبعض أن يبرّئ واشنطن من النهاية المؤلمة التي آلت إليها الصفقة وخسائرها المتعددة بالنسبة للفرنسيين، فالأمر بالطبع لا ينطبق بالمرة على إلغاء صفقة الغواصات الأسترالية.
فإدارة بايدن كانت تدرك تماما أن الفرنسيين قد وقعوا بالفعل على صفقة الغواصات مع الأستراليين، والأمر لم يكن فيه أي قدر من السرية من جانب أي من أطرافه، وبالتالي فإن أستراليا لم تكن لتقدم على تلك الخطوة وبتلك الطريقة التي تم بها الإعلان عنها، إلا بتدخل مباشر "وإغراءات" قدمتها إدارة بايدن ومعها بالطبع الحكومة البريطانية برئاسة بوريس جونسون.
وفي هذا السياق، يمكن تماماً تفهم استخدام السفير الفرنسي لدى أستراليا لفظ "الخيانة" لوصف ما حدث في صفقة الغواصات. جان بيير تيبوو السفير الفرنسي لدى أستراليا قال إن بلاده "قد تعرضت للخداع المتعمد على مدار عام ونصف"، مضيفاً أن "الجريمة تم التخطيط لها من خلال مفاوضات سرية ترقى إلى درجة الخيانة من خلال استعمال لغة مزدوجة وأساليب ملتوية"، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
وكان وزير الخارجية الفرنسي لودريان قد استخدم أوصافاً شبيهة، في أول رد فعل من باريس على إعلان مبادرة "أوكوس"، حيث قال إن ما حدث (إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية) "طعنة في الظهر"، وأن ما حدث من جانب إدارة بايدن تصرف "يليق بترامب"، في إشارة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي شهدت علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين شرخاً عميقاً خلال رئاسته.
وبالتالي فإن صدمة فرنسا الكبرى ليست فقط إلغاء أستراليا صفقة الغواصات معها، فالأمر أكثر عمقاً وأبعد أثراً ذلك، إذ إن الصفقة بالنسبة لباريس كانت تعني إقامة شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع كانبيرا تعطي مزيداً من القدرة التنافسية للصناعات العسكرية.
وفي هذا السياق، قال بيتر ريكتس السفير البريطاني السابق لدى فرنسا، لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إن الأزمة الحالية "ليست مجرد خلاف دبلوماسي، واستدعاء السفيرين هو غيض من فيض. لدى فرنسا شعور عميق بأنها تعرضت لخيانة؛ فالمشكلة ليست صفقة أسلحة فحسب".
وأوضح أن "فرنسا كانت تقيم شراكة استراتيجية مع أستراليا، والأستراليون ضربوا بهذه الشراكة عرض الحائط وتفاوضوا من وراء فرنسا مع الحليفين في الناتو (حلف شمال الأطلسي)، الولايات المتحدة وبريطانيا، واستعاضوا عن تلك الصفقة بأخرى مختلفة تماماً".
ولا يمثل إلغاء صفقة الغواصات مع فرنسا واستبعادها من تحالف "أوكوس" انتكاسة كبيرة لاستراتيجية باريس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحسب، لأن تلك الشراكة كان من المفترض أنها تشمل الهند أيضاً، وهو ما يهدد صفقات أخرى موقعة أو تعمل شركات دفاعية فرنسية على الاستحواذ عليها في المنطقة، لا سيما مع الهند واليابان.
ويرى كثير من المراقبين أن تداعيات إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، وهي الحلقة الأحدث فيما يصاحب صفقات السلاح الفرنسي من جدل، بعد صفقة "الميسترال" لروسيا وأيضاً صفقات الرافال لمصر والتي أثارت انتقادات عنيفة لباريس والقاهرة أيضاً، ستكون له تداعيات سلبية متصاعدة على صادرات السلاح الفرنسي بشكل عام.