السبت 23 تشرين الثاني 2024

النفاق العالمي بعد وصول طالبان للحكم

النهارالاخباريه- وكالات 
منذ أن سيطرت طالبان على أفغانستان، أصبح الهم العالمي وقلقه الوجودي يتشكل كسحابة فوق جبال الهندكوش، وكأن طالبان هي التي تملك أسلحة الدمار الشامل والمصانع الباعثة للغازات القاتلة، أو هي التي تهدد الحياة البرية والبحرية بالاستهلاك البشع، أو أنها المنتج الأول للبلاستيك حول العالم، أو أنها المالك النافذ داخل الأوبك، أو أنها هي التي تستغل عمال الفلبين وتايوان في معامل تحت الأرض بأسعار بخسة وفي ظروف بشعة، أو أنها هي التي تقوم ببيع وشراء المراهقات اللاتينيات في حاويات مغلقة لاستغلالهن في الدعارة، أو أنها هي التي تقوم بتغيير التركيبة الكيماوية لعشبة الكوكا لصناعة مخدر أبيض يقتل كل يوم 1 من مليون شخص بجرعة زائدة، أو أنها هي التي تملك شركات التبغ التي تتسبب في وفاة عشرة ملايين شخص تقريباً كل عام، أو أنها الصانع الأول للمبيدات الفلاحية والأسمدة الكيماوية التي تهدد الغطاء النباتي والتربة والفرشات المائية، أو أنها القائم الأعلى على إنتاج المأكولات المعلبة التي تسبب السرطان بالدرجة الثانية بعد التبغ.
لماذا العالم منافق بهذا الشكل؟ لماذا يتم التغاضي عن احتلال إرهابي بكل المعايير الإنسانية والكونية، يستولي على أراض شعب مستضعف؟ بينما يتم التركيز على جماعة حررت بلدها من استعمار غاشم دام عشرين حولاً؟ هل الأمر يتعلق فقط بالشريعة الإسلامية؟ أم بحقوق النساء؟ ماذا عن حقوقهن في المعامل الصينية والأمريكية والأوروبية؟ ماذا عن استغلالهن في الإعلانات التجارية كدمى مثيرة للشهوة الجنسية؟ ماذا عن الأفلام الإباحية؟ ماذا عن الدعارة المنظمة والمقننة؟ ماذا عن الـ Dark Web الذي يتضمن ما يطابق أسواق النخاسة؟
أيتعلق الأمر حقاً بالإرهاب؟ لنعد إذن إلى الأسس الأولى له، لحسن الحظ أن الوثائق التاريخية لا تزال تؤكد أن المصطلح ظهر أول مرة كعملية وكمفهوم في "فرنسا الأنوار"، ظهر في الفترة التي سُميت "عهد الإرهاب" مع اليعاقبة بزعامة روبسبير، الذين -أي اليعاقبة- قتلوا رفقاءهم في الثورة (الجيروند) وأُثاروا الرعب في فرنسا، فكان كل من يعارض طريقة تسيير البلد يُقاد إلى المقصلة بدون محاكمة ولا شفقة. 
هذا الإرهاب الليبرالي تحوّل إلى إرهاب خارجي بالاستعمار المبرر بنشر مبادئ الثورة. لن ننسى كم قتل ليوبولد الثاني ملك بلجيكا في الكونغو ولن ننسى الحدائق البشرية التي أقيمت لتأكيد نظرية التطور والتفوق العرقي للرجل الأبيض. الإٍرهاب الليبرالي لا يزال مستمراً لكن بربطات عنق، فمن ألقى الولد الصغير والرجل البدين بهيروشيما وناكازاكي ليس بطالبان، وإنما ليبرالي يحكم الولايات المتحدة ويتحدث عن قلقه حول حقوق الإنسان.
أما اليساري الحقيقي، الذي تربى بشعار "الثورة من أجل نقل الإنسان من الاغتراب إلى ملكوت الحرية" فقد كان العنف الثوري جزءاً من عقيدته، فعداوته للنظام الرأسمالي لا يحلها بالنسبة له سوى التدمير الكلي "تقريباً" للنسق الرأسمالي، لتعويضه بنظام اشتراكي، فكم من يساري حقيقي تم اتهامه بالإرهاب ابتداءً من تروتسكي وتلميذه اليوناني ميشيل رابتيس مروراً بجورج حبش وصولاً إلى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري (الذي تم اتهامه بتأسيس منظمة إرهابية تسمى الألوية الحمراء).
طبعاً، التفجيرات الانتحارية (الفدائية بلغة منظمة التحرير الفلسطينية) كانت ابتكاراً يسارياً، كما يؤكد الدبلوماسي البريطاني السابق كارن روس، ولم تتبناها تنظيمات القاعدة وطالبان وغيرها من التنظيمات الإسلامية إلا بعد أن لاحظوا نجاعتها.
اليساري الحقيقي، لا يعترف بالديمقراطية الاجتماعية (أو الاشتراكية الديمقراطية)، لأنه يعتبرها مجرد عقلية إصلاحية تحافظ على نظام رجعي، لهذا يجد في العنف الراديكالي عقيدته التي لابد من ممارستها حتى يتجاوز المرحلة التاريخية الراكدة إلى مرحلة أخرى تقود إلى الجنة فوق الأرض.
ولكن وبعد أن تم ترويض اليسار من طرف النظام العالمي وصار مجرد قطعة من اللعبة السياسية فلم يعد مصطلح "العنف الثوري" سوى عمليات إجرامية محصورة في الجامعات، أو أنها سلوك همجي لا إنساني في الجرائد اليسارية الحالية نفسها، حتى أن الأحزاب العمالية والنقابات صارت أكثر اعتدالاً، حتى صار التفوه بمصطلح "العنف الثوري" لديها انحرافاً سلوكياً.
ولكي لا يختلط عليكم التحليل بالمرافعة، فأنا هنا لا أقود عملية دفاع على عقيدة العنف الثوري أو عن الإرهاب، بل أوضح الارتباط الحقيقي للإرهاب كيف كان. وكيف يتم تغطية المشاكل الكبرى بمشاكل صغيرة، فلو أن حقاً العالم يهتم بوجوده وحقوق الإنسان لطرح سؤال حول الإنذار الأممي الأخير حول الاحتباس الحراري، الذي أكد فيه أن حرارة الأرض قد ارتفعت، وأن احتمال انخفاضه لم يعد وارداً، حتى ولو تخلصت البشرية من الوقود الأحفوري كاملاً، أما إن استمرت في استعماله، فسوف ترتفع حرارة الأرض أكثر وتنتشر الحرائق والفيضانات والأعاصير في كل القارات، ولن تنجو أي منها من الكارثة القادمة، أليس هؤلاء من يهددون المرأة وغيرها؟
الغرض من هذا المقال ليس دفاعاً عن طالبان وإنما توجيه الانتباه إلى النفاق العالمي وما يوازيه من نفاق محلي. كالذين ينتقدون التقليد التراثي السلفي دون تقديم إبداع جديد محلي، ويجترون التراث الغربي دون حتى الشعور بمذاقه.