استطاع تنظيم "القاعدة" تغيير العالم لكن ليس وفق توقعاته
في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، نفذ تنظيم "القاعدة" أكبر هجوم إرهابي دموي تتعرض له الولايات المتحدة من الخارج على الإطلاق. بالنسبة إلى أسامة بن لادن والرجال الآخرين الذين خططوا له، لم يكن الهجوم مجرد عمل إرهابي، كان يمثل بالنسبة إليهم شيئاً أعظم بكثير؛ إطلاق حملة عنف ثوري من شأنها أن تُبشر بعصر تاريخي جديد. وعلى الرغم من أن بن لادن كان يتصرف وفق دوافع دينية، فإن أهدافه كانت جيوسياسية. كانت مهمة "القاعدة" تتمثل في تقويض النظام العالمي المعاصر للدول القومية وإعادة إنشاء الأمة التاريخية؛ أي المجتمع العالمي الذي كان يجمع المسلمين ذات يوم تحت سلطة سياسية مشتركة. لقد اعتقد بن لادن أنه يستطيع تحقيق هذا الهدف من خلال توجيه ما وصفه بـ"الضربة القاضية" التي ستجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها العسكرية من الدول ذات الأغلبية المسلمة، ما سيسمح للمتطرفين بمحاربة الأنظمة الاستبدادية في تلك الأماكن على أساس متكافئ.
ظهرت رؤية بن لادن للعالم وما كان يفكر فيه من وراء هجوم 11 سبتمبر في مجموعة من الاتصالات الداخلية التي تم الحصول عليها في مايو (أيار) 2011، عندما قتلت قوات العمليات الخاصة الأميركية بن لادن خلال غارة على المجمع الذي قضى فيه سنواته الأخيرة مختبئاً في مدينة أبوت آباد الباكستانية. في السنوات التي تلت ذلك، رفعت الحكومة الأميركية السرية عن بعض الوثائق، لكن الجزء الأكبر منها ظل تحت تصرف مجتمع الاستخبارات.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، رفعت وكالة المخابرات المركزية السرية عن 470 ألف ملف رقمي إضافي، بما في ذلك ملفات صوتية وصور ومقاطع فيديو ونصوص مكتوبة. وبمساعدة باحثين مساعدين، تصفحت أكثر من 96 ألف من هذه الملفات، بما في ذلك ما يقرب من 6 آلاف صفحة من النصوص العربية التي تشكل سِجلاً لاتصالات "القاعدة" الداخلية بين عامي 2000 و2011، التي قضيت السنوات الثلاث الماضية في تحليلها. وتتكون هذه الوثائق من مذكرات بن لادن ومراسلاته مع شركائه، ورسائل كتبها أفراد من عائلته، ومذكرة مكتوبة بخط اليد من 220 صفحة تحتوي على نصوص المناقشات داخل المُجمّع بين أفراد عائلة بن لادن المباشرة خلال الشهرين الأخيرين من حياته. وتقدم الوثائق لمحة فريدة عن تفكير بن لادن وصورة حول "الحرب على الإرهاب" الأميركية من منظور الهدف الرئيس لتلك الحرب.
كان بن لادن يفكر في شن هجوم داخل الولايات المتحدة لعقود قبل 11 سبتمبر. بعد عدة سنوات، وفي محادثات مع أفراد عائلته ذكر أنه في عام 1986، اقترح للمرة الأولى ضرورة شن هجمات "داخل أميركا" انتقاماً لمحنة الفلسطينيين، لأنه في ذهن بن لادن، كان دعم الولايات المتحدة هو الذي سمح بإقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية. كان اهتمام بن لادن بالفلسطينيين حقيقياً، وكثيراً ما ذكر رفاقه بأن "سبب إعلان التنظيم" هو معاناة الفلسطينيين، لكن الفلسطينيين غالباً ما شكّلوا البديل المناسب للمسلمين في جميع أنحاء العالم، الذين صورهم بن لادن كضحايا جماعيين للاحتلال والقمع الأجنبي. ففي البيان الذي صدر في عام 1996 وأصبح معروفاً في الأوساط المتطرفة باسم "الرسالة اللادنية،" أبدى بن لادن حزنه على المسلمين الذين "أريقت دماؤهم" في أماكن بعيدة مثل الشيشان والعراق وكشمير والصومال. قال "إخواني المسلمين في العالم، إخوانكم في أرض الحرمين وفلسطين يدعونكم للمساعدة ويطلبون منكم المشاركة في القتال ضد العدو، عدوكم الإسرائيليون والأميركيون". كان بن لادن يأمل أن تكون هذه المعركة الجماعية هي الخطوة الأولى في إعادة (إحياء الأمة).
سرعان ما اتضح أن بن لادن مستعد لدعم أقواله بالأفعال. في عام 1998، نفذ تنظيم "القاعدة" تفجيرات متزامنة استهدفت سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ما أسفر عن مقتل 224 شخصاً وإصابة أكثر من 4 آلاف آخرين. وبسبب الاهتمام الدولي الواسع الذي حظيت به تلك الضربات، أصبح بن لادن أكثر طموحاً. في 12 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2000، استهدف "القاعدة" المدمرة الأميركية "يو أس أس كول" (USS Cole) بزورق متفجر اصطدم بها بينما كانت تتزود بالوقود في ميناء عدن في اليمن، ما أسفر عن مقتل 17 من أفراد البحرية الأميركية. بعد ذلك بوقت قصير، أخبر بن لادن حشداً كبيراً من المؤيدين أن الهجمات تمثل "نقطة تحول حاسمة في تاريخ صعود الأمة نحو سمو أعظم".
تتضمن أوراق أبوت آباد ملاحظات مكتوبة بخط يد بن لادن عام 2002، وكشفت عن "ولادة فكرة 11 سبتمبر". لقد كشفت عن أن بن لادن قرر مهاجمة الوطن الأميركي في أواخر أكتوبر 2000، في غضون أسابيع من الهجوم على المدمرة الأميركية "كول". كما كشفت عن أسبابه في اختيار ذلك التوقيت، حيث كان بن لادن يعتقد أن "العالم الإسلامي بأكمله يخضع لحكم أنظمة التجديف والهيمنة الأميركية". ولقد كان الهدف من هجوم الحادي عشر من سبتمبر "كسر الخوف من هذا الإله الزائف وتدمير أسطورة المناعة الأميركية".
لم يتوقع بن لادن أبداً أن تخوض الولايات المتحدة الحرب رداً على 11 سبتمبر
بعد نحو أسبوعين من الهجوم، أصدر بن لادن بياناً قصيراً في شكل إنذار موجه إلى الولايات المتحدة، أعلن فيه "وأما أميركا فأقول لها ولشعبها كلمات معدودة: أقسم بالله العظيم الذي رفع السماء بلا عمد لن تحلم أميركا ولا من يعيش فيها بالأمن قبل أن نعيشه واقعاً في فلسطين وقبل أن تخرج جميع الجيوش من أ(رض محمد)". كان للهجوم تأثير مهيج، وفي السنوات التي تلت ذلك مباشرة، التزم الآلاف من الشباب المسلمين حول العالم طرقاً مختلفة بقضية بن لادن. لكن القراءة الدقيقة لمراسلات بن لادن تكشف عن أن الإرهابي الأكثر شهرة في العالم كان جاهلاً بحدود صنعته.
ولد بن لادن في عام 1957 في السعودية. كان والده قطباً ثرياً في مجال البناء، واشتهرت شركته ليس فقط بالقصور الفخمة، ولكن أيضاً بترميمها الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة. نشأ في بيئة مريحة لا ينقصه شيء، وأصبح شاباً متزناً يهوى المشاركة في القضايا السياسية في جميع أنحاء العالم الإسلامي. ومن مآثره المتطرفة المبكرة، القتال في أفغانستان في الثمانينيات والمساعدة في تمويل والتنسيق بين المتطرفين الذين حاربوا الاحتلال السوفياتي لذلك البلد. ولقد أظهر أنه تعلم بعضاً من ريادة الأعمال والإدارة من الشركة العائلية. وعلى الرغم من أن مراسلات بن لادن تشير إلى أنه كان على دراية جيدة بالتاريخ الإسلامي، ولا سيما الحملات العسكرية للنبي محمد في القرن السابع، فلم يكن لديه سوى فهم روتيني للعلاقات الدولية الحديثة.
انعكس ذلك في هجمات 11 سبتمبر نفسها، التي مثلت سوء تقدير جسيماً، إذ لم يتوقع بن لادن أبداً أن تخوض الولايات المتحدة الحرب رداً على تلك الهجمات. في الواقع، توقع أن يخرج الشعب الأميركي إلى الشوارع في أعقاب الهجوم، ليكرر الاحتجاجات ضد حرب فيتنام ويدعو حكومته إلى الانسحاب من الدول ذات الأغلبية المسلمة. وبدلاً من ذلك، احتشد الأميركيون خلف الرئيس جورج دبليو بوش و"حربه على الإرهاب". في أكتوبر 2001، عندما غزا تحالف تقوده الولايات المتحدة أفغانستان لمطاردة "القاعدة" وإزاحة نظام "طالبان"، الذي استضاف الجماعة الإرهابية منذ عام 1996، لم تكن لدى بن لادن أي خطة لتأمين بقاء منظمته.
تبين أن هجوم الحادي عشر من سبتمبر كان انتصاراً باهظ الثمن بالنسبة إلى "القاعدة". تحطمت المجموعة في أعقاب انهيار نظام "طالبان" مباشرة، وقُتل أو أُسر معظم قادتها الكبار. لجأ الباقون إلى المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية في باكستان، وهي منطقة حكم ذاتي على الحدود مع أفغانستان. أصبح الاختباء طريقة حياة بالنسبة إليهم، وتكشف اتصالاتهم عن أنه طوال حياة بن لادن لم يستعد تنظيم "القاعدة" أبداً القدرة على شن هجمات في الخارج. (صحيح أن الجماعة نفذت هجمات في نوفمبر 2002 في كينيا، لكنها نجحت في ذلك فقط لأن العناصر المكلفة بالتخطيط لها تم إرسالهم إلى شرق أفريقيا في أواخر عام 2000 وأوائل عام 2001، قبل أن تنهار القاعدة كلياً في أفغانستان). بحلول عام 2014، وجد خليفة بن لادن، أيمن الظواهري، نفسه أكثر انشغالاً بنزع الشرعية عن تنظيم "داعش"، الجماعة الإرهابية التي تجاوزت "القاعدة" في النهاية، أكثر من انشغاله بحشد المسلمين ضد الهيمنة الأميركية. ومع ذلك، من المستحيل أن ننظر إلى الوراء في العقدين الماضيين وألا نندهش من مدى نجاح مجموعة صغيرة من المتطرفين بقيادة شخص كاريزمي خارج عن القانون من التأثير في السياسة العالمية. لقد غيّر بن لادن العالم بالفعل، ولكن ليس بالطريقة التي كان يريدها.
رسائل إلى إرهابي في منتصف العمر
بعد الفرار إلى باكستان عقب هزيمة "طالبان" ألقت السلطات القبض على العديد من مقاتلي "القاعدة" ونشطائه. وخوفاً من أي يلقوا المصير نفسه، عبر قادة "القاعدة" المتبقون والعديد من أفراد عائلة بن لادن سراً الحدود إلى إيران أوائل عام 2002. وبمجرد وصولهم، تلقوا المساعدة من قبل متشددين سنة ساعدوهم على استئجار منازل باستخدام وثائق مزورة. لكن بحلول نهاية عام 2002، تعقبت السلطات الإيرانية معظمهم ووضعتهم في سجن سري تحت الأرض. لاحقاً، تم نقلهم إلى مجمع يخضع لحراسة مشددة مع نسائهم وأطفالهم.
في عام 2008، هرب سعد، نجل بن لادن، من إيران وكتب رسالة إلى والده يشرح فيها بالتفصيل كيف تجاهلت السلطات الإيرانية مراراً الظروف الصحية لمعتقلي "القاعدة"، وكيف "تراكمت المصائب وازدادت المشاكل النفسية". وعندما احتاجت زوجة سعد إلى المساعدة أثناء الولادة لم يتم نقلها إلى المستشفى إلا بعد أن "توقف الجنين عن الحركة في بطنها"، وقد أُجبرت على "وضعه فقط بعد وفاته". كان سعد مقتنعاً بأن الإيرانيين "أساتذة في جعلنا نفقد أعصابنا، وكانوا يتلذذون بتعذيبنا نفسياً". كانت ظروف جماعة بن لادن في إيران يائسة إلى درجة أنه عندما تم إطلاق سراح القائد المتطرف الليبي، أبو أنس السبيعي، في عام 2010، كتب الأخير إلى بن لادن يقول إن "إيران هي المكان الذي يسود فيه الشيطان الأعظم". وأضاف أن الاحتجاز هناك بدا كأنه "المنفى من الدين"، معترفاً أنه توسل حتى لآسريه الإيرانيين من أجل ترحيله إلى "أي دولة أخرى، حتى لو كانت إسرائيل".
لم يكن بن لادن على دراية بهذه المتاعب أثناء حدوثها. وتُظهر أوراق أبوت آباد أنه أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان، اختفى بن لادن ولم يكن يقود "القاعدة" لمدة ثلاث سنوات، على الرغم من استمراره في إصدار تصريحات علنية تشيد بهجمات في إندونيسيا والكويت وباكستان وروسيا وتونس واليمن. لم يتمكن بن لادن من استئناف الاتصال بقادة الصف الثاني في "القاعدة" حتى عام 2004، وكان حريصاً على إطلاق حملة جديدة للإرهاب الدولي. ففي إحدى الرسائل الأولى التي أرسلها بعد إعادة الاتصال معه، حدد بشكل منهجي خططاً لتنفيذ "عمليات شبيهة بهجوم 11 سبتمبر في نيويورك". وإذا ثبت أن ذلك بات صعباً للغاية، فقد كانت لديه خططه البديلة لاستهداف خطوط السكك الحديدية.
لكن سرعان ما وضح له رفاقه حقيقة الوضع؛ فقد أصيب تنظيم "القاعدة" بالشلل، وتنفيذ مثل هذه العمليات غير وارد. في سبتمبر 2004، كتب زعيم من الصف الثاني يُعرف باسم "توفيق" رسالة إلى بن لادن، يصف فيها مدى صعوبة الأمور أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان مباشرة، وقال له "كانت آلامنا ومتاعبنا تفطر القلوب، وكان الضعف والفشل والافتقار إلى الهدف الذي حل بنا مروّعاً"، وأعرب عن أسفه لأن "غياب بن لادن وعدم قدرته على تجربة واقعهم المؤلم" قد غذى الاضطراب في حد ذاته. قال، "لقد تعرضنا نحن المسلمين للتدنيس، وتمزقت دولتنا. واحتُلت أراضينا. ونهبت مواردنا. هذا ما حدث (للجهاديين) بشكل عام، ولنا في تنظيم القاعدة بشكل خاص".
وأوضح زعيم آخر من الصف الثاني اسمه "خالد الحبيب" في رسالة إلى بن لادن أنه خلال غيابه الذي دام ثلاث سنوات، كانت "إنجازاتهم في ميدان المعركة ضئيلة للغاية". وقد أحصى ما مجموعه ثلاث "عمليات متواضعة للغاية، معظمها بالقذائف، ومن مسافة بعيدة". ولقد أخبر مراسل آخر بن لادن أن "العمل الخارجي" لـ"القاعدة"؛ أي الهجمات في الخارج، قد "توقفت" بسبب الضغط المستمر الذي تمارسه باكستان عليهم. كما لو أن هذا لم يكن سيئاً بما فيه الكفاية، علم بن لادن أن "القاعدة" قد تخلى عنه معظم المتعاطفين السابقين من الأفغان و"طالبان"، واشتكى "حبيب" قائلاً "90 في المئة منهم تم إغراؤهم بالدولار اللامع".
شريان الحياة لـ"القاعدة"
في الفترة التي تمكن فيها بن لادن من إعادة الاتصال برفقائه، بدأت الأمور تتحسن بالنسبة إلى "القاعدة". بعد أن أطاح التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة "طالبان" من السلطة في أفغانستان، كانت المرحلة التالية من حرب بوش على الإرهاب هي غزو العراق عام 2003، البلد الذي يحكمه طاغية علماني اسمه صدام حسين، الذي كان ينظُر بعدائية للمتطرفين. وضع الغزو الذي قادته الولايات المتحدة نهاية سريعة لحكم صدام الوحشي، لكنه أدى أيضاً إلى حل الجيش العراقي وتفريغ المؤسسات الحكومية العلمانية الأخرى. في البداية، تحمل السنة العرب، وهم الأقلية التي هيمنت على العراق في عهد صدام، نصيب الأسد من العنف الطائفي الذي أعقب الغزو. وقد ثبت أن هذا كان شريان الحياة لـ"القاعدة" والجماعات المتطرفة الأخرى، التي تمكنت من تنصيب نفسها مدافعة عن السنة. وكما قال حبيب في رسالته عام 2004 إلى بن لادن "عندما علم الله ببلائنا وعجزنا، فتح لنا باب الجهاد والأمة بأكملها في العراق".
كان حبيب يشير على وجه التحديد إلى صعود أبو مصعب الزرقاوي، الإرهابي الأردني، الذي برز في أعقاب الغزو الأميركي. بحلول عام 2004، كان الزرقاوي، وليس بن لادن، زعيم أقوى جماعة متطرفة في العالم. بصرف النظر عن التزامهما المشترك بالتشدد العنيف، لم تكن هناك سوى قليل من القواسم المشتركة بين الرجلين. فبينما حظي بن لادن بنشأة مميزة، نشأ الزرقاوي فقيراً، وقضى بعض الوقت في السجن، ولم يبرز كمتطرف ديني فحسب، بل ظهر أيضاً كمدان سابق متشدد وبلطجي وحشي. على الرغم من الهوة الشاسعة بين الرجلين، كان الزرقاوي حريصاً على اندماج جماعته، جماعة "التوحيد والجهاد"، مع "القاعدة". وفي سلسلة من الرسائل إلى بن لادن، أوضح الزرقاوي أن أتباعه هم "أبناء الأب"؛ أي بن لادن، وأن مجموعته كانت مجرد "فرع من الأصل". كما أكد الزرقاوي لقادة "القاعدة" أنه يتعاون مع ويسعى إلى توحيد كل الفصائل المتطرفة في العراق.
تقدم وثائق بن لادن صورة "الحرب على الإرهاب" وفق رؤية تركز على الهدف الرئيس من الحرب
أسعدت حماسة الزرقاوي بن لادن، الذي كتب إلى نائبه الظواهري وإلى توفيق قائلاً "إن اندماج جماعة التوحيد والجهاد [سيكون] هائلاً"، وحثهم على "إيلاء هذا الأمر اهتماماً كبيراً، لأنه خطوة كبيرة نحو توحيد الجهود". في ديسمبر (كانون الأول) 2004، أضفى بن لادن الطابع الرسمي على الاندماج من خلال تعيين الزرقاوي زعيماً لمجموعة جديدة، اسمها "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" (يشار إليها غالباً في وسائل الإعلام الغربية باسم القاعدة في العراق).
دفعت مبادرة الزرقاوي في نهاية المطاف الجماعات الإرهابية في الصومال واليمن وشمال أفريقيا إلى الانضمام رسمياً إلى "القاعدة". لم تخرج هذه الجماعات بشكل مباشر من التنظيم الأصلي، لكن قادتها رأوا فوائد كثيرة في اكتساب العلامة التجارية لـ"القاعدة" المرهوب على الصعيد الدولي، لا سيما فرصة تحسين مكانتهم في أعين أتباعهم وجذب اهتمام وسائل الإعلام الدولية، وهو ما كانوا يأملون فيه. كما ستساعدهم في جمع الأموال وتجنيد أتباع جدد، وهو ما حدث فعلاً.
بسبب تركيزها على "القاعدة"، كانت سلطات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم تصنف غالباً جميع المتطرفين تحت مظلة واحدة، ما يمنح الأفراد الذين يرغبون في الارتباط ببن لادن، عن غير قصد، خيارات أوسع من الجماعات للانضمام إليه. وهكذا، على الرغم من تحطم تنظيم "القاعدة"، استمرت علامته التجارية من خلال أفعال الجماعات التي اشتغلت باسمه. كل هذا جاء من تحالف الزرقاوي مع بن لادن. في أوائل عام 2007، وصف رجل الدين المتطرف السعودي، بِشر البشر، الاندماج في رسالة إلى أحد كبار قادة "القاعدة" بأنها مثال على أن الله "أظهر رحمته للقاعدة" الذي كان سينتهي لولا "الانتصارات المذهلة في العراق، التي رفعت قيمة مخزون القاعدة". لقد كان تدخلاً إلهياً، حسب تقييمه، وجزاء من الله على تضحياتهم في سبيله.
الانهيار
افترض بن لادن أن أولئك الذين دانوا له بالولاء سيواصلون ذلك النوع من الهجمات ضد الولايات المتحدة التي كان "القاعدة" رائداً فيها. ولقد أعرب عن أمله في أن يؤدي نجاحهم إلى "رفع معنويات المسلمين، الذين سيصبحون بدورهم أكثر انخراطاً ودعماً للجهاديين" على حد تعبيره في رسالة إلى الظواهري وتوفيق في ديسمبر 2004.
مرة أخرى، أخطأ بن لادن في التقدير، إذ سرعان ما أدى قرار منح غطاء "القاعدة" إلى الجماعات التي كانت خارج سيطرته إلى نتائج عكسية. فقد فشل الزرقاوي في توحيد الجماعات الإرهابية في العراق تحت رايته، ورفضت جماعة أنصار السنة (المعروفة أيضاً باسم أنصار الإسلام) الاندماج معه. ولم يمض وقت طويل حتى وجد بن لادن وأتباعه أنفسهم في الطرف المتلقي للرسائل التي تدون الخلافات بين رفاقهم الجدد. واشتكى الزرقاوي في إحداها من أن "أنصار السنة ينشرون الأكاذيب عني، ويقولون إنني أصبحت مثل [عنتر] زوابري"، وهو زعيم جماعة جزائرية متطرفة مشهورة قُتل في عام 2002، الذي يعتبره العديد من الإرهابيين مفرطاً في التشدد حتى بمعاييرهم. وأضاف الزرقاوي قائلاً "هل يمكنك أن تتخيل؟!".
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى "القاعدة" من عويل الزرقاوي العبثي هو الهجمات العشوائية التي شنتها مجموعته، والتي أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة في العراق، بخاصة بين الشيعة. كان بن لادن يريد أن يتصدر "القاعدة" عناوين الصحف بقتل وجرح أميركيين، وليس مدنيين عراقيين - حتى لو كانوا شيعة، الذين اعتبرهم المتطرفون السنة زنادقة.
لم يتوقع بن لادن أبداً أن تخوض الولايات المتحدة الحرب رداً على 11 سبتمبر
من مخابئهم في باكستان والمناطق القبلية، كافح قادة "القاعدة" لتوحيد الجماعات المسلحة في العراق، التي أصبحت الآن في قلب الإرهاب العالمي. لكن الانقسامات بينهم أصبحت أكثر رسوخاً. حاول الظواهري التوسط بين الزرقاوي و"أنصار السنة" لكن جهوده باءت بالفشل. وأوضح "أنصار السنة" لـ"القاعدة" أن الوحدة مع الزرقاوي مشروطة بـ"تصحيح أساليب القاعدة في بلاد الرافدين". ولقد ازداد استياء عطية عبد الرحمن (يشار إليه عموماً باسم عطية)، الذي أشرف على الاتصالات والعلاقات الخارجية لـ"القاعدة" في ذلك الوقت، من قيادة الزرقاوي وكتب إلى بن لادن قائلاً "لا يمكننا أن نتركه يتصرف على أساس أحكامه وحده". وفي رسالة في ديسمبر 2005 اعترضتها المخابرات الأميركية، حث عطية الزرقاوي على "تقليل عدد الهجمات، وحتى خفض الهجمات اليومية الحالية إلى النصف، أو حتى أقل"، مشيراً إلى أن "أهم شيء هو الاستمرار ، وحرب طويلة لصالحنا".
سارت الأمور من سيء إلى أسوأ بالنسبة إلى "القاعدة" بعد مقتل الزرقاوي في غارة جوية أميركية في عام 2006. أعلن خلفاؤه عن تشكيل "داعش" في العراق من دون استشارة بن لادن أو الظواهري أو أي من كبار الشخصيات في "القاعدة". في عام 2007، توقف قادة التنظيم في العراق عن الرد على رسائل "القاعدة" تماماً، وهو صمت يعكس جزئياً حقيقة أن المتطرفين العراقيين قد بدأوا يفقدون قوتهم أمام ما أصبح يُعرف باسم الصحوة السنية، التي شهدت قيام القوات الأميركية بتشكيل علاقات مع شيوخ العشائر السنية من أجل مواجهة الإرهابيين.

تظاهرات احتجاجية في مدينة "كويتا" بباكستان عقب مصرع بن لادن في 2011 (رويترز)
مجريات الهوامش
لم تقتصر صراعات تنظيم "القاعدة" على الإدارة في العراق. في عام 2009، أطلقت مجموعة من المتطرفين في اليمن على أنفسهم اسم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" من دون تنبيه التنظيم الأم أو حتى إعلان الولاء علناً لابن لادن، ولقد أصبحوا مصدراً دائماً للصداع. في عام 2009 أو نحو ذلك، اعترف زعيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" المدعو قاسم الريمي في رسالة إلى قيادة "القاعدة" بأنه يعاني هو وكبار أعضاء التنظيم الآخرين قلة الخبرة و"أوجه قصور فيما يتعلق بالقيادة والإدارة". وأقر بأنه هو نفسه غير مؤهل "للحكم على متى وكيف وأين يضرب". لكن قلة الخبرة لم تمنع زعيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" ناصر الوحيشي، من الإعلان في عام 2010 عن رغبته في إعلان دولة إسلامية في اليمن. لقد تطلب الأمر قدراً كبيراً من البراعة من جانب كبار قادة "القاعدة" لثنيه عن ذلك.
من جانبه، شعر بن لادن بالاستياء من اعتبار "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" نفسها جماعة جهادية، ناهيك عن كونها تابعة إلى "القاعدة". وسأل بن لادن في مسودة رسالة وجهها إلى الوحيشي "هل خططت بالفعل وأصبحت مستعداً للجهاد؟ أم أن وجودكم هو نتيجة بعض الهجمات الحكومية التي ردَّ عليها الإخوة؟ وفي خضم هذا الرد، خطر ببالك أنه يجب عليكم الاستمرار؟". تظهر رسائل الوحيشي إلى بن لادن أنه منزعج من التوجيهات التي أعطته إياها القيادة. وعلى الرغم من تراجع الوحيشي عن إعلان الدولة الإسلامية، فإنه تحدى تعليمات كبار قادة "القاعدة" بالامتناع عن الهجمات الطائفية التي تستهدف الحوثيين في اليمن وكبح المواجهات العسكرية مع الحكومة اليمنية.
بالنسبة إلى بن لادن، كانت مجموعة شمال أفريقيا المسماة "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الأقل إثارة للمشاكل بين الجماعات الجديدة المنبثقة من "القاعدة". وعلى عكس فروعها الأخرى، لم ترغب في إعلان دولة إسلامية، وركزت بدلاً من ذلك على خطف رهائن غربيين للحصول على فدية أو لتحرير السجناء المتطرفين الذين تحتجزهم الحكومات الغربية. ولقد لاحظ بن لادن قدرة هذا التكتيك على التأثير في الجماهير الغربية، وبدا أنه يقدر النهج البراغماتي لزعيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، أبو مصعب عبد الودود. ومع ذلك، ونظراً إلى فشل بن لادن في التواصل مع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في الوقت المناسب (لأن اتصالاته كانت تعتمد على الجدول الزمني لساعي البريد)، فقد وصلت توجيهاته في كثير من الأحيان بعد فوات الأوان، وفي بعض الأحيان كانت تأتي بنتائج عكسية. في مناسبة واحدة في الأقل، انهارت المفاوضات حول إطلاق سراح الرهائن الغربيين التي كان من الممكن أن تفيد "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بسبب تدخل بن لادن.
بحلول عام 2009، سئم معظم كبار قادة "القاعدة" من انفلات الجماعات التابعة لهم. في ذلك العام، بالكاد ابتهج بن لادن عندما سعى مختار أبو الزبير، زعيم جماعة "الشباب" الصومالية، إلى الاندماج العلني مع "القاعدة". أراد الزبير أيضاً إعلان دولة إسلامية، لكن في رسالة موجهة إليه، أوضح له عطية بدقة أنه سيكون من الأفضل "الحفاظ على سرية ولائك للشيخ أسامة". من جانبه، رفض بن لادن الاندماج العام واقترح تقليص حجم تنظيم الزبير من دولة إلى إمارة، والقيام بذلك بهدوء. وكتب قائلاً "ميولنا هو أن تكون إمارتكم حقيقة يتعلق بها الناس من دون الحاجة إلى إعلانها". امتثل الزبير لرغباتهم، لكن رده يُظهر أنه كان مضطرباً، إذ أشار إلى أن "أعداءنا وأصدقاءنا يعتبروننا سلفاً جزءاً من القاعدة". بعد سنوات قليلة، اعترف الظواهري، الذي خلف بن لادن بعد وفاته، أخيراً بحركة الشباب جزءاً من تنظيم "القاعدة".
خلال العام الأخير من حياته، أعرب بن لادن عن أسفه لأن "إخوته" أصبحوا "عِبئاً" على (الجهاد) العالمي، وتحسر على كون بعض هجماتهم أسفرت عن "إصابات مدنية لا داعي لها". والأسوأ من ذلك، أن "الجمهور المسلم صُدم" بتلك الهجمات، ما دفع بن لادن إلى الاستنتاج أن الجيل الجديد من ضل طريقه.
أعطت ثورات "الربيع العربي" التي بدأت في شتاء 2010-2011 بن لادن بعض الأمل في البداية. أشاد بنجاح من سماهم "الثوار" الذين أسقطوا الأنظمة الاستبدادية في تونس ومصر وليبيا. لكن سرعان ما أصبح قلقاً. ففي محادثات مع عائلته، أعرب عن قلقه من أن "الثورات ولدت قبل الأوان" وعن أسفه لأن "القاعدة" والجماعات الأخرى كانت في الغالب على الهامش، واستسلم للوضع قائلاً "لا نستطيع إلا تكثيف الصلاة".
خلص بن لادن إلى أن الجيل الجديد من ضل طريقه
ومع ذلك، كان بن لادن مصمماً على "حماية هذه الثورات" وتقديم المشورة للمحتجين من خلال تصريحاته العامة. لكن تعليقه الوحيد على الربيع العربي خضع للمراجعة والتعديل 16 مرة قبل أن يتم تسجيله في مرحلة أولية. وقد تحملت ابنتاه، سمية ومريم، اللتان شاركتا فعلياً في تحرير معظم الرسائل العامة التي ألقاها بن لادن على مر السنين، الكثير من العبء الثقيل في تأليف النص. في أواخر أبريل (نيسان) 2011، كانتا تخططان لمنح الرسالة جولة أخرى من التعديلات قبل التسجيل النهائي، لكن الوقت قد نفد، إذ داهمت القوات الخاصة التابعة للبحرية الأميركية مجمع أبوت آباد قبل أن تتاح لهما فرصة تنقيح الرسالة. كانت حكومة الولايات المتحدة هي التي نشرت البيان، ربما للمساعدة في إثبات أن الغارة قد حدثت بالفعل وتقويض مزاعم أصحاب نظرية المؤامرة.
تم التخطيط للغارة وتنفيذها ببراعة. أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما وفاة بن لادن، قائلاً إن "العدالة تحققت". ومع القضاء على الرجل الذي يقف وراء هجمات 11 سبتمبر، وتحرك محتجين سلميين وعلمانيين في الغالب ضد طغاة الشرق الأوسط، بدا للحظة أن الحركة الإرهابية قد انتهى مفعولها، لكن تلك اللحظة أثبتت أنها عابرة.
خلافة لم تدم طويلاً
في واشنطن، تخلت إدارة أوباما عن مسمى "الحرب على الإرهاب" الذي أطلقه بوش. لكن أوباما حافظ على تركيز سلفه المفرط على "القاعدة"، وفشل فريقه في تمييز الانقسامات داخل الإرهاب، التي ثبت أنها كانت ذات أهمية. عندما اختار بوش خوض الحرب في العراق، بالغت إدارته في تضخيم علاقات "القاعدة" بالبلاد وفي تقدير فوائد مكافحة الإرهاب لإطاحة نظام صدام. من ناحيتها، بالغت إدارة أوباما في تقدير الآثار الإيجابية لمقتل بن لادن وانسحاب الولايات المتحدة من العراق على الحرب ضد الجماعات المتطرفة. في أكتوبر 2011، زعم أوباما أن "الانسحاب من العراق أتاح لنا إعادة تركيز معركتنا ضد القاعدة وتحقيق انتصارات كبيرة ضد قيادتها، بما في ذلك أسامة بن لادن". لكن في تلك اللحظة بالضبط، استعاد حليف "القاعدة"، تنظيم داعش في العراق، نشاطه بسبب جيل جديد من القادة، ولقد أخفقت إدارة أوباما والحكومات الغربية الأخرى في كشف الخطر المتزايد.

رؤية متشابكة تقدمها الوثائق التي عثر عليها في المخبأ الذي قتل فيه بن لادن (رويترز)
في عام 2010، أصبح تنظيم "داعش" في العراق تحت قيادة رجل عراقي لم يكن معروفاً من قبل أطلق على نفسه اسم أبو بكر البغدادي. وفّرت الطائفية والفساد في الحكومة العراقية أرضاً خصبة للتنظيم لإعادة البناء والنمو. في 2010-2011، شن البغدادي موجة من الاعتداءات الإرهابية على الشيعة والمسيحيين العراقيين. أثارت هذه الحملة حفيظة قادة "القاعدة"، وفي رسالة إلى بن لادن قبل أشهر من مداهمة أبوت آباد، كتب الظواهري قائلاً "لا أفهم. ألا يكتفي الإخوة بعدد أعدائهم الحاليين؟ هل هم يريدون إضافة أعداء جدد إلى قائمتهم؟". وحث بن لادن على الكتابة إلى قادة التنظيم وإرشادهم بوقف "استهداف الشيعة بشكل عشوائي" و"إنهاء هجماتهم ضد المسيحيين". لكن بن لادن لم يعد له أي تأثير في التنظيم العراقي لأن الأخير قد انفصل عن "القاعدة".
بين عامي 2011 و2013، تمدد "داعش" إلى سوريا بعد أن أقحم نفسه في الحرب الأهلية الدموية التي اندلعت هناك على أثر سحق نظام بشار الأسد انتفاضة الربيع العربي. في يونيو (حزيران) 2014، بعد أن احتل "داعش" مساحات شاسعة من الأراضي في كل من العراق وسوريا، أعلن المتحدث باسم الجماعة، أبو محمد العدناني، أن البغدادي هو زعيم الخلافة الجديدة، وأعاد التنظيم تسمية نفسه بـ(الدولة الإسلامية)، بعد إسقاط جميع المراجع الجغرافية من التسمية الأولى. دفع توسعه الإقليمي الجماعات المتطرفة في أكثر من 10 دول إلى مبايعة الخليفة الجديد. وبدوره، صنف "داعش" هذه الجماعات على أنها إما "ولايات" وإما "جنود الخلافة".
بعد مقتل بن لادن، استمر "القاعدة" في نشاطه بقيادة الظواهري، لكن "داعش" حجب عنه الأضواء بالكامل. ومع ذلك، مثلما كان بن لادن يجهل حدود الإرهاب، أثبت البغدادي أنه جاهل عندما يتعلق الأمر بإدارة دولة، ناهيك بـ"الخلافة" التي تهدف إلى احتلال دول أخرى من دون امتلاك طائرة مقاتلة واحدة. في سبتمبر 2014، شكلت إدارة أوباما تحالفاً من 83 دولة "لإضعاف داعش وهزيمته في نهاية المطاف". وبحلول عام 2016، بدأ "داعش" في الانهيار. واصلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب القتال، وانتزع التحالف في النهاية السيطرة على كل أراضي "داعش". لقد رفض البغدادي استراتيجية بن لادن في القتال من الظل، لصالح بناء الإمبراطورية، وتمكن من استبدال بن لادن كوجه للإرهاب العالمي. لكن الرجلين لقيا المصير نفسه. ففي أكتوبر من عام 2019، داهمت القوات الأميركية مجمع البغدادي في محافظة إدلب شمال غرب سوريا. طاردت الكلاب العسكرية الأميركية البغدادي في نفق مسدود، وعند محاصرته، فجر الخليفة سترة ناسفة، وأعلن ترمب أن "العالم الآن أصبح أكثر أمناً".
تتجه الأنظار كلها نحو أفغانستان بشأن المرحلة التالية من الصراع
عقم الإرهاب
ظل إعلان ترمب صحيحاً على مدى العامين الأخيرين منذ سقوط البغدادي، إذ لا يزال المشهد الإرهابي منقسماً. وعلى الرغم من أن التنظيمات المتطرفة لا تزال تتكاثر، فإنه لا توجد جماعة مهيمنة على النحو الذي كان عليه تنظيما "القاعدة" و"داعش". وتتراوح قدرات التنظيمات الحالية من مجرد التهديد أو إلقاء قنابل المولوتوف إلى تنفيذ عمليات انتحارية أو تفجير سيارات أو السيطرة على الأراضي - في الأقل لبعض الوقت.
عندما يتعلق الأمر بالمرحلة التالية من الصراع، فإن كل الأنظار تتجه نحو أفغانستان. يواصل "القاعدة" و"داعش" وعدد من الجماعات الأخرى نشاطها في البلاد، لكنها لا تظهر كثيراً في ظل الصراع الأكبر بين الحكومة الأفغانية و"طالبان"، اللتين تتصارعان من أجل السيطرة على البلاد في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة. في عام 2020، توصلت الولايات المتحدة و"طالبان" إلى اتفاق سلام تعهدت فيه "طالبان" "بمنع أي جماعة أو فرد، بما في ذلك القاعدة، من استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها".
هل ستفي "طالبان" بوعدها؟ استناداً إلى أوراق أبوت آباد، لم يكن كل أعضاء "طالبان" متساوين في نظر "القاعدة"، التي لطالما اشتبهت في أن بعض فصائل "طالبان" كانت تسعى إلى التقارب مع الولايات المتحدة. في وقت مبكر من عام 2007، كتب عطية إلى بن لادن أن هناك "قوات ضمن طالبان تنأى بنفسها عن القاعدة لتفادي اتهامها بالإرهاب". وفي عام 2010، أعرب الظواهري عن قلقه في رسالة إلى بن لادن من أن "طالبان" "مستعدة نفسياً"على ما يبدو لقبول صفقة من شأنها إضعاف "القاعدة". لكن بسبب الانقسام الداخلي منذ 11 سبتمبر، قد يكون من الصعب على قادة "طالبان" فرض الامتثال لشروط اتفاقهم مع الولايات المتحدة.
قد يبدو أن انقسام "طالبان" يمثل مشكلة مستعصية للولايات المتحدة. لكن تجارب "القاعدة" بعد الحادي عشر من سبتمبر تشير إلى أن هذا الانقسام نفسه سيعقد الأمور بالنسبة إلى الإرهابيين الذين يبحثون عن ملاذ في أفغانستان، إذ لن يضمن لهم حتى النظام المضيف المتعاطف معهم الملاذ الآمن. لقد تعلم بن لادن هذا الدرس بصعوبة، واكتشف البغدادي لاحقاً أن السيطرة على الأرض كانت أصعب. لكن واشنطن وحلفاءها أدركوا (أو في الأقل كان عليهم أن يدركوا) أن حرباً مفتوحة على الإرهاب لا طائل من ورائها، وأن سياسة مكافحة الإرهاب الناجحة يجب أن تعالج المظالم السياسية المشروعة التي يدعي "القاعدة" أنه يناصرها، مثل دعم الولايات المتحدة الديكتاتوريات في الشرق الأوسط.
لا يمكن لواشنطن أن تدعي النصر على "القاعدة" وأمثاله من التنظيمات التي تحتفظ بالقدرة على البقاء مصدر إلهام لهجمات مميتة، وإن كانت صغيرة الحجم. ومع ذلك، تبين خلال العقدين الماضيين مدى ضآلة ما يمكن أن تأمل الجماعات الإرهابية في تحقيقه. وكل ما يُمكن أن تحظى به هي فرصة كسب حياة أبدية في الجنة، بدلاً من تركيع الولايات المتحدة.