هناك حسابات استراتيجية جديدة يعتمدها كل من العملاقين الأمريكي والصيني بعد أن وصل الانسداد في التواصل بينهما إلى حد كاد يهدد بالتسبب بتوتر غير محسوب في أية لحظة. وبينما كان أول الكلام الذي قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن في القمة يتمحور حول ضرورة وجود حواجز أمان تمنع اندلاع نزاع بين البلدين؛ أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج أن مستوى التواصل بين الفريقين غير مرضٍ ويجب تحسينه خدمة للدولتين، ومن أجل البشرية جمعاء.
تقابل الرجلان فجر الثلاثاء عبر شاشة عملاقة، وكانا يعرفان بعضهما البعض منذ أن كان بايدن يتولى منصب نائب الرئيس في عهد باراك أوباما، ومن خلال اتصالات هاتفية. جين بينج أبدى سعادته باللقاء، وبايدن أعلن رغبته في عقد اجتماع شخصي ومباشر في المستقبل، وليس من خلال الشاشة فقط. ومن المؤكد أن جين بينج لديه مصلحة بالمهادنة مع الولايات المتحدة حالياً، بسبب قرب انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الذي سيمدد له رئاسته المستمرة منذ عام 2012 كما هو مرجح، ويبدو أن بايدن خرج من مكبلاته الداخلية التي أشغلته لما يقارب عشرة أشهر من ولايته، وأصبح بإمكانه التفرّغ أكثر لمعالجة التحديات الخارجية التي تواجه بلاده، وفي مقدمة هذه التحديات وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع المارد الصيني تختلف عن الخطط السابقة، لأن ما كان يصح للتعامل معها كقطب من عدة أقطاب عالميين متساوين، يختلف عما هو مطلوب اليوم، بعد أن صعدت الصين إلى المركز الأول في المنافسة مع الولايات المتحدة.
العقل الأمريكي يتعاطى مع الصين حالياً كما لو أنها اتحاد سوفييتي جديد، أي أنها تمتلك كل مقومات المنافسة الندية، وهناك مسافة متقدمة تفصلها عن الآخرين في مجال التطور الصناعي والبراعة التكنولوجية وفي سياق القدرات العسكرية التقليدية والنووية، وهي مُدعّمة بقوة اقتصادية ومالية متنامية، على عكس ما كان عليه الحال مع الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث كان التوازن بين واشنطن وموسكو قائماً في المجالات العسكرية والنووية، بينما كان الاقتصاد السوفييتي لا يتمتع بالقدرات الموازية.
الملفات التي وضعت على جدول أعمال قمة بايدن – جين بينج لم تكُن وحدها الحاضرة في المباحثات، لأن القضايا المتشعبة أخذت وقتاً، وربما يكون بعضها احتل صدارة النقاش. ففي جدول الأعمال أدرجت عناوين اقتصرت على موضوع التغييرات المناخية – وغياب الصين عن قمة جلاسكو – والملف النووي وإداراة الأزمات الإقليمية، ومنها ملف تايوان من دون أي ذكر لقضايا حقوق الإنسان، لأن الفريق الأمريكي لم يكُن لديه قرار باستفزاز الجانب الصيني، ولضمان نجاح وضع خطة استراتيجية جديدة تعتمد على تأسيس شيء من الثقة بين الفريقين تكفل تعزيز التواصل في الأزمات الطارئة، وربما إنشاء خط ساخن يستخدم عند الضرورة المُلحة، كما كان عليه الحال مع الاتحاد السوفييتي السابق.
كان واضحاً أن الحديث بين الرجلين تطرق إلى ملفات تفصيلية لم تدرج في جدول الأعمال، ومنها خصوصاً الجانب التجاري والتعاون التكنولوجي. وإطلاق سراح مينغ واترو مديرة شركة هاواوي للهواتف الذكية الصينية التي كانت سجينة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2018، لأن إطلاق سراح مينغ كان المُمهِد الرئيسي لتحديد موعد القمة، وربما لضمان نجاحها، ومن المعروف أن التنافس التجاري بين البلدين هو المعضلة الرئيسية المطروحة، خصوصاً بعد القيود التي وضعتها واشنطن على بعض الصادرات الصينية، ورد بكين بالتهديد بوقف التعامل بالدولار الأمريكي كعملة رئيسية لفتح الاعتمادات المستندية للصادرات والواردات.
ومما لا شك فيه أن ملف تايوان كان في طليعة الأزمات التي ركزت عليها القمة، إضافة إلى الخلافات حول جُزر بحر الصين الجنوبي وقضية كوريا الشمالية والاستقرار وسط آسيا. والجانب الصيني تقصّد أن تكون مناسبة انعقاد القمة فرصة للتأكيد على اهتمام بكين بالملفات الإقليمية الحساسة، وفي الإيحاء بأنها شريك فاعل في كل المقاربات المطروحة على المستوى الدولي، بما في ذلك في ملف المناخ، وهي غابت عن قمة جلاسكو، لأنها شعرت بأن إرادة غربية جامحة تريد أن تستأثر بالرؤية لمعالجة هذا الملف، بينما الصين المهتمة للغاية في التغييرات المناخية لديها وجهة نظر خاصة، ولا تريد أن يكون الموضوع سبباً لتقويض النمو الصناعي لديها.
يمكن القول بكل تأكيد: إن القمة الأمريكية - الصينية تحمل حسابات استراتيجية لدي القطبين