الأحد 24 تشرين الثاني 2024

العقوبات الاميركية العسكرية على تركيا ..لعبة الوقت والمصالح

محمد منصور
بدأت، خلال الأسابيع الأخيرة، تَظهر، على نحو واضح، آثار العقوبات العسكرية الأميركية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب السابقة على تركيا في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وخصوصاً بعد أن فشل رهان أنقرة على عدم سير الولايات المتحدة قُدُماً في تنفيذ هذه العقوبات. هذه الآثار – على الرغم من أنها كانت دافعاً قوياً لتركيا كي تتوجَّه بصورة أكبر نحو التصنيع العسكري المحلي - إلاّ أنها تسببت، في الوقت نفسه، بتأخير عامّ متفاوت الدرجة لخطط التحديث العسكري التركية، على نحو قد يفرض على أنقرة، مرحلياً على الأقل، اتخاذ قرارات اقتصادية وسياسية لم يكن مخطَّطاً لها في هذه المرحلة. 

قد يبدو للوهلة الأولى أن العقوبات الأميركية، التي فرضتها إدارة ترامب في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي، على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية، ترتبط بصورة أساسية بملف استحواذ أنقرة على منظومات الدفاع الجوي الروسية البعيدة المدى، "أس-400". لكنْ، بالنظر إلى العقود الماضية، سنجد أن هذه ليست المرة الأولى التي تفرض فيها واشنطن عقوبات عسكرية على أنقرة، لكن الاختلاف هذه المرة تمثّل بأن واشنطن كانت في المرات السابقة، تضع في اعتبارها موقع تركيا القوي في منظومة حلف شمالي الأطلسي، الأمر الذي كان يدفعها إلى تخفيف هذه العقوبات أو إلغائها، على عكس العقوبات الحالية.

قبرص.. بداية العقوبات العسكرية الأميركية على تركيا
كان شهر تموز/يوليو 1974، بداية سلسلة العقوبات العسكرية الأميركية على تركيا، عقب تدخل الجيش التركي في قبرص، لمواجهة الانقلاب الذي دعمته اليونان، ضد نظام حكم مكاريوس الثالث. وانقسم رد الفعل الأميركي على هذا الغزو إلى شقين. في الشق الأول، انحاز مجلس الشيوخ الأميركي إلى الجانب اليوناني، واتهم تركيا بانتهاك قانون المساعدة الخارجية (وهو قانون سنَّه عام 1961 الرئيس الأميركي جون كينيدي، ويحظر استخدام المساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة المقدمة من الولايات المتحدة، في أيّ أعمال هجومية تنتهك القانون الدولي).

على أساس هذا القانون، قام السّيناتور عن ولاية ميسوري، توماس إيغلتون، بتقديم مشروع القانون ذي الرقم 379، والذي ينصّ على منع بيع أيّ أسلحة أميركية للجيش التركي، وتجميد برنامج المساعدات العسكرية السنوية المقدَّمة إليه. وهو مشروع عارضه الرئيس الأميركي آنذاك جيرالد فورد، إلاّ أن مجلس الشيوخ وافق على هذا القانون في كانون الأول/ديسمبر 1974، بعد أن تم تعديل بنده الأساسي، لينصّ على دخوله حيز التنفيذ في حالة عدم تمكُّن الرئيس فورد من إنهاء الأزمة القبرصية، بحلول العاشر من كانون الأول/ديسمبر 1974. وهو ما حدث فعلاً، بحيث دخل القانون حيز التنفيذ أوائل شباط/فبراير 1975.

ردّت أنقرة على العقوبات العسكرية الأميركية بفرض قيود على استخدام الولايات المتحدة قاعدة إنجرليك الجوية، لتقتصر على العمليات المتعلِّقة بـ"الناتو" فقط، في حين ظلت العقوبات الأميركية مفروضة وسارية على تركيا، حتى عام 1978، حين سمحت تركيا، بعد ضغط أميركي، بإعادة توطين بعض القبارصة اليونانيين، الذين طردتهم القوات التركية الغازية من شمالي قبرص. وحفَّزت هذه الخطوة بعضَ أوساط مجلس الشيوخ الأميركي، على إعادة البحث في قانون العقوبات على تركيا، والنظر في إمكان إيقافها، وهو ما حدث فعلاً حين نجحت مساعي زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، السيناتور روبرت سي بيرد، في إعادة مناقشة قانون العقوبات على تركيا. وفي تموز/يوليو 1978، تم التصويت بالموافقة على تعديل هذا القانون، ليتم بذلك إنهاء حظر توريد الأسلحة الأميركية والمساعدات إلى تركيا. وفي المقابل، ألغت تركيا كل القيود التي فرضتها على استخدام الولايات المتحدة القواعد الجوية التركية.

عملية "نبع السلام" التركية شماليّ سوريا
عاد ملف العقوبات العسكرية الأميركية على تركيا إلى الواجهة بعد ذلك بعقود، وتحديداً في تشرين الأول/أكتوبر 2019، حين تبنّى مجلس النواب الأميركي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا، تشمل مسؤولين لهم علاقة بـالهجوم على شمالي شرقي سوريا، ضمن عملية "نبع السلام" التركية، بينهم وزراء الدفاع والطاقة والداخلية، بحيث باتوا ممنوعين من إجراء أيّ معاملة مالية دولية بالدولار الأميركي. وباتت ودائعهم في الولايات المتحدة مجمَّدة. كذلك، حظر القانون بيع أيّ تكنولوجيا عسكرية، يمكن أن يستخدمها الجيش التركي في عملياته شمالي سوريا. لكن لم تدم هذه العقوبات طويلاً. ففي الثالث والعشرين من الشهر نفسه، ألغت وزارة الخزانة الأميركية كل العقوبات المفروضة على الوزراء الأتراك، وعلى وزارتي الطاقة والدفاع التركيتين، بعد وقف تركيا عملية "نبع السلام"، في السابع عشر من الشهر نفسه.

في كانون الثاني/يناير 2019، بدأت إدارة ترامب فرض عدد من الإجراءات العقابية على تركيا، بسبب إصرارها على حيازة منظومات "أس-400" للدفاع الجوي البعيد المدى، بحيث تضمَّن مشروع قانون ميزانية الولايات المتحدة الأميركية للدفاع، لعام 2020، عقوبات على تركيا، تشمل إيقاف مساهمتها في برنامج تصنيع مقاتلات "أف-35" وتطويرها، وعدم تسليمها المقاتلات التي كان من المفترض أن تحصل عليها من هذا النوع، ورفع الحظر على تزويد قبرص اليونانية بالسلاح. لكن، في هذه المرحلة، لم يشأ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الضغط بصورة كبيرة على تركيا، فاكتفى بهذه العقوبات، من دون أن يفرض مزيداً منها، على الرغم من أن قانون الميزانية تضمَّن بنوداً تحثّ على ضرورة فرض عقوبات على أنقرة في إطار قانون مكافحة أعداء أميركا المعروف باسم "كاتسا". وظل ترامب يقاوم محاولات الكونغرس وضع تركيا تحت طائلة هذا القانون، إلى أن تم في كانون الأول/ديسمبر 2020، وضع رئاسة مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية "أس أس بي"، وكل الأفراد الذين شاركوا في عملية شراء منظومات "أس - 400" تحت طائلة عقوبات هذا القانون.

تأثير العقوبات العسكرية الأميركية في تركيا
بموجب العقوبات المالية التي ينص عليها هذا القانون، وباتت فعلياً في حيز التنفيذ، يٌفرَضُ حظر كامل على منح القروض الائتمانية من المؤسسات المالية والبنوك الأميركية للشركات التركية العاملة في مجال التصنيع العسكري، ومعارضة كاملة من جانب الولايات المتحدة لأي قروض تُمنَح لتركيا من جانب أي مؤسسة دولية تشارك الولايات المتحدة في تمويل ميزانيتها. وفي هذا الصدد، تخشى أنقرة قرب تطبيق هذه العقوبات على المسؤولين في مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية، بما في ذلك تجميد الأصول المالية وفرض قيود على منح تأشيرات دخول الولايات المتحدة لهم. ومبعث الخوف هنا أن هذه الإجراءات ستؤدي إلى التأثير سلباً في أي شراكات مستقبلية بين تركيا وأوروبا في مجال التطوير المشترك للمنظومات العسكرية، ثم ستخشى الدول حول العالم من التعاون مع تركيا، تجنباً لوقوعها أيضاً تحت طائلة قانون "كاتسا".

في ما يتعلق بتأثيرات هذه العقوبات على التسليح التركي، سنجد أن الأثر الأساسي لها كان فورياً، وتمثل بحرمان سلاح الجو التركي من امتلاك مقاتلة الجيل الخامس الحديثة "أف - 35". يُضاف إلى ذلك الحظر الذي بات مفروضاً على منح تراخيص تصدير عسكرية أميركية لأي أسلحة او تقنيات عسكرية إلى انقرة، بالنظر إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تاريخياً كانت المصدر الأكبر للأسلحة إلى تركيا. هذا الحظر، مضافاً إليه الحظر المفروض على تراخيص إعادة تصدير الأسلحة الأميركية الصنع من تركيا إلى دولة ثالثة، سيؤثّران في 35٪ من صادرات صناعة الدفاع التركية، والتي تحتوي على أنظمة تشغيل، أو مكونات أميركية الصنع. علاوة على ذلك، فإن أي قطعة من المعدات أو قطع الغيار يتم إرجاعها إلى الولايات المتحدة لتحديثها أو صيانتها من تركيا، ستتطلّب إعادتها إلى تركيا تصريحاً حكومياً، وهو ما سيتعذر حدوثه بسبب العقوبات.

جدير بالذكر هنا، أن الولايات المتحدة الأميركية كان سبق لها، خلال عدة مناسبات، التضييقُ على الصناعات العسكرية التركية، عبر التباطؤ في منح الشركات الأميركية المصنعة للمحركات وقطع الغيار، تصاريحَ للتصدير إلى تركيا، مثل ما حدث عام 2018، حين وقعت تركيا مع باكستان عقداً بقيمة 1.5 مليار دولار، لتزويد سلاح الجو الباكستاني بـ 30 مروحية قتالية من نوع "تي-129 أتاك"، لكن لم تتمكن تركيا من توريد ولو مروحية واحدة من هذا النوع إلى باكستان، بسبب فشل شركة "هانيويل" الأميركية لتصنيع المحركات في الحصول على رخصة لتصدير محركاتها المستخدمة لتشغيل هذه المروحيات إلى تركيا. 

هذه المعضلة دفعت تركيا إلى محاولة البحث عن دول بديلة لشراء المحركات منها، مثل أوكرانيا وكوريا الجنوبية. لكن بعد تطبيق العقوبات الأميركية، سيصبح الملجأ الوحيد لتركيا في هذا الإطار هو الصناعات المحلية، وهو ما يعني مزيداً من التأخير في برامج التسليح التركية. 

مشكلة المحركات هذه ظهرت في ما يتعلق بعدة أسلحة تركية محلية الصنع، مثل مشروع دبابة القتال الرئيسية "ألطاي"، كما عانى مؤخراً مشروع الفرقاطة التركية المحلية الصنع، "اسطنبول"، مَصاعبَ نتيجة عدم موافقة الولايات المتحدة على تزويد تركيا بمنظومات الدفاع الجوي الخاصة بهذه الفرقاطة، وتشمل منظومة الإطلاق الصاروخي العمودي "أم كي-41"، والتي تصنعها شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية، ومنظومة الدفاع ضد الأهداف الجوية المقتربة "فالانكس"، ويضاف إلى ذلك أن بعض الشركات الأميركية تبقى الموردَ الأساسي للتوربينات الغازية اللازمة للقطع البحرية التركية الجديدة، مثل شركة "جي إي مارين".

الواردات التركية من الأسلحة ستكون تحت الضغط الأميركي أيضاً بموجب هذه العقوبات، لكن سيتركَّز هذا التأثير على المنتوجات العسكرية التي تدخل في تصنيعها مكونات أميركية الصنع، وخصوصاً في مجال الطائرات، بحيث تدخل المكونات الأميركية في عدة أنواع من الطائرات الحربية ذات المنشأ الأوروبي، والعاملة في سلاح الجو التركي، مثل طائرات الإنذار المبكّر "آي-7 تي بيس أيغل"، وطائرات التزود بالوقود "كي سي-135 ستراتوتانكر"، ويضاف إلى ذلك المكونات الخاصة بمقاتلات "أف-16" الأميركية، التي تُعَد العمود الفقري لسلاح الجو التركي، وكذلك بعض الصفقات المستقبلية التي تتفاوض عليها تركيا، مثل طائرات التدريب الكورية الجنوبية "كي تي-1 تي".