الأحد 24 تشرين الثاني 2024

الشيخ جراح: لن نرحل

الشيخ جراح: لن نرحل
 
"لن نرحل" ستة حروف، تُقرأ على كل جدار في حي الشيخ جراح، وتُشاهد على جبين كل فلسطيني فيه، وتواجه منذ خمسين عاماً أذرع الاحتلال المجرمة، محاكمه ومستوطنيه وجيشه.

ستة حروف، محوها وضياعها يعني "نكبة" فلسطينية جديدة في قلب القدس المستهدفة بكل ما هو فلسطيني منتمٍ إليها، من انسان وحجر وشجر، وتهجير أكثر من 550 فلسطينيا ينتمون لـ28 عائلة مهددة بإخلاء منازلها من أجل بناء مئات الوحدات الاستيطانية وجلب مستوطنين متطرفين إليها، وإنهاء الوجود الفلسطيني من الحي بأكمله، ليصبح يهوديا خالصا.

يشهد التاريخ، وبالذات نيسان وأيار 1948، أن الشيخ جراح كان دوما، حيا عصيا على الاحتلال، ومدافعا شرسا ليس عن الحي فقط، انما عن القدس بأكملها بشكل عام، وحتى اليوم ينتصب على أحد أرصفته نصب رخامي يحوي أسماء 78 قتيلا صهيونيا قتلوا خلال معارك العام 1948.

الـ28 عائلة، شاءت أقدارهم أن يكونوا أبناء النكبة، أبناء اللجوء إلى منافٍ متعددة، داخل الوطن وخارجه، قبل أن يستقر بهم المقام في الشيخ جراح عام 1956.

بدأت فصول نكبة الشيخ جراح المعاصرة، في عامي 2008/2009، بالاستيلاء على أربعة منازل، تعود لعائلات غاوي وحنون والكرد.

وفي مطلع عام 2021، أصدرت محكمة الاحتلال المركزيّة قراراً جديداً يمهل عائلات الجاعوني والقاسم واسكافي والكرد حتى الثاني من مايو/ أيار 2021 لإخلاء منازلهم، ويُمهل عائلات الداوودي والدجاني وحماد حتى أغسطس/آب المقبل. إضافة إلى ذلك، أصدرت المحكمة قراراً بإخلاء عائلة الصبّاغ.

تمتلك الـ28 عائلة وثائق تثبت ملكيتها للأرض وللبيوت، بعد اتفاق بين وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية، التي كانت تحكم وتدير أوضاع مدينة القدس في تلك الفترة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الاونروا"، والتي تقضي بمنح بيوت للعائلات مقابل تخليها عن كرت اللاجئين. لكن الاضطرابات في المنطقة ومجيء نكسة حزيران 1967 حالت دون تطويب البيوت.

وفي تفاصيل الاتفاق، فإن العائلة التي تقوم ببناء مجتمع صالح للعيش، وبيئة ايجابية كإنشاء حديقة وزراعة أشجار وبناء جدران والالتزام بدفع الإيجار ومستحقات المياه والكهرباء لمدة ثلاث سنوات، تتملك الأرض، وهو ما قامت به ال28ـ عائلة واستحقت البيوت. قبل أن يأتي الاستيطان سنة 1972 بوثائق مزورة تعود للعهد العثماني "1875" يدّعون فيها ملكيتهم للأرض ويقومون بتآمر من قضاة صهاينة – كالمحامي يتسحاق كوهين عام 1982- بتسجيل البيوت لصالحهم، لتبدأ معركة عمرها حتى اليوم 50 عاماً، يتحدى بها أهالي الشيخ جراح الاستيطان والجمعيات التي تموله رافضين تلك المؤامرة، ويحملون أدلة وجودهم واثباتات أحقيتهم بالمكان.

يقع الشيخ جراح في قلب مدينة القدس، إلى الشمال من البلدة القديمة، وتحده من الشمال أرض السمار وشعفاط، ومن الجنوب أحياء باب الساهرة وسعد وسعيد، ومن الشرق حي واد الجوز، ومن الغرب ضواحي غربي القدس وأراضي قرية لفتا المهجرة عام 1948.

ومن أبرز معالم حي الشيخ جراح، مدرسة الطفل العربي، والتي أنشأتها هند الحسيني عام 1948، بهدف إيواء 55 طفلا يتيما من أطفال قرية دير ياسين الذين هجروا منها بعد المذبحة التي ارتكبتها فيها العصابات الصهيونية في التاسع من نيسان 1948، وقد توسعت مع السنين وأصبحت من المدارس الثانوية في مدينة القدس.

كما يقع في الشيخ جراح، قصر الأديب محمد إسعاف النشاشيبي، وهو من ابرز البيوت التي ظلت صامدة وقائمة بعد النكبة. ولد النشاشيبي في القدس وعُرف بلقب: أديب العربية. وشُغف ببديع الزمان الهمذاني، وعُرف بين اصدقائه بأبي الفضل، ومن أبرز مكونات قصره مكتبته الشخصية، وهي مكتبة ضخمة وشاملة، حيث عمل فيها على إحياء أمجاد العرب وتراث الإسلام.

"معارك الشيخ جراح"

وبحسب "الموسوعة الفلسطينية" فإن الشيخ جراح تميز بموقعه الجيو-استراتيجي الذي يهيمن على كل التحركات من الساحل إلى الداخل. وكانت القوات الصهيونية تعتمد على الطريق المار بالشيخ جراح لنقل الإمدادات ووسائط القتال إلى يهود القدس (في المدينة الجديدة والحي القديم)، وإلى المستعمرات الصهيونية الواقعة شمال القدس، على طريق رام الله، وهي عطاروت والنبي يعقوب، وتعتمد على هذه الطريق أيضاً للاتصال بمستشفى هداسا والجامعة العبرية على جبل المكبر. وقد شهد حي الشيخ جراح بسبب هذا الموقع الهام، معارك مستمرة بين العرب والقوات الصهيونية.

أخذت القوات الصهيونية تعد العدة لإقامة الكيان الصهيوني، فتزودت بأسلحة كثيرة جاءتها سراً عن طريق البحر والجو في مطلع نيسان 1948. ونظمت القوات قيادتها، فتولى يعقوب دوري رئاسة أركان الهاغاناه، وتولى بيغال يادين رئاسة العمليات، في حين غدا دافيد شالتيل آمر منطقة القدس كما تسلم يوسف تانبكين قيادة لواء "هاريل” الذي كلف بعمليات القدس. وكان هذا اللواء مؤلفاً من ثلاث كتائب تضم 1.500 مقاتل.

وقد استطاعت القوات الصهيونية بعد ذلك كله تطوير أعمالها القتالية في منطقة القدس، فاستولت على القسطل، وساريس وبدو وبيت سوريك، بالإضافة إلى معسكر بريطاني سابق في وادي سارة، وأمنت الحماية للقوافل المتجهة إلى القدس، فأرسلت إلى يهود القدس خلال خمسة أيام (12-17 نيسان) ثلاث قوافل امداد تضم نحو 250 – 300 سيارة نقل.

وقد ظل الصهاينة يتمسكون بمواقعهم في جبل المبكر. وكانت الطريق إلى هذا المكان تمر بحي الشيخ جراح، لذلك كانت القوافل التي تمر عبر هذه الطريق تتعرض للهجوم مراراً. فأنشأ البريطانيون في أول نيسان موقعاً يسيطر على الشيخ جراح، لمساعدة القوافل الصهيونية على المرور عبر الطريق، دون أن يكون هناك من يعترضها.

وفي 13/4/1948 أخذت قافلة صهيونية من تسع سيارات كبيرة، منها اثنتان مصفحتان، تخترق حي الشيخ جراح بحراسة قوات "الهاغاناه"، للوصول إلى الجامعة العبرية ومستشفى هداسا. وعند وصول القافلة إلى وسط الحي فجر المجاهدون من جيش الجهاد المقدس ألغاماً تحت سيارات القافلة، فدمروا سيارتين، وقتلوا 38 من الصهاينة بعد استشهاد قائدهم عبد القادر الحسيني قبل ذلك بنحو أسبوع في معركة القسطل.

ولم تكن قوة أفراد الكمين العربي تزيد على 24 مقاتلاً، مسلحين بالرشاشات والبنادق. وبدأت المعركة مع حرس القافلة الذين أطلقوا إشارات الاستغاثة، فأسرعت القوات البريطانية القريبة من ميدان المعركة لمساعدتهم ووجهت نيرانها ضد المجاهدين من ثلاث جهات. وما أن انتشرت أخبار المعركة في مدينة القدس حتى هرع المجاهدون من أنحاء المدينة المقدسة، ووصل منهم إلى حي الشيخ جراح زهاء مائتي مجاهد، فشعر الصهيونيون بقوة الكمين وصلابته فطلبوا الهدنة. وعرضوا الاستسلام وإلقاء السلاح، فوافق المجاهدون على طلبهم وأرسلوا مندوبا عنهم لإبلاغهم بشروط التسليم. لكنهم قتلوا المندوب العربي، فتجدد الاشتباك واستمرت المعركة حتى الساعة السادسة مساء، حيث بلغ عدد قتلى الصهاينة 120 قتيلاً، وخسر البريطانيون ستة جنود بين قتيل وجريح. ولم ينج من القافلة إلا ثمانية أفراد قام البريطانيون بحمايتهم، في حين خسر المجاهدون 12 شهيداً.

لقد اعتبرت هذه العملية من وجهة نظر البريطانيين رداً على مذبحة دير ياسين التي ارتكبت يوم 9/4/1948. لكن القضية لم تكن مجرد الرد فحسب، وإنما كانت دفاعاً عن الوجود العربي. وقد استولى المجاهدون في 18 نيسان على مستشفى أوغستا فكتوريا في جبل الزيتون، كما استولوا على قرية العيسوية قرب الجامعة العربية فطلب قائد المنطقة الصهيوني الدعم. فأمرت الهاغاناه بتحريك لواء هاربل. فاطلقت قافلة مكونة من 350 سيارة إلى القدس بقيادة قائد اللواء ودافيد بن غوريون، الرئيس التنفيذي للوكالة اليهودية، وعند الأطراف الغربية للقدس وقعت القافلة في كمين عربي كبير، أدى إلى إغلاق الطريق بالسيارات المعطلة. ولم يتمكن المجاهدون من الوصول إلى القافلة بسبب النيران الكثيفة. وقامت القوات الصهيونية بمهاجمة الكمين، واستمرت المعركة حتى المساء، حيث استطاعت القافلة متابعة طريقها، بعد استقدام نجدات جديدة، وتكبدت خسائر كبيرة.

ثم قام الصهاينة في 24 نيسان بالهجوم على حي الشيخ جراح، واستمرت المعركة طوال الليل، اضطرت القوات المعادية بعدها إلى التراجع، وظل الصراع بعد ذلك محتدماً إلى أن انسحب البريطانيون يوم 13/5/1948، ودخلت الجيوش العربية يوم 15 أيار، وانتهت مهمة جيش الإنقاذ، وأصبحت مدينة القدس في منطقة عمل القوات الأردنية.