السبت 23 تشرين الثاني 2024

السؤال الآن: بأي شريعة ستحكم "طالبان"؟


النهار الاخباريه  وكالات 


قُضي الأمر في أفغانستان"... هكذا قال رجال البيت الأبيض، وقبل ذلك فهم كثيرون، بمن فيهم الرئيس الأفغاني الرسالة، فقد أصبحت حركة "طالبان" أو "الإمارة الإسلامية في أفغانستان" كما تسمي نفسها، هي الحاكمة في كابول، لكن التساؤل الذي يقلق العالم، وليس أطيافاً من الشعب الأفغاني وحسب، هو كيف ستدير الحركة الحكم في البلاد؟ أو بأي شريعة ستحكم؟ فهي أعلنت منذ حين أنها تريد تطبيق حكم إسلامي، طبقاً للتقاليد الأفغانية.
سبب ورود هذا التساؤل ليس الفزع من الإسلام نفسه كدين، مثلما يروج بعض عشاق نظرية المؤامرة غربياً وعالمياً، وإنما لأن التجربة الإسلامية متعددة المشارب والاتجاهات، والنسخة التي اختارتها "طالبان" إبان حكمها في تسعينيات القرن الماضي، ليس أسوأ منها سوى التي اختارها "داعش" فيما بعد في العراق وبقية المناطق التي سيطر عليها.
الخوف من عودة ذلك النموذج وعيش يومياته في عصر "السوشيال ميديا"، يتجاوز مأساة الشعب الأفغاني الذي يعيش تفاصيله، إلى شعوب عربية وثقافات إسلامية شعبوية في أقطار عدة، نراها وقد هللت للعودة الطالبانية على الرغم مما طبعه تاريخها في الذاكرة القريبة والبعيدة من بطش وتشدد وأغلال، ما كان أحد من المهللين يسعد بعيش مثلها في بلده لو جرى امتحانه.
إلا أن الانسياق خلف العواطف الجياشة، أو آمال سوريالية يتوقعونها، حيث يصعب أن تتحقق، دفع لنظرة مثالية، عايش كثيرون سحرها أيام الجهاد الأفغاني، حين دفعت البعض لحرق، أو تمزيق جوازه يوم ولج "أرض الجهاد والرباط"، كما تجدد المشهد قبل سنوات أيام خلافة "داعش"، ناهيك بالكرامات وأحاديث المدد الإلهي والنصر والتمكين، والفتح المبين!
وهذا ما يدفع الكاتب السعودي، يوسف الكويليت، إلى توقع "الأسوأ" في المنطقة وأفغانستان بعد هذه العودة الماراثونية لـ"الحالة الطالبانية"، وكأنها أسطورة في عالم الخيال.
وقال، "هل تصبح أفغانستان الملجأ للإخوان والقاعدة وداعش وغيرها؟ تجارب الماضي تشهد بهذه الحقيقة وهي فرصة لإيران وتركيا، وقلق لروسيا والدول المجاورة لأفغانستان. استعدوا لدورات جديدة من العنف تديرها دول وشبكات جريمة سرية بما فيها إغراق العالم بالمخدرات".
مؤشرات إيجابية ومخاوف
ومع أن أحداً لا يمكنه القدح في أن جميع المخاوف على هذا الصعيد لها ما يبررها، نظير ماضي الحركة وأخواتها الإسلامية الراديكالية في تجارب الحكم، إلا أن الآمال مهما بدت أقل من المخاوف، إلا أن تلمّسها يمكن أن يظهر في أسلوب الحركة الحكيم إلى حد نادر حتى الآن، في الاستحواذ على السلطة من دون عنف مبالغ فيه أو إراقة دماء، ظلت تلازم الصراع على السلطة في كل الأنظمة منذ قرون، حتى صار استيلاء "بشر" على العراق ذات زمان من غير دماء مثلاً.
الحركة نفسها تقر بأن قوتها مهما بلغت لن تمكنها من السيطرة على أفغانستان بهذه السرعة الخاطفة، ولذلك يرى بعض المحللين أن الحركة، هي الأخرى متفاجئة، مما قد يعني أنها غير مستعدة للقيام بالأعباء المترتبة على السيطرة التي رأيناها، في الوفاء بحاجة الشعب المنهك أصلاً من إرث حكومات سبقت في ظل الاحتلال، كان أداؤها "المخجل"، وفق التعبير الأفغاني، أهم الأسباب التي أهدت المدن والأقاليم إلى "طالبان"، وعسى ألا تكون كما تقول إحدى الأفغانيات من واشنطن "كالمستجير من الرمضاء بالنار".
تلك الطريقة مهما اختلف المحللون في شأن "طالبان"، فإنهم يجمعون على أنها دليل حنكة يقتضيها حكم البلاد الممزقة، سواء أتم ذلك للحركة عبر علاقاتها القبلية الأفغانية أو دبلوماسيتها الخارجية وتجهيزها العسكري، فهي أثبتت أنها رقم صعب لا يمكن تجاوزه في المعادلة الأفغانية، وهذا ما كانت واقعية أمثال الرئيس السابق حميد كرزي تطالب باستيعابه، لولا أن الاستقواء بالأميركيين أعمى الآخرين حتى انتهى المشهد إلى الختام القاسي الذي يصعب أن ينتهي من دون متاعب، على المدى القريب والمتوسط والبعيد، خصوصاً إن لم تبقَ دول الجوار الأفغاني على حيادها، بعد استيعاب ما يجري .

التصور الثاني الذي يدعو لبعض التفاؤل، هو ما تواطأت عليه المصادر الرسمية في الحركة منذ وقت مبكر، وهو استفادتها من تجربتها السابقة وخبرة عناصرها الخارجية، في تجنب أخطائها السابقة، وفي مقدمة تلك الأخطاء سماحها باتخاذ أفغانستان منصة لتنظيمات وشخصيات مطاردة دولياً، جعلت من البلاد منطلقاً لأعمال إرهابية ضد مصالح الدول الأجنبية، فجاءت العاقبة، كما قال رئيس الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل، مأساوية. وقد كان حذرهم من ذلك في وقته، أثناء محاولته إقناع زعيم الحركة الملا عمر بتسليم بن لادن، قبل أن يجلب له ولأفغانستان المتاعب.
وقالت الحركة في بيان على لسان الشخص الثاني فيها، الملا برادر، إنها ستحترم حقوق الإنسان والمرأة والأقليات، وتحفظ أمن السفارات الأجنبية، ولن تتدخل في حياة الناس الخاصة، أو تصادر أموالهم وحرياتهم، معلناً عفواً عاماً. وما إلى ذلك من التعهدات التي قطعها التنظيم بعدم الإنتقام، قبل تسلمه السلطة. وهنا لا بد من الإقرار بأنه على الرغم من تضاؤل صدقية عديد من الحركات المتخذة للإسلام سُلماً إلى السلطة في المنطقة الإسلامية والعربية، فإن "طالبان" فيما مضى من تاريخها يمكن وصفها بأي شيء إلا "قلة المصداقية"، وهذا مؤشر يدعو إلى بعض الأمل.
 
ما مقاييس "شريعة طالبان"؟
يبقى بعد ذلك السؤال الجوهري، هو بأي شريعة ستحكم "طالبان" أفغانستان هذه المرة؟ فمن السهل إطلاق الشعارات، والقول إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وإن المجتمع يريد ما تُمليه الشريعة، لكن أي شريعة؟
بالنسبة إلى الطالبانيين يقولون إنها التي توافق تقاليد المجتمع الأفغاني، ولكن هذا الأخير متعدد المشارب والأهواء والأفكار. رأينا في الفترة السابقة كل التيارات من اليسار إلى الوسط واليمين، نساء سافرات ولابسات للجينز، وأخريات متلفعات بالعباءات، كما الرجال باللحى، وآخرين من دونها. رأينا المساجد وحلقات الذكر، كما قاعات الفنون وحفلات الغناء والبهجة. هنا يقع امتحان تطبيق الشريعة، وعدم "احتكار السلطة" الذي تعهدت به الحركة، وأهمية ضغط المجتمع الدولي.
ويعود ذلك إلى أن أساس مشكلة تنظيم الإخوان المسلمين العابر للقارات، هو اتخاذه "الإسلام هو الحل"، شعاراً وتطبيق الشريعة مطلباً، وكأن المجتمع المصري الذي نشأ فيه التنظيم غير مسلم حتى يكون حله الإسلام، أو لا علاقة لأنظمته بالشريعة حتى يطبقها، ولذلك يقول المفتي المصري، شوقي علام، إنه ما كاد "أزهري معتبر" (هكذا قال) يؤيد مطلب تطبيق الشريعة في مصر ويدعو إليه، لأن البلاد لم تخلُ منها في أي عصر من عصورها.
عندما كنت في مهمة صحافية 2007 إلى نيجيريا لتغطية مبادرة الولايات الشمالية ذات الأغلبية المسلمة، مثل "كانو" إلى تطبيق الشريعة، سألت رئيس المجلس الحارس للتجربة: ما النموذج الذي ستطبقونه من الشريعة، هل هو السعودي أم المصري والباكستاني والماليزي والتركي، أم ماذا؟ فقال بكل ثقة: "إذا كان من بين من ذكرت بالفعل من يطبق الشريعة سنحاول الاستفادة من تجربته"! في نهاية المطاف سريعاً ما خرجت الأمور من أيدي أصحاب النوايا الطيبة، واستبسلت مجموعة "بوكو حرام"، ومن بعدها "داعش". الشاهد من ذلك أن المزايدات في هذا الميدان، ووسع الشريعة، وادعاء كل طرف تمثيلها، يفتح الباب واسعاً أمام التأويلات.
حتى الفقه الإسلامي الذي تعددت مذاهبه، يرى أمثال المفكر العراقي رشيد خيون أن المذهب الحنفي الذي تقول "طالبان" إنها تطبقه فيما مضى من تجربتها، لا يشبه ما كانت تفعل سماحته وسعة أفق نظريات مدونيه الأوائل، خصوصاً في العلاقة مع غير المسلمين والمخالفين.
وما هو أهم من أفغانستان ومن يحكمها ومستقبلها، هو "صورة الإسلام الكلية"، الذي كاد بفضل "القاعدة" حليفة "طالبان" (حتى الآن)، و"داعش" وأخواتها، واختيارات "طالبان" وبعض المتشددين هنا وهناك، يساوي "الإرهاب، والقتل، والشرور".
لكل ذلك فإن الخطوة التي ستختار "طالبان" اتخاذها مهمة لأفغانستان والعالم أجمع. والقصة تطول، والجميع يراقب.