الأحد 24 تشرين الثاني 2024

الزمن الأصولي وعودة "طالبان"


الزمن الأصولي هو مرحلة عاشتها بعض الأمم والثقافات في سبيل وصولها إلى مستوى حضاري أرقى، كما جرى في الثقافات الغربية المهيمنة في هذه المرحلة من التاريخ البشري في جميع المجالات، والمشكلة أنها بعد انعتاقها من الزمن الأصولي والأصولية الخاصة بها تذبذبت مواقفها من الأصوليات في ثقافاتٍ أخرى، ومنها الثقافة العربية والإسلامية.
درءاً لأي سوء فهمٍ؛ فالأصولية الإسلامية ليس لها أي علاقة بدين الإسلام، كما أن الأصولية اليهودية أو المسيحية ليست لها علاقة بالدين اليهودي أو المسيحي؛ فهي عبارة عن نظرية سياسية وتنظيمات حزبية تستخدم الدين وتستغل قداسته للحصول على مكاسب حزبية ضيقة، وهو داء قلّما تنعتق منه الأمم من دون صناعة وعي حاد بخطرها، ووجودِ نخبٍ وقياداتٍ قادرة على المواجهة ورسم طريق المستقبل.
عودة «طالبان» القوية للمشهد في أفغانستان حدثٌ سياسي وتاريخي ضخمٌ وليست حدثاً عابراً؛ فبعد عقدين من الزمن وتدخل الإمبراطورية الأميركية الأقوى في التاريخ بجيشها وقواتها وتحالفاتها الواسعة، ها هي الحركة تعود مجدداً لتُحكِم قبضتها على الدولة الأفغانية، والمسألة مجرد وقتٍ ليتم إعلان ذلك رسمياً.
في عودة «طالبان» إشارة بالغة الأهمية ومكثفة المعنى في الرد على مَن يكرر مقولاتٍ مثل أن جماعة «الإخوان» انتهت أو أن السرورية اختفت، كما أنها تأكيدٌ على أن مهمة الانعتاق من التيارات الأصولية جماعاتٍ وأحزاباً، آيديولوجياتٍ وخطاباً، مفاهيم وأساليب هي مهمة جلّى وتحتاج إلى رؤية شاملة وخطط استراتيجية طويلة الأمد وإصرار على الانعتاق من براثن التخلف والجهل والتطرف والكراهية.
في مايو (أيار) 2011، كتب كاتب هذه السطور مقالة بعنوان «صعود الأصوليات والزمن الأصولي» جاء فيها: «ويبقى الثابت الأوضح هو صعود الأصوليات والدخول في الزمن الأصولي»، وما يجري اليوم من عودة «طالبان» وعودة جماعة «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي إلى دولٍ ومجتمعاتٍ كان يُفترض أنها نبذتهم وافتضح أمرهم لديها بأساليب جديدة، هو تأكيد للمؤكد من
أننا لم نزل نعيش حقباً من «الزمن الأصولي» تختلف من مكان إلى آخر، ولكننا لم ننعتق بعد من هذا الزمن الأصولي.
من مظاهر عودة الزمن الأصولي في الشرق الأوسط دولاً ومجتمعاتٍ، أفراداً ومؤسساتٍ، هو انحياز اليسار الليبرالي الغربي للتحالف مع كل الأصوليات في المنطقة، بعد فشل هذا التحالف، إبان ما كان يُعرَف بـ«الربيع العربي»، فالمفاوضات مع النظام الأصولي الإيراني على قدمٍ وساقٍ في فيينا، والتفاوض المتساهل مع ميليشيات الحوثي في اليمن قائم، ورفع تصنيفها إرهابية سياسة معلنة، مع الضغوط على الشرعية اليمنية وحلفائها لتخفيف مواجهة تلك الميليشيا الأصولية الإرهابية، والتساهل الواضح مع «ميليشيات إيران» الأصولية في العراق وسوريا ولبنان، كلها مجتمعة مؤشراتٌ صارخة على انتعاش الأصولية وعودة الزمن الأصولي.
كتب كاتب هذه السطور في 2013 تقديماً لكتاب «العاصفة والعمامة» عن أفغانستان و«طالبان» جاء فيه: «إن الكتاب يفتح كثيراً من الأسئلة حول مستقبل حركة (طالبان) السياسي كما الآيديولوجي، وهل هي قادرة على تطوير نفسها للتعايش مع منطق التاريخ وموازنات القوى في العالم أم أن فشلها القديم لن يلبث أن يعاودها بعد كل ما مرّت به؟ ثم في حال عودتها للسلطة هل تستطيع أن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء؟ وهل بإمكانها إغفال التغييرات الكبرى التي جرت في البشر كما في التنمية؟»، وهي أسئلة تلتقي في هذه الفترة بالعديد من الإجابات.
الانسحاب الأميركي المفاجئ والسريع منح الفرصة القوية لحركة «طالبان» للعودة بقوة وسرعة للسيطرة على الدولة الأفغانية، وأميركا باتت تحسب للصين وقوتها الصاعدة حساباتٍ لم تكن معنية بها بنفس القدر من قبل، ومع استحضار أن أفغانستان كانت من أكثر الحروب سخونة إبان الحرب الباردة، وانتهت بهزيمة الاتحاد السوفياتي وتفككه، فإن صانع القرار الأميركي ربما لا يجد ضرراً في معاودة نفس السيناريو، وإن مع عدوٍ مختلفٍ هذه المرة، وإبقاء أفغانستان خنجراً في خاصرة.
في تقرير لمراسلة «سكاي نيوز» البريطانية صورته أثناء مرافقتها لقوات «طالبان»، ظهر عناصر الحركة وهم يسيطرون على كميات كبيرة وحديثة من سيارات ومعدات وصواريخ وأسلحة تركها الجيش الأميركي المنسحب، في مشهد يعيد التذكير بسيطرة تنظيم «داعش» على الموصل، وحصوله على كميات كبيرة وحديثة من الأسلحة الأميركية التي تُرِكت هناك، ليأخذها التنظيم الإرهابي، وعاث بها فساداً في العراق وسوريا لسنواتٍ تالية.
ما عدا بعض التصريحات التي يتمّ تلطيفها لتناسب الظهور في الإعلام في هذه المرحلة الانتقالية للسلطة في أفغانستان، فإن كل شيء تقريباً يشير إلى عودة «طالبان»؛ نفس الخطاب القديم وذات التوحش الماضي، ولا شيء يلوح في الأفق ليبشر بأي تغييرات جذرية على مستوى الآيديولوجيا أو السياسة المتوحشة.
العمق الاستراتيجي لأفغانستان يقع في باكستان، وباكستان لا تبدو مستعجلة لإبداء أي مواقف سياسية صريحة قبل ترتيب المشهد بشكل كبير داخل أفغانستان، وبروز توازنات دولية جديدة تمكّنها من التحرك بأريحية مريحة، كما أن علاقات «طالبان» وبعض القوى المتحالفة معها داخل أفغانستان مع النظام الإيراني معروفة ومشهورة، وطبيعة تطورات هذه العلاقة مستقبلاً تخضع للعديد من المتغيرات، ولكنها تصب جميعاً في تعزيز «الزمن الأصولي» ومسار «تجارة المخدرات» من أفغانستان إلى لبنان.
تركيا الدولة العضو في حلف «الناتو» وعدت أميركا بتغطية انسحابها السريع من أفغانستان، وهي تتعرض لتهديداتٍ صريحة من «طالبان» للخروج من أفغانستان بقواتها وأسلحتها، ويبدو أنها لن تمانع طويلاً في الانسحاب من هناك بمجرد استقرار الأمور بيد «طالبان».
قطر الدولة ذات العلاقات الأقوى مع «طالبان» وتنظيم «القاعدة» سابقاً بعلم ومعرفة أميركا تحتضن مفاوضات سلام بين الحكومة الأفغانية و«طالبان»، وهي ذات ميولٍ معروفة سترغب في استثمارها في المستقبل القريب.
بعض المقاطع التي تخرج من هناك تعيد للأذهان سيرة حركة «طالبان» الأولى في تعاملها مع الإنسان والمرأة والفرقاء السياسيين، وهو ما يوحي بعودة أفغانستان لتصير ملاذاً آمناً لكل الإرهابيين والأصوليين حول العالم، وقد بدأت «جماعة الإخوان» المصنفة إرهابية في عدد من الدول تفكر جدياً في نقل كثير من عناصرها وهيئاتها إلى أفغانستان.
أخيراً، فمن الحصافة أن تأخذ الدول المسلمة كل الحيطة والحذر من عودة «الزمن الأصولي» ليصبح فاعلاً ومؤثراً ومدعوماً على المستوى الدولي، وستتحرك منظمات الحقوق والإعلام اليساري الغربي في الهجوم على هذه الدول عندما تواجه الإرهابيين والأصوليين.

عبدالله بن بجاد العتيبي- الشرق الأوسط