الجمعة 18 تشرين الأول 2024

الحداثة العربية وحصاد التجربة


النهار الاخباريه  وكالات 
    بعد مضي عقود على معركة الحداثة العربية بين المؤيدين والرافضين، ومع تحول نيرانها إلى رماد، والرماد إلى ثرى، فإننا نقول إن الثقافة العربية عامة، والأدبية والنقدية منها خاصة، كانت في أشد الحاجة للتعرف على الحداثة الغربية: المذهبيات والمناهج والأبعاد، من أجل التعرف عليها ومواكبة المنتج المعرفي النقدي والأدبي العالمي من ناحية، ومن أجل المساهمة فيه، فلا يمكن أن نظل مغردين خارج السرب العالمي، في ضوء تدني المنتج المعرفي العربي الإجمالي، ووصول المنتج النقدي الغربي والعالمي إلى ذروة عطائه العلمي والبحثي.
لكن المشكلة ليست في التعرف عليه، فهذا في رأينا كان أمرا لا بد منه، يحدث عاجلا أو آجلا، وإنما المشكلة في طريقة تقديمه إلى الساحة الثقافية العربية، حيث صاحبَ الترجمةَ والتقديمَ خيلاءٌ وتعالٍ من قبل النقاد الحداثيين، مع ازدراء كبير بالتراث العربي، والواقع الثقافي؛ ومن هنا حدثت الأزمة، التي نراها أزمة خطاب في جوهرها، وليست أزمة معرفة، فأي طرح جديد، سيكون له مضادون من أهل القديم، فما بالنا إذا كان الخطاب حاد النبرة، متعالي النزعة، غامض الطرح؛ فحتما سيكثر له المضادون ابتداء، والمعادون انتهاء.
فلم يكن من المعقول أن يستمر النقد العربي – في العقد السابع والثامن من القرن العشرين- على منهجياته التقليدية نفسها، التي وصلت – في رأينا- إلى طريق مسدود، حيث اقتصرت على مناهج مثل: الاتجاهات الموضوعية والفكرية، والدراسات الفنية التحليلية، والإغراق في تحليل نقدي يعتمد على الحدس والذائقة، بأسلوب يميل إلى الانطباعية، وإضفاء نعوت على العمل تدخله التاريخ، وقد لا يستحق، وفي المقابل، قد نجد دراسات نقدية تغمط أعمالا عظيمة حقها، أو لا تحسن قراءتها، وغابت المنهجية العلمية، ومال النقاد إلى الشرح والتفسير، دون الغوص في الجماليات والبنية، واعتمدوا في رؤاهم النصية على البلاغة العربية التقليدية بنظراتها الجزئية، دون رؤية كلية، ولا استراتيجية شاملة. فأضحى النقد العربي ما بين آراء انطباعية مجانية، ونظرات جزئية، واتجاهات موضوعية، وقضايا شكلية.
فكان لا بد من تطوير الدراسات النقدية والاستفادة من المناهج العالمية، التي استفادت من الثورات المعرفية في العلوم الإنسانية، مثل علم اللغة على يد فرديناند دي سوسير، وعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والتناص والتأويل وغيرها، فانبقثت منها منهجيات عميقة المرجعية، واضحة المعالم، جلية في إجراءاتها، كلية في رؤاها، تنظر للجزء في ضوء الكل، والكل كيف ينعكس على الجزء، ناهيك من المداخل العديدة والفريدة في قراءة النص، ما بين لغوية وبنيوية وأسلوبية وسيكولوجية وسوسيولوجية ورمزية تأويلية. ونحن هنا لا نتجمد عندها، وإنما ننظر إلى واقع نقدي عربي متكلس، وواقع نقدي غربي متحرك.
أمر آخر، لا بد من الإشارة إليه، يتصل بطبيعة أساتذة النقد الأدبي العرب، الذين آثروا رفع شعارات الرفض وليس الاطلاع، ربما لأنهم غير مستعدين لتطوير أنفسهم معرفيا أو منهجيا، ولأن الرفض تحت شعار الهوية مريح نفسيا وفكريا، أو لأن طريقة تقديم المناهج الحداثية غلبها الغموض، وغاب عنها التطبيق المثمر في أحايين كثيرة، خاصة في حقبة النقل الأولى، وكلها دالة على تعقد المشهد وضبابيته.
فلا بد من الإقرار بأن تطوير مناهج النقد 
فلا   بد من الإقرار بأن تطوير مناهج النقد الأدبي في الساحة الثقافية العربية لم يكن ليتأتى إلا بالاطلاع على المنجز النقدي الغربي، وعلى فلسفاته المنبثقة منها، على أن يكون اطلاع مثاقفة وليس استلابا، واطلاع محاورة وليس انقيادا، واطلاع استفادة وليس استهواء؛ أي تتم عملية المثاقفة من خلال ترجمة أمهات كتب النقد ومدارسه، والتعريف بها بشكل موضوعي، دون انبهار أو اختيال من الناقل، ودون تنديد أو إنكار من المنقول إليه. فالمعركة التي نشبت، وتحولت إلى صراع ديني في بعض وجوه، فهناك من اتهم الحداثة والحداثيين بالكفر، غير مفرق بين المنهجيات التي قدمت الكثير في القراءة العميقة لأدبنا المعاصر وتراثنا العظيم، وبعض الفلسفات التي قد تكون بالفعل بعيدة عن هويتنا الثقافية، التي لن ندرك تنائيها إلا بالاطلاع عليها؛ اطلاع الند، وليس اطلاع الاستلاب وشتان ما بينهما.
أما لغة الخطاب النقدي الحداثي، فلا بد أن نقر بأنها اتسمت بكل ما فيه من غموض ومصطلحات، ومنحى تفلسفي، على الرغم من كونها مفعمة بالحماسة والثراء، إلا أنها كانت نخبوبة غامضة في كثير من مواضعها، غير ميسرة للقارئ المثقف أو القارئ العام، والسبب في رأينا، عائد إلى تأثر نقاد الحداثة بشكل جلي بالخطابات النقدية الحداثية الغربية، وبطروحات الجيل الأول من الحداثيين العرب ومنهجياتهم ونظراتهم النقدية، وهو ما ظهر في نحت بعضهم لمصطلحات ومفاهيم غارقة في التفلسف والتقعر. وهي النقطة التي ينبغي أن نقف عندها مؤكدين أن لغة الخطاب النقدي، لا بد أن تكون واضحة غير سطحية، دانية القطوف غير غامضة، تقلّ فيها الصور والرموز والتراكيب لصالح وضوح الفكرة والتحليل والمثل، فأبرز ما يميز معالم خطاب المؤلف النقدي أنه مزيج من اللغة الإبداعية، والمفعمة بالرموز والأخيلة والإشارات الثقافية والمعرفية الدالة، مع كثرة المترادفات والنعوت والتراكيب اللغوية.
فبعض كتب النقد الحداثي على كل ما فيها من جهود مبذولة، ومراجع مذكورة، إلا أن المحصلة النهائية في رأينا تظل محدودة إن لم تكن قاصرة؛ فأزمتها ببساطة كامنة في أمرين: الأول: اشتغالات منهجية متعددة المداخل، كثيرة المصطلحات، دون تيسير في الخطاب النقدي، ما شتت انتباه القارئ، وجعله يشعر بتيه هذا الخضم الهائل من الكلام المتدثر بعباءة الحداثة والتجديد والمنهجية.
والأمر الثاني: صعوبة الخطاب النقدي وإغراقه في التفلسف، وغموض التحليل، وكثرة استخدام النعوت والإضافة والمصادر الصناعية، الأمر الذي يجعلنا نتأمل الفرق بين تحليل الناقد الحداثي، ونصوص الأدباء أنفسهم، فنكتشف أن النص الإبداعي أسهل كثيرا من التحليل النقدي، وتلك من ملامح أزمة الخطاب الحداثي العربي.