السبت 23 تشرين الثاني 2024

الانتخابات اللبنانية بين أوهام الناشط وحيرة المتغلب


النهار الاخباريه  وكالات
أحدٌ ليس بمقدوره الإستشراف منذ الآن، إلى أي درك سيكون قد وصل الإنهيار الاقتصادي والمالي في اليوم المزمع فيه إجراء الانتخابات التشريعيّة اللبنانيّة.
ويبدو أنّ الوهم حول تحسّن ولو طفيف للوضع من بعد تشكيل الحكومة الحالية قد تبدّد. وهو في أساسه وهم ما كان يستند إلى شيء، باستثناء الرغبة في الوهم.
فالبلد الذي يراد له أن يخرج من شتاء موشك، لا كهرباء فيه ولا وقود ولا تدفئة، ولا تبديل فيه قيد أنملة لمعادلات الاكتناز والتغلّب التي تحكمه، ثم يراد له أن يقبل بعد ذلك، بحماسة وشهيّة، على ربيع «الاستحقاق» واللوائح المتنافسة والمرشّحين المتزاحمين فيما بينهم على اللائحة الواحدة لتأمين الحواصل المطلوبة، ليس ببلد مدعوّ أصلاً لأن «يأخذ مصيره بيده» عندما تفتح صناديق الإقتراع.
وبالأخص، كلّما كان الاستحقاق منفصلاً، حدّ التوازي الخرافي، مع الكارثة الحيّة المستفحلة يوميّاً والتي تبدو مستعصية ولا نجاة منها إلا على الصعيد الفردي.
هذا الفاصل العميق والحادّ بين معاش الناس في الأشهر التي تفصلهم عن الانتخابات، والمفترض أن تكون بهذا المعنى موسماً انتخابياً، وبين الاستحقاق نفسه، هو فاصل يزيد ولا ينقص كلما جرى الإمعان في استحضاره بالابتذال والابتزاز.
والكارثة المستفحلة قد لا تلغي الاستحقاق نفسه، إلا أنّها لزام تمسخ «العرس» أي موسم الصخب الانتخابي، وبخاصة عندما يتسابق المتبارون إلى التفجّع حيال كارثة تحطيمية للمجتمع بهذا القدر، أو إلى الزجر الإنتخابي للناس بأنكم، ما لم تنتخبوا كيت وكيت من هؤلاء المتطوعين الأشاوس للخدمة العامة وتحرير الشعب، فإنكم تتحملون مسؤولية ازدياد أوضاعكم سوءاً، أكثر مما هي وصلت إليه.
بل هناك من سيتفنن بالتذكير الهزليّ بأنه سبق وحذر الناخبين في دورات سابقة ولم ينتخبوه، فتسبب حجب أمثاله عن الندوة البرلمانية الى خسارة وطنية هائلة دفع الناس ثمنها تبديداً لودائعهم وتضييعاً لأرزاقهم.
الانتخابات العتيدة محكومة بهذا المعنى بـ«قانون عجيب» يمكن تكثيفه كالتالي: أي انطلاق من الأوضاع الحالية والمتسببين بها سيظهر هوة غير قابلة للتجسير بين أيّ من المرشحين وبين جموع الناخبين. ليس بتسميك الرياء يمكن تجسير الهوة. بالعكس، كلما صاح المرشّح بأنه آت من ضمير وأوجاع الناس كلما استشرس الهزل وزادت الهوة.
فالكارثة الاقتصادية والحياتية يعيشها البلد منذ عامين، يضاف اليها انقطاع السبل بانتفاضة الناس التي حاولت، في وقت واحد، التصدي لبدايات ظهور الكارثة والهروب الى الأمام منها.
إلا أنّ البناء على ذلك للتأمل بأن تكون الانتخابات مناسبة للثأر من الكارثة والمتسببين بها أو للثأر للانتفاضة المبتورة والمتسببين بانسداد السبل أمامها هو «تأمّل متكدّر» في أقلّ تقدير.
أولا، لأنه ما لم يكن بوسع المنتفضين تحقيقه في الميادين والشوارع ليس يمكن توليده في صناديق اقتراع. هذا ما لم يُنظر في أصل المشكلة التي عطبت الشارع نفسه. وهي عدم قدرته على تحديد الخصم المرحلي بشكل واضح يربط رأساً بين تحديد الخصم وتحديد سبب الخصومة وتحديد وسائل الخوض في هذه الخصومة وشروط الفوز فيها.
بدلاً من تحديد الخصم بشكل يظهر من بعدها اذا كان ينفع مجابهته في الشارع فقط، أو بالانتخابات بالأحرى، أو على كافة المستويات، فقد انتشر نوع مما يمكن تسميته «الجذرية الهلامية». كمثل التنديد بـ«منظومة الفاسدين» دون الشرح مثلا أين تكمن عقدة الوصل في هكذا منظومة، وأين تكمن حلقتها الأضعف، وهل الأنجع التصدي لعقدة الوصل أو للعنصر المسيطر او للحلقة الأضعف.

ثم  هل هناك ما يسوّغ الإكثار من حديث المنظومة من أساس، وبخاصة اذا كان حديثاً سينتهي الى كاريكاتورية خطاب واحد بالمئة ضد تسعة وتسعين بالمئة، ومن بعدها تخيل أن التسعة والتسعين بالمئة من ضحايا هذه المنظومة هم في جيب الناشطين الثائرين، يكفيهم فقط العودة الى ذاكراتهم وتنشيطها، أو الى ضمائرهم والانصات اليها.
يتصل ذلك أيضاً بدوام المكابرة على استمرار القسمة بين منطق 8 آذار، الذي يحمّل الانهيار المالي للحريرية في المقام الأول، وللسياسات الغربية والعربية حيال البلد، وبين منطق 14 آذار، الذي يحمّل المسؤولية الأساسية للوصاية السورية ثم لنظام «حزب الله».
هذه القسمة أعيد انتاجها داخل مجتمع انتفاضة تشرين. إذ ثمة حدود لا يمكن أن يتخطاها من تلقائه شعار «كلن يعني كلن» والذي يُفترض بموجبه أن يتبادل المنتفضون التهديف على من كان قبل الانتفاضة (أو بمعنى أدق قبل حراك 2015) خصماً لبعضهم دون البعض الآخر.
من هذه الحدود، «التفاوت» في درجات التعبير عن الخصومة، وكثيراً ما تكون الخصومة مع طرف لا يمتلك وسائل العنف أسهل من الخصومة مع ممتلكها.
وثمة في المقابل، التفاوت في درجات تصدي القيادات والحزبيات المستهدفة من هذا الخطاب الانتفاضي لحملة هذا الخطاب أو قمعهم او إعادة كبتهم. كلن يعني كلن؟ نعم لكن ليس دائماً بالتساوي.
وحتى حين يحضر التساوي في توزيع المسؤوليات على جميع القوى الممسكة بزمام الأوضاع بالبلد، فإنه سيبدو الى منطق 14 آذار أقرب، وهذا بالذات ما فهمه «حزب الله» باكراً وبوضوح. ليس لأنه تحت تخدير نظرية المؤامرة. بل لأنّ التسييس الوحيد الممكن لحركة 17 تشرين هو في الاتجاه الذي يجعلها وريثة لـ 14 آذار، أي في موقع ابراز الضدية المركزية بازاء حزب الله، وهو ما تترافضه 17 تشرين في نفس الوقت، طالما هي مقتنعة بأن تكرار 14 آذار سيفضي بها الى تكرار النتيجة غير المشجّعة أيضاً.
هذه معضلة لا حلّ لها لا في شارع ولا في قلم اقتراع. أو بمعنى آخر معالجتها مزمنة، بل لا يمكن أن تكون حلا لمشكلة موجودة في مجتمع ما، أو حيال نموذج دولة ما، دون أن تطرح في نفس الوقت مشكلة الأساسات، أي الدعائم الكيانية، ومقومات العقد الاجتماعي السابق على كل عقد سياسي ينبثق منه.
في الوقت عينه، الانتخابات المقبلة ليس بديهياً اجراؤها. لسبب أساسي: لا يمضي أحد اليها وهو مرتاح لمجرى المعركة في نطاقه. وهذا بحد ذاته معطى غير تفصيلي. لن تكون يوم ثأر للانتفاضة، لكن من الصعب أيضاً أن تكون يوم اعادة انتاج بسيطة لنظام الأوضاع القائمة. هي لحظة تأزم مزدوجة، للقوى المتجبرة والمتحكمة، وللمنتفضين عليها أو المنددين.
لم تكن الانتخابات في أي مرة مجرد حفلة تنكرية في لبنان. لا يلغي ذلك ان لا تكون انتخابات في نظام وستمنستر يفرز حزباً أكثرياً يحكم وحزباً أقلوياً يعارض ويمني النفس بانتزاع السلطة تداولاً ولو بعد حين، وأن لا تكون انتخابات في وضع ثوري، يذهب الخاسر فيها الى المقصلة، ولا يلغيه انها في بلد غير مستقل، وهو البلد التي تلتبس فيه الأمور من اليوم الذي أعلن فيه الجنرال غورو استقلاله لحظة بدء استعماره، ولا أنها تجري في ظل تركيبة تجمع بين الاقتراع العام للمواطنين وبين اقصاء الطبقات الشعبية عن التمثيل السياسي الى اوسع مدى.
رغم كل هذا، ورغم فظاظة الرياء عند أي طرف سيدّعي خوض الانتخابات باسم وجع الناس أو تمثيل ثورة مفقودة، في عز الانهيار والكارثة، الا ان الانتخابات تثير توجس القوى المتحكمة، القلق من أن تكون هذه القوى قد فقدت جزءاً من تحكمها، او تكون قد ارتفعت كلفة تحكّمها.
هذا التوجس يبلغ اليوم مستويات أعلى منه في السابق، ولو أن «البديل الثوري» لا يكمن للسستام القائم على قارعة الطريق متجهزاً للتوثب في الصناديق.
والتوجس من طرف المتغلب قد يصل الى درجة يطيح فيها بالاستحقاق. ليس مباشرة لأن الطواويس تتخوف من تبلور مستبعد لنقائضها، بل لأنها بحد ذاتها واقعة في حيص بيص ولا تعرف إن كان الأجدى لها المخاطرة بإجراء الاستحقاق، او المخاطرة بتبديده.