السبت 5 تشرين الأول 2024

أنغيلا ميركيل زعيمه اوروبا تقوم بجولة وداعيه

 
النهار الاخباريه- وكالات
تقطع أنغيلا ميركل بزيارتها المزمعة إلى البيت الأبيض هذا اليوم، شوطاً كبيراً على طريق استكمال جولتها الوداعية على العالم الغربي. فقد حضرت في أواسط يونيو (حزيران) الماضي إلى جانب قادة أغنى دول العالم قمة السبع التي عُقدت في كورنوال. وتوجهت بعد عشرة أيام من تلك المناسبة، إلى قمة دول حلف الناتو لتودع زعماءها قبل أن تلقي تحيات الوداع على قادة الاتحاد الأوروبي حين شاركت في القمة التي عقدوها وكانت آخر اجتماعات على هذا المستوى في الموسم الماضي. ولم يمضِ سوى أسبوع حتى تناولت الغداء مع بوريس جونسون في مقر رئيس الوزراء البريطاني الريفي في "تشيكرز"، ثم تناولت بعد ذلك الشاي مع الملكة في قلعة ويندسور. 
وتوحي الصور التي التقطت لميركل أن لقاءها بالملكة كان مريحاً أكثر من اجتماعها مع جونسون على مائدة الغداء، فقد بدت السيدتان، المتمرستان في مدرسة السياسة الأقل صخباً، كما يمكن القول، وهما تتعاملان بود مع بعضهما البعض وقد ارتاحت كل منهما لصحبة الأخرى. وتعتبر الزيارة التي ستقوم بها ميركل للبيت الأبيض دليلاً على ما تتمتع به من مكانة لا تُضاهى وهي تستعد للانسحاب من المسرح السياسي بعد 16 عاماً من تبوئها منصب المستشارة الألمانية، لا سيما أنها ستكون أول زعيم أوروبي يتلقى دعوة لزيارة البيت الأبيض في ظل سيده الجديد بايدن. صحيح أن جونسون كان أول زعيم أوروبي اجتمع بالرئيس الأميركي الحالي وجهاً لوجه عشية قمة السبع، غير أن ميركل هي أول من يحظى بشرف اللقاء به في واشنطن.
وسيُوجه اجتماع ميركل بالرئيس الأميركي رسالة خاصة للغاية، شأنه في ذلك شأن الجولة الأوروبية التي قام بها بايدن أخيراً. وقد تكون المكاسب التي سيحققها الرئيس من هذا الاجتماع قليلة، باعتبار أن مستشاراً جديداً سيتسلم زمام الأمور في برلين بحلول عيد الميلاد، وربما سيكون على رأس ائتلاف حاكم يجري تشكيله بصورة مختلفة عن الحالي. بيد أن مباحثاته مع ميركل ستعزّز الانطباع الذي دأب على التشديد عليه خلال جولته الأوروبية بأنه رئيس مختلف كل الاختلاف عن سلفه دونالد ترمب. 
وإذ سيكون التناقض بين بايدن وترمب مدهشاً، فإن ميركل ستكون هي نفسها، الزعيمة الألمانية المعهودة لا أكثر ولا أقل. وقد ازدادت مكانتها أهمية خلال ولايتها الرابعة الحالية، حتى صارت أشبه بالزعيمة المعترف بها لأوروبا كلها. والواقع أن أي زعيم وطني أو أوروبي في السنوات الأخيرة لم يقترب من المستوى الذي بلغته ميركل لجهة تمثيل القارة الأوروبية على المسرح الدولي بالحنكة والمرجعية اللتين تتمتع بهما. إلا أنها لم تسعَ إلى أداء هذا الدور، بل لقد فُرض عليها بفضل قيادتها الطويلة وفطنتها الشخصية وكفاءتها المعترف بها في إدارة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
يصعب التوفيق حالياً بين شخصية ميركل في وجهيها المختلفين. فهي من جهة، امرأة مألوفة جداً، بقصة شعرها الأشقر القصير وزيها الذي يشتمل على زوجين من الأحذية البسيطة والسراويل السوداء التي ترتديها مع عدد غير محدود من السترات الملونة. بيد أنها من جهة ثانية، الفتاة المبتدئة في عالم السياسة التي بدأت تسلق سلم المسؤولية في الحزب والحكومة بصورة منهجية وهي لا تزال في العقد الثالث من عمرها قبل أن تنقلب بقسوة على هيلموت كول، الذي كان قد شملها برعايته، علماً أنه يعتبر على الرغم من عيوبه الأب الجليل لمشروع إعادة توحيد الألمانيتين.
وصلت ميركل في عام 1990 إلى برلمان (بوندستاغ) ألمانيا التي كانت قد توحدت للتو كنائبة عن دائرة انتخابية في ألمانيا الشرقية سابقاً. وصارت بعد عشر سنوات زعيمة "الحزب الديمقراطي المسيحي" (سي د يو). وقد خدمت بين عامي 1990 و2000 في مناصب عدة، استهلتها بعضوية حكومة كول حيث عملت على التوالي كوزيرة لشؤون النساء والفتيات ثم وزيرة للبيئة. وانتُخبت في أعقاب هزيمة كول الانتخابية عام 1998، أميناً عاماً للحزب ورئيسة له (زعيمة الحزب). وتولت عام 2002 زعامة التحالف البرلماني المعارض لحزب "سي د يو" وشقيقه حزب الـ"سي أس يو" ( الحزب الاشتراكي المسيحي)، وتلك كانت نقطة التحول التي شهدت اختيارها منذئذ مرشحة لجناح يمين – الوسط لمنصب المستشار في الانتخابات التي كانت ستجرى في عام 2005.
كانت ميركل "أوسي"، وهو الاسم غير المحبب الذي أطلقه أحياناً الألمان الغربيون على مواطنيهم من الشرق، بداعي الاستخفاف والهزء. وقد قضت حياتها في بلدة صغيرة هناك، عمل فيها والدها كاهناً للكنيسة اللوثرية البروتستانتية، هي "تيملين"، الواقعة إلى الشمال من برلين المقسمة في ذلك الوقت. كان لدى العائلة أقارب في الغرب زودوها أحياناً أشياء كانت تعتبر في تلك الأيام في ألمانيا الشرقية من الكماليات، مثل بنطال الجينز، كما قضت معهم عطلاتها من حين إلى آخر. وخلافاً لذلك، فقد اتبعت ميركل طريقاً تقليدياً. فهي تجنبت السياسة ومضت بعد تخرجها من جامعة لايبزيغ بشهادة في الفيزياء لتحصل على منصب بحثي في ما كان يسمى أكاديمية العلوم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي اتخذت من برلين مقراً لها. 
وكانت ميركل شخصية تدعو إلى الفضول في "الحزب الديمقراطي المسيحي" بوصفها 
بروتستانتية، وامرأة، ومطلقة علاوة على ذلك، إذ كانت قد انفصلت عن زوجها أولريخ ميركل بعد زواجهما المبكر الذي دام خمس سنوات. بيد أن مصدر ذلك الفضول كانت امرأة نفيسة، جسّدت مسيرتها السياسية حتى ذلك الوقت كل ما كانت ألمانيا الموحدة تطمح إليه.
ولاحظ البعض حتى في تلك المرحلة المبكرة أنها تتمتع بطموح طاغ وعزم لا يلين يخفيهما مظهرها الخارجي الخجول الذي ينمّ عن التواضع وإنكار الذات. لكن سواء كانت تلك الحماسة لديها في البداية، أو أنها طورتها في مرحلة لاحقة، فهي أثبتت أنها على مستوى المسؤولية التي كانت تُناط بها في كل ترقية حصلت عليها في ما بعد، ولم تكن لتستطيع المضي قدماً إلى الأمام في حزب ومؤسسة سياسية تهيمن عليهما العقلية الذكورية لو أنها لم تثبت تمتعها بكفاءة قياسية. 
ثمة حادثان على وجه الخصوص يوضحان الطموح الذي كانت تتحلى به ميركل. يتمثل الأول في خطوتها الجريئة التي كانت قاسية وتاريخية فعلاً، للانشقاق عن كول، مع الاعتراف بأن عبء الفساد الناجم عن تورطه في مشاريع تمويل حزبية غير قانونية، كانت أكبر من قيمته للحزب بوصفه المستشار الذي قام بتوحيد الألمانيتين بعد انهيار جدار برلين.

شكلت أزمة اللاجئين في عام 2015 نقطة عالية – منخفضة بالنسبة لولاية ميركل كمستشارة ألمانية. فمن جهة، كان قرارها بقبول ما يزيد على مليون لاجئ مدعاة للإعجاب ودليلاً حياً على كيفية عمل ألمانيا الحديثة التي صارت في أعقاب الحرب شاملة لا تميز بين شخص وآخر ومتسامحة إلى حد بعيد. لكن من جهة ثانية، سرعان ما تلاشى الترحيب الشعبي وأخذ قرار ميركل يراكم سلفاً صعوبات محتملة، حتى بالنسبة لدولة كألمانيا معروفة باتباع طرق فعالة في استقبال الوافدين الجدد. وكانت الأعمال الإرهابية علاوة على سلسلة من الاعتداءات الجنسية في كولون وأماكن أخرى بعد رأس السنة الجديدة، بمثابة الهدايا الثمينة لليمين المتطرف، الأمر الذي جعل فوز ميركل بولاية رابعة في عام 2017 أشد صعوبة مما لو لم تكن أزمة اللاجئين وتداعياتها موجودة.
ومع هذا، كان لقرارها بالإسراع في إنهاء الطاقة النووية في ألمانيا تأثير غير مباشر على وجه آخر من وجوه سجل ميركل، وهو العلاقات مع روسيا. فقد باتت علاقة الحكومة الألمانية وثيقة أكثر بالخطط لمدّ أنابيب غاز جديدة من روسيا إلى نوتردام2، وهي الخطط التي قوبلت بمعارضة قوية في أنحاء أوروبا ومن الولايات المتحدة، باعتبار أن ذلك أدى إلى زيادة اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية كما حرم أوكرانيا من رسوم عبور الأنابيب.
أما على المستوى الشخصي، فهي تعيش حياة متواضعة، مفضلة البقاء في شقتها الخاصة على السكن في مقر إقامة المستشار الرسمية في برلين، كما تتسوق في مخزن السوبرماركت المحلي. وقد لوحظ مرة في المراحل الأولى لتفشي الجائحة أن سلة التسوق التي كانت تضع فيها مشترياتها لم تضم سوى بعض الكرز والصابون وورق التواليت وزجاجة نبيذ من النوع العادي. وتطهو ميركل بنفسها نوعاً من الحلوى التقليدية هي "كعكة البرقوق الألمانية"، كما تقضي عطلاتها في المشي أو التزلج بين المناطق الريفية أو في الاسترخاء بجزيرة إيشيا الإيطالية. وتحب المستشارة الأوبرا، ما حملها على حضور مهرجان فاغنر السنوي في بايرويت (البلدة البافارية التي تضم مسرحاً بناه ريتشارد فاغنر) بانتظام، برفقة زوجها الذي يعتبر شخصية أكثر تحفظاً من دينيس تاتشر، زوج مارغريت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة. 
تمثل المعلومات الواردة أعلاه إلى حد بعيد كل ما كشفت عنه ميركل. لكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أن كل سنوات عملها الطويلة في ميدان السياسة كانت نقية مئة في المئة، لم تعرف على الإطلاق أي أثر للفساد أو المحسوبيات أو أي نوع من الممارسات غير المناسبة. فميركل لم تتوسط يوماً لأحد ولم تعمد في حياتها إلى ضمان فوز بعضهم بعقد ما، كما لم تعين قريباً أو صديقاً في مجلس إدارة شركة أو مؤسسة، أو تقدم أطروحة تمت سرقة محتواها لنيل شهادة أكاديمية. وبدت المستشارة الألمانية ضعيفة مرتين، الأولى حين ظهرت وهي تستعمل عكازين بعد حادث تزلج في عام 2014، والثانية كانت في فترة أقرب عندما كانت تعاني من رعشة واضحة، ويبدو أن هذه الحالة قد انتهت بسلام. وكانت كل من هاتين المناسبتين اللتين بدت فيهما حياتها في خطر، استثنائية أثارت القلق في أنحاء العالم.
مرّ ما يقرب من ثلاث سنوات على إعلان ميركل استقالتها من زعامة حزب "سي د يو" وأنها لن ترشح نفسها في الانتخابات المقبلة وستترك السياسة بعد تشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من فشل ميركل في تسليم عصا القيادة إلى أنغريت كرامب- كارينباور، وزيرة الدفاع الحالية التي اختارتها لتكون خليفة لها إلا أنها أثبتت أنها غير مناسبة لذلك الدور، فالمستشارة تحظى باحترام واسع، أو مودة، في دوائر السياسة الألمانية وخارجها. ولئن كانت إطلالتها الوداعية في كل من مؤتمر حزب "سي د يو"، والاتحاد الأوروبي والبرلمان الألماني، عبارة عن مناسبة هادئة تحمل طابعاً مهنياً واضحاً، فقد قوبلت في كل منها بعاصفة طويلة من التصفيق. 
وقد قضت في آخر إطلالة لها في الـ"بوندستاغ" ما يزيد على ساعة كاملة في الإجابة على أسئلة النواب عن تأملاتها بشأن التحدي المقبل الذي ستواجهه ألمانيا وعن التوصيات التي ستقدمها لخليفتها. وإذ لفتت إلى أنه لم يكن هناك آي فون حين تسلمت مقاليد السلطة في البلاد، فهي خصّت الرقمنة والوصول إلى المعلومات بالذكر قائلة في ختام مداخلاتها "كلما حصلت على مزيد من المعلومات كلما زادت فعاليتك". ثم لم تلبث أن وضعت أوراقها في حقيبتها قبل أن تنحني تعبيراً عن شكرها للحضور حين ضجت القاعة بالتصفيق.
ونظراً إلى أنها ستتقاعد من العمل السياسي في غضون أسابيع، فالأرجح أن مباحثات ميركل في واشنطن ستكون تأملية يفكر فيها الطرفان ببعض ما جرى في الماضي وبما يمكن أن يحصل في المستقبل، ولن تشتمل على صناعة السياسات. فالزعيمان يتمتعان بخبرة طويلة وقد استفادا، كل بطريقته، من نهاية الحرب الباردة. ويمكن أن تُترك معالجة مسائل مثل الخلافات الأميركية- الأوروبية بشأن التجارة والسياسة الواجب اتباعها حيال الصين، إضافة إلى شكاوى واشنطن الدائمة من قلة الانفاق الدفاعي الألماني، لخليفة ميركل. ومن المرجح أن يحل محلها آرمين لاشيت، زعيم حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الذي يُتوقع أن يفضل الاستمرارية على التغيير.