لبنان: "مستشفى الشرق".. بلا أطباء هربا من البطالة والضائقة الاقتصادية والمعيشية
نجيا دهشة
يعيش اللبنانيون مجموعة من المآسي، سياسية واقتصادية ومعيشية وصحية. كل الأزمات متلاحقة ومترابطة ببعضها، يصعب العمل على حل واحدة دون الأخرى، فيما يدفع القطاع الصحي في لبنان الثمن غاليا في وقت هو بأمس الحاجة اليه مع تفشي جائحة كورونا التي تعصف به، كما سائر دول العالم، كل يوم يتهاوى نتيجة هذه الأزمات بدء بالانهيار الاقتصادي، مرورا بانفجار مرفأ بيروت الكارثي، وصولا إلى العجز عن تأمين المستلزمات الطبية والأدوية واستنزاف الطواقم الصحية، حتى قيل ان "الجيش الابيض" يحارب بلا اسلحة فعالة.
ولبنان الذي عاش عصرا ذهبيا ولقب بـ "مستشفى الشرق" نظرا لكفاءة طواقمه الطبية والتمريضية، يعيش اليوم في غيبوبة داخل غرفة "العناية الفائقة"، ويشكو القطاع الصحي من "التعب الشديد" بعد توالي النكسات المعنوية واللوجستية التي يدفع ثمنها الكادر الطبي، حيث بدأت ظاهرة هجرة الاطباء والممرضين تتقدم في مشهده اليومي، بعدما هاجر نحو 1000 طبيب في الأشهر الماضية، وينتظر مئات آخرين دورهم بعدما جهزوا أوراقهم ووجدوا بكفاءاتهم فرص عمل كثيرة في الخارج.
وكشف نقيب الأطباء البروفسور شرف أبو شرف، عن تقدم مئات الأطباء من النقابة لطلب ملفاتهم وإفادات استعداداً لمغادرة البلاد، منبهاً لكارثة حقيقية في حال استمر النزيف الحاصل في القطاع الطبي، مشيرا إلى تهافت دول أوروبا وأميركا، كما الدول العربية المجاورة، على توظيف الأطباء والممرضين اللبنانيين، وكل العاملين في القطاع الاستشفائي، نظراً لمستوياتهم العلمية وخبراتهم الكبيرة.
وواقع الهجرة، ليس مبالغا فيه، يكفي فقط رقم الـ100 طبيبا تركوا مستشفى الجامعة الأميركية أخيراً الى الخارج كي تكتمل الصورة. الأمر نفسه يحدث في مستشفيات أخرى كبرى، كـ"الروم" و"كليمنصو الطبي"، من دون أن تتضح الأرقام النهائية، لأن البعض "لا يزال يطّلع على العروض أو ينتظر ردوداً"، على ما يقول أحد الأطباء الذين اتخذوا خيار الرحيل، مؤكداً أنه كلما سنحت فرصة هجرة لأحدهم "ما عم يقصّر".
والمقلق في تلك الظاهرة ليست الأرقام في حدّ ذاتها، بقدر ما هي الفئة العمرية التي يعوّل عليها في القطاع الاستشفائي، إذ إن أعمار غالبية المهاجرين تراوح ما بين 35 و55 عاماً، وهذه الفئة العمرية، تشكّل عصب القطاع والجيل الأهم الذي تعوّل عليه المؤسسات الاستشفائية. صعوبة اختفاء هؤلاء تكمن في فقدان صلة الوصل مع جيل جديد "يتعلّم منهم"، لكونه غير متمرس بما يكفي، ومع جيل كبير لا يملك التقنيات التي تملكها الفئة المهاجرة، وهو ما يحدث فراغاً كبيراً.
ويقول الطبيب زياد الحلو، بعدما ترك مستشفى الجامعة الاميركية وهاجر الى افريقيا، "الخيار كان صعبا، لكن الاصعب كان البقاء في لبنان في ظل الاوضاع الراهنة وخاصة كل القطاعات منهارة وليس هناك اي امل نهائيا".
"أي وجهة أفضل من البقاء هنا"، يقول الطبيب فريد عيتاني الذي بات في عداد المهاجرين، بعدما فقد راتبه قيمته الشرائية الفعلية مما يراكم عليه من التزامات، كالتعليم والمعيشة والسكن اضافة الى احتجاز أمواله في المصارف، كما باقي المودعين.
واكدت طبيبة مريم الحسن، بعدما وصلت الى دبي، "كنا نعمل باللحم الحي، إذا نظرت إلى هذا الوضع، فما الذي يمكن للطبيب فعله، يأتي المريض فلا تستطيعين صرف الدواء له لأن أكثر الأدوية غير متوفرة، ولا تستطيعين زيادة سعر الكشف للمريض غير القادر، وبالتالي بات الخيار أمام من يعملون في القطاع الصحي هو الهجرة ".
ولفت احد الممرضين التي تلقى عقد عمل في دولة اوروبية، "أنه في بعض الأحيان عندما يصاب الممرض بفيروس كورونا كان المستشفى يخصم من راتبه عند حصوله على إجازة، رغم القرار الرسمي الذي صدر عكس ذلك وفرض على المؤسسات الصحية دفع إجازات المرضى بالفيروس، في وقت صرفت دول أخرى رواتب إضافية وتحفيزات للعاملين في هذا القطاع".
هجرة الاطباء والممرضيين بهذه الوتيرة السريعة أمر يدعو إلى القلق على مستقبل الصحة في لبنان ومستقبل المهنة، فهل يصبح "مستشفى الشرق بلا أطباء".