النهار الاخباريه وكالات
جاء أنطونيو غوتيريش إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة حاملًا إرثًا سياسيًا وفكريًا، ينبع من خلفيته السياسية والأخلاقية حين كان شاباً أيام "ثورة القرنفل" التي أطاحت بالنظام الديكتاتوري في البرتغال، ما جعله مناصرًا قويًا لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ومناهضًا للاستعمار بكافة أشكاله.
هذه الشخصية المختلفة عن تلك الصورة التي رُسِمَت في أذهاننا لعقود عن مواقف الأمين العام لم تكن لتروق لإسرائيل، خاصة مع وضوح غوتيريش في إدانة سياساتها الاستيطانية وممارساتها الاستعمارية في فلسطين أمام المجتمع الدولي. فقرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، الأسبوع الماضي إعلان غوتيريش، "شخصًا غير مرغوب فيه" في إسرائيل.
قرار المنع كان ردًا على ما اعتبرته إسرائيل "إخفاقًا" من غوتيريش في إدانة الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على أراضيها. و ما أثار حفيظة إسرائيل بشكل خاص هو منشور الأمين العام على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) عقب الهجوم، حيث كتب: "أدين اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، وهذا يجب أن يتوقف". كانت هذه العبارة بمثابة رسالة تحمل من الحياد والإنصاف ما لا يتماشى مع رغبة إسرائيل التي تسعى لإشعال حرب إقليمية وإعادة رسم الشرق الأوسط كما يرغب بنيامين نتنياهو، فكان يتوقع قادة الاحتلال موقفًا أشد حزمًا تجاه ما وصفوه بـ"التهديد الإيراني".
ربما هذه ليست محطة الصدام الوحيدة بين الرجل وبين قادة إسرائيل. إذ كان له منذ بداية الحرب موقفا حازما يطالب بوقف إطلاق النار. فبعد عملية "طوفان الأقصى"، خاطب مجلس الأمن الدولي برسالة واضحة أدانت الهجمات، لكنها وضعتها أيضًا في سياقها التاريخي. فتحدث بلهجة جريئة ومباشرة قائلاً: "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث في فراغ".. فقد عانى الفلسطينيون من 56 عامًا من الاحتلال الخانق، ورأوا أراضيهم تُلتهم من أجل المستوطنات، وابتلوا بالعنف، واقتصادهم مخنوق، وشعبهم مشرد، ومنازلهم تُهدم."
كلمات غوتيريش كانت كالشرارة التي أشعلت غضب الحكومة الإسرائيلية. فخطابه الشهير لم يقتصر على إدانة الطرفين، بل أصر على أن هجمات المقاومة، مهما كانت مرعبة على حد وصفه، "لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني".
عدم تماهي غوتيريش مع السردية الإسرائيلية الغربية التي تقول أن " إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، أغضب إسرائيل لدرجة أنها طالبت باستقالته وأعلنت أنها سترفض منح تأشيرات لموظفي الأمم المتحدة رداً على ذلك.
عدم تماهي غوتيريش مع السردية الإسرائيلية الغربية التي تقول أن " إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، أغضب إسرائيل لدرجة أنها طالبت باستقالته وأعلنت أنها سترفض منح تأشيرات لموظفي الأمم المتحدة رداً على ذلك.
ويأتي هنا السؤال، وسط موجة الدعم الغربي المطلق لإسرائيل، كيف استطاع أنطونيو غوتيريش، من خلال قيادة مؤسسة دولية مترهلة و محدودة القوة التنفيذية مثل الأمم المتحدة، أن يقف هذا الموقف العادل ويدافع عن حقوق الفلسطينيين؟
فمن هو أنطونيو غوتيريش ؟
تصف الكاتبة تيريكسا كونستنلا في مقال لها بصحيفة El País الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه "شوكة في خاصرة إسرائيل"، وذلك لا لشيء إلا لأنه رجل يلتزم بمبادئه.
وُلد غوتيريش في لشبونة بالبرتغال قبل 74 عامًا لأسرة فقيرة، لكنه اليوم صار ذلك الرجل، المعروف بأنه يحمل رسالة قوية بصوت خافت، رغم ذلك تشير تيريكسا أن كل عام يسعى غويتريش في الابتعاد أكثر فأكثر عن شخصية الأمين العام المشلول بسبب السياسة التي تحرك العالم خلف الكواليس.
مدينة لشبونة – shutterstock
إذ كان له دور بارز في التوصل لاتفاق لتصدير الحبوب خلال الصراع بين روسيا وأوكرانيا وتركيا، كما كانت تصريحاته بشأن مخاطر تغير المناخ أكثر صرامة من المعتاد في الدبلوماسية الدولية، حيث حذر في خطاب له قائلاً: "لقد فتحت الإنسانية أبواب الجحيم". ولم يتردد في انتقاد الشركات الكبرى، متهمًا إياها باستخدام المال والنفوذ لتأخير الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون عبر "التأخير والتشتيت والخداع".
و عندما بدأت الحرب في غزة، كانت تصريحاته أكثر وضوحًا وصراحة مما توقعته إسرائيل أو ترغب فيه. ورغم الضغوط الهائلة، صرح قائلاً: "لن أستسلم رغم فشل مجلس الأمن"، متعهدًا بمواصلة السعي للوصول لوقف إطلاق النار، حتى لو كانت القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، تقف عائقًا أمامه، حيث قال بوضوح بعد أن منعت أمريكا مجلس الأمن من وقف إطلاق النار، سيداوم السعي لوقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أن "مجلس الأمن مشلول بسبب الانقسامات الجيوستراتيجية".
ووصف المؤسسات الدولية بأنها "عفا عليها الزمن" فقد تجاوزها منذ 80 عامًا، وقرر استخدام المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة ورغم أنها لم توقف الحرب، إلا أنها كانت أداة قوية بيده لم يتوانى أن يستخدمها. ورغم غضب إسرائيل واتهام وزير خارجيتها إيلي كوهين له بأنه "تهديد للسلم العالمي"، لم يتراجع.
في أعقاب تصريحاته حول الحرب في غزة، والتي أثارت غضب إسرائيل، أشارت باربرا ريس، رئيسة تحرير صحيفة بوبليكو السابقة، إلى أن موقف غوتيريش ربما يأتي من "تقليد طويل في السياسة البرتغالية: كل شيء من أجل فلسطين، ولا شيء ضد إسرائيل".
فعلى الرغم من تعاقب 29 حكومة بمختلف توجهاتها السياسية في البرتغال على مدار 50 عاماً، بقي موقف البرتغال ثابتًا في دعم حقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عن شرعية وجود دولة إسرائيل.
لكن بحسب باربرا أيضاَ، لا تعود مواقف أنطونيو غوتيريش الحالية إلى السياسة البرتغالية فحسب، بل تستند إلى مسار أخلاقي بدأه منذ شبابه. فعلى الرغم من دخوله عالم السياسة بعد سقوط الديكتاتورية في البرتغال عام 1974، إلا أن التزامه بالعمل الاجتماعي والعدالة ظهر منذ أيامه كطالب.