بقلم عصام الحلبي النهار الاخباريه
منذ نشأتها في المخيمات الفلسطينية في لبنان، شكّلت اللجان الشعبية إحدى أبرز الأطر التنظيميةوالجماهيرية المرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الجهة المعنية بتنظيم الحياة الاجتماعية والخدماتية للاجئين الفلسطينيين. ومع تعاقب الأزمات السياسية، والانقسامات الفلسطينية، والضغوط الإقليمية، تعرّضت هذه اللجان إلى تحولات بنيوية ووظيفية أثرت على فعاليتها، وأثارت العديد من التساؤلات حول مستقبلها ومكانتها في المخيمات.
نشأة قانونية ودور اجتماعي
تأسست اللجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية في لبنان بصفتها إحدى مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الجماهيرية، وهدفها الأساسي كان تأمين إدارة الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين، ومتابعة شؤونهم الحياتية والخدماتية، بالتنسيق مع وكالة "الأونروا" والجهات اللبنانية المعنية. وعلى الرغم من أنها لا تملك صفة رسمية وفق القوانين اللبنانية" ما عدا اتفاق القاهرة الذي الغي لاحقا من قبل الدولة اللبنانية من طرف واحد"، فإنها اكتسبت شرعية مجتمعية بفعل دورها الوظيفي وكونها احدى اطر منظمة التحرير الفلسطينية.
من الفاعلية والحضور إلى التراجع النسبي
في المراحل التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، لعبت اللجان الشعبية دورًا محوريًا في تنظيم الشأن الداخلي للمخيمات، وكانت صلة الوصل بين سكان المخيم ووكالة الأونروا، ومتابعة الأمور الخدماتية والحياتية، كما ساهمت في ضبط بعض جوانب الاستقرار المجتمعي داخل المخيمات.
لكن مع تصاعد الانقسام السياسي الفلسطيني الذي غذته بعض الدول والقوى الاقليمية، وتراجع البنية التنظيمية لعدد من الأطر الفاعلة، بدأت تظهر أكثر من لجنة شعبية في بعض المخيمات نتيجة الانقسامات الفصائلية المدعومة اقليما، ما أثّر على وحدة القرار وأضعف من قدرة هذه اللجان على أداء دورها كما في السابق.
الاجتياح الإسرائيلي وتداعياته ومحاولات فرض بدائل
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، سعت بعض الأطراف الإقليمية إلى فرض أطر سياسية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذه المحاولات لم تلقَ قبولًا شعبيًا، ولم تنجح في تكريس نفسها كمرجعية. وقد انعكس هذا الفشل على واقع اللجان الشعبية، حيث تفككت بعض البنى، وتعددت التشكيلات في المخيمات، إلا أن اللجان الشعبية حافظت على فاعليتها في عدد من المناطق رغم تعقيدات الواقع الأمني، واستمرت في أداء دورها الاجتماعي والخدماتي.
اللجان وعلاقتها مع المجتمع وجمعيات المجتمع المدني
لا تزال اللجان الشعبية تحتفظ بعلاقات مباشرة مع اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، خصوصًا في الجوانب المتعلقة بالخدمات، والبنى التحتية، والتنسيق مع وكالة الأونروا، وتُعد مرجعًا إداريًا واجتماعيًا على المستوى المحلي.
كما تتفاعل هذه اللجان مع جمعيات المجتمع المدني الفلسطينية واللبنانية والدولية التي تعمل في الوسط الفلسطيني ضمن مجالات تنموية أو إنسانية أو صحية. إلا أن العلاقة بين الطرفين تختلف من مخيم إلى آخر، ويُثار الجدل أحيانًا حول مدى التنسيق المطلوب، وحدود الصلاحيات.
هل للجان دور تنسيقي مع الجمعيات أم بوابة إلزامية؟
ترى اللجان أن من الضروري أن تكون بوابة تنسيق لأي مؤسسة أو جمعية ترغب بالعمل داخل المخيم، بهدف الاطلاع على برامجها والتأكد من انسجامها مع خصوصية المجتمع الفلسطيني، مع الحفاظ على عدم التدخل في إدارة هذه المؤسسات أو التحكم ببرامجها.
في المقابل تتذرع بعض الجمعيات للهروب من دور اللجان الرقابي والتشاركي كبوابة دخول للمخيمات وتنفيذ المشاريع المتعلقة بالمجتمع الفلسطيني ترى أن هذا التنسيق يجب ألا يتحول إلى سلطة فوقية أو عائق بيروقراطي أمام تنفيذ المشاريع.
رؤية مستقبلية للتكامل والرقابة المجتمعية
لضمان استقرار العمل الأهلي والارتقاء بالخدمات في المخيمات، تبدو الحاجة ملحّة لتطوير العلاقة بين اللجان الشعبية والجمعيات المدنية، بحيث تقوم على أسس التعاون والتكامل لا على الصراع . ويُفترض باللجان أن تؤدي دورًا رقابيًا مجتمعيًا يضمن حماية المخيم من الاختراقات الخارجية أو الأجندات غير الواضحة، دون أن تتحول إلى جهة وصاية أو تعيق التنمية وتنفيذ البرامج.
شبهات فساد وغياب الديمقراطية في بعض الجمعيات
رغم أهمية الدور الذي تلعبه جمعيات المجتمع المدني في دعم اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن بعض هذه الجمعيات لم تسلم من الإشكاليات البنيوية. فقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة مؤشرات على وجود ثراء غير مشروع لدى عدد من مديري الجمعيات، ما أثار شكوكًا حول الشفافية والمسائلة، ودفع إلى الحديث عن فساد إداري ومالي في بعض أوجه العمل الأهلي.
كما تعاني بعض الجمعيات من جمود ديمقراطي واضح، حيث لا يزال العديد منها يُدار من قبل مؤسسيها منذ أكثر من 15 أو 20 عامًا دون أي تداول ديمقراطي للمواقع القيادية، ما أدى إلى ترسيخ المحسوبيات، والتدخلات المزاجية، والاستزلام، وأضعف الأداء المهني على المستويات الإدارية والمالية والمجتمعية.
هذا الواقع يتطلب مراجعة عميقة وجادة لضمان استعادة الثقة بين هذه الجمعيات والمجتمع، وتحقيق الشفافية، ووضع آليات رقابية داخلية ومجتمعية، بما يحفظ الدور التنموي الحقيقي بعيدًا عن الاستغلال والفساد.
شبهات أجندات غريبة عن المجتمع المحلي وتحوّل في المفاهيم
يثير بعض اللاجئين مخاوف حقيقية من أن يكون لبعض الجمعيات الدولية أجندات ثقافية وفكرية مغايرة للوعي الوطني الفلسطيني، تسعى إلى إعادة تشكيل مفاهيم الصراع مع الاحتلال من كونه صراعًا تحرريًا وجوديًا إلى مجرد نزاع قابل للتسوية، وذلك عبر برامج تروّج لمفاهيم "السلام"، و"فض النزاعات"، و"التحول الديمقراطي" وفق القوالب الغربية، دون مراعاة الخصوصية الفلسطينية أو البيئة المحلية.
ويُحذر البعض من أن هذه البرامج قد تؤدي إلى إضعاف الهوية الوطنية والوعي الملتزم والمقاوم بكافة المفاهيم والأساليب، وتحويل اللاجئ من فاعل سياسي ومجتمعي إلى متلقٍّ سلبي لمساعدات مشروطة بثقافات غير منسجمة مع مجتمعه.
تواجه اللجان الشعبية في لبنان تحديات كبيرة، لكنها لا تزال تشكّل ركيزة أساسية لتنظيم شؤون المخيمات، وتبقى بحاجة إلى دعم بنيوي وتنظيمي يعيد لها حيويتها، ويمنحها القدرة على العمل بفاعلية ضمن بيئة غير مستقرة.
أما جمعيات المجتمع المدني، فعليها أن تلتزم بروح الشراكة واحترام خصوصية الشعب الفلسطيني، وأن تكون برامجها أداة دعم حقيقي لحقوق اللاجئين، لا وسيلة اختراق ثقافي أو تطبيع فكري. فالرهان اليوم هو على بناء منظومة متكاملة من العمل الأهلي والخدماتي، ترتكز على الثقة، والشفافية، والتنسيق، من أجل كرامة اللاجئ وحقه في العودة، لا من أجل استيعابه أو تهميش قضيته.