النهار الاخباريه- تونس
مع إطلالة أولى أشعة الشمس وسط العاصمة تونس، وتحديداً قرب محطة الأرتال في ساحة برشلونة والشوارع المجاورة لها، يتمركز عشرات الشباب والأطفال في الأماكن الحيوية التي تكثر فيها حركة المواطنين لعرض الملابس المستعملة وإغرائهم بأنها تحمل علامات وماركات عالمية يصعب إيجادها في المحال التجارية الأخرى.
والملابس المستعملة تعرف في تونس باسم "الفريب"، وارتفع الإقبال عليها بشكل لافت في السنوات الماضية، وأضحت أكداسها ومحالها وجهة محبذة لجل التونسيين، لا سيما الفتيات من فئات اجتماعية متعددة.
ومع طلوع النهار تزداد الحركة وسط العاصمة تونس، وترتفع معها وتيرة الإقبال على أكداس الملابس المستعملة المعروضة بسعر يصل إلى نحو دولار واحد أو أكثر بقليل.
ويلاحظ المتجول في العاصمة، وتحديداً في الشوارع المتفرعة من شارع الحبيب بورقيبة، بروز عدد من المحال المتخصصة في بيع الملابس المستعملة.
لكن قبل عام 2011 كانت محال بيع الملابس القديمة والمستعملة مختبئة نوعاً ما عن الأنظار، إذ تنتشر في أماكن بعيدة من حركة وسط العاصمة.
سوق الحفصية
تعتبر سوق الحفصية أعرق وأقدم مكان في العاصمة متخصص في بيع الملابس المستعملة، من خلال انتشار عشرات المحال في مكان ضيق مع مئات الأكداس من "الفريب".
وعلى امتداد عقود، مثلت هذه السوق قبلة محبذة للشرائح الاجتماعية متدنية الدخل، حتى أن المتوجه إلى هذه السوق كان يتوارى عن الأنظار ويرفض حتى أن يفصح عن مكان اقتنائه الملابس في حال ظفره بقطع تحمل ماركات عالمية شهيرة.
تغير المفاهيم
ومع مرور الوقت تغيرت المفاهيم ليصبح الظفر بملابس ذات جودة عالية من "الفريب" مفخرة ومصدراً للتباهي بالقدرة على اقتناء ملابس جيدة بأسعار تراعي القدرة الشرائية في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعرفها البلاد.
وترتفع ذروة الإقبال على أسواق الملابس المستعملة يومي السبت والأحد، باعتبار أن التجار يفتحون أكياساً جديدة من هذا الصنف من الملابس
وتظهر إحصاءات وزارة التجارة التونسية أن قطاع بيع الملابس المستعملة يوفر أكثر من 200 ألف فرصة عمل، إذ تعمل 45 شركة إلى جانب أكثر من 350 تاجر جملة في هذا القطاع.
وتستورد تونس تقريباً بقيمة 70 مليون دولار سنوياً ملابس مستعملة، إما لترويجها في السوق الداخلية أو إعادة تصديرها لاحقاً.
وتؤكد أرقام وبيانات أن نشاط تجارة الملابس المستعملة أضحى يشكل حجر زاوية في المشهد التجاري التونسي، نظراً للإقبال المتزايد على اقتنائها.
ضرورة وليس خياراً
يجمع عدد من التونسيين الذين سألتهم "اندبندنت عربية" على أن اللجوء إلى محال بيع الملابس المستعملة يرجع إلى تدني قدرتهم الشرائية في ظل ارتفاع أسعار السلع، ومن ضمنها الملابس والأحذية التي يصل معدل بيعها إلى ما يزيد على 100 دولار.
وترى ليلى الرداوي (50 عاماً) أن إقبالها المتزايد على "الفريب" أملته الظروف الصعبة التي تمر بها في السنوات الأخيرة بسبب أجرها المتدني، الذي لا يفي بحاجات أسرتها المكونة من أربعة أفراد.
وتعتقد الرداوي، الموظفة في إحدى الشركات الحكومية، أن أجرها الشهري الذي لا يتعدى 500 دولار يجعلها تقوم بتضحيات من أجل توفير متطلبات الحياة اليومية من أكل ونقل ومصاريف الكهرباء والماء والاتصالات.
"الحياة أصبحت صعبة في تونس"، على حد توصيفها، معترفة أن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد أثرت على نفسية عموم التونسيين واضطرتهم إلى التعامل مع هذه الظروف بنوع من حسن التدبير، على غرار تفضيل اقتناء ملابس مستعملة ذات جودة جيدة وأسعار مناسبة.
"الفريب" سيقضي على الصناعة التونسية
من جانبه، أطلق محسن بن ساسي، رئيس الغرفة الوطنية لتجارة الملابس الجاهزة في منظمة "الأعراف"، تحذيراً من الانتشار غير المدروس والمخيف لمحال بيع الملابس الجاهزة، مشدداً على أنه في حال تواصل "غزو" هذا النوع فإن صناعة النسيج التونسية مهددة بالاندثار.
وأكد أن تجار الملابس الجاهزة في تونس، بخاصة العاصمة، ذاقوا الأمرين وأن عدداً منهم أفلس وأغلق أبوابه بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها تونس، وابتعاد التونسيين عن اقتناء الملابس والأحذية الجديدة.
وبرر أزمة تجار الملابس الجاهزة بالوضع الصحي المتردي الذي تشهده تونس جراء انتشار فيروس كورونا، وما نتج عنها من إجراءات لفرض حظر التجول وإقرار الحجر الصحي الشامل أو الموجه.
وانتقد بشدة تجرؤ عدد من الأشخاص على عرض الملابس المستعملة أمام محال التجار المطالبين بدفع الضرائب للدولة، ما يزيد من تعقيد وضعيتهم.
إلغاء تراخيص تجارة الملابس المستعملة
اقترحت حكومة هشام المشيشي المعفاة من مهماتها في يوليو (تموز) الماضي إلغاء 30 ترخيصاً في العديد من الأنشطة التجارية والاقتصادية وتعويضها بكراسات شروط قبل انتهاء سنة 2021 ضمن الاستراتيجية المتبعة لتنشيط الاستثمار ودفع المبادرة الخاصة وتقليص القيود الإدارية وتعدد التراخيص.
واقترحت الحكومة إسناد بطاقة منتفع بحصة لبيع الملابس المستعملة بالتجزئة، وحذف ترخيص لبيع الملابس المستعملة بالجملة.
ومن شأن هذه العملية أن تضاعف من عدد التجار، الأمر الذي ترفضه الغرفة الوطنية لتجار الملابس الجاهزة.
وقال بن ساسي إن "الدولة بهذه القرار فتحت الباب على مصراعيه أمام الاستيراد بعيداً من الإنتاج والإنتاجية وشرعنة عدة تجاوزات وممارسات اقتصادية منها قطاع الملابس المستعملة".
وتابع أن هذا القرار هو ترخيص للاقتصاد الموازي وليس ضرباً له، داعياً التونسيين إلى الإقبال على المنتجات المحلية، في خطوة تضامنية من أجل إنقاذ مئات آلاف فرص العمل والحفاظ على الصناعة التونسية.