الأمن المائي في دول مجلس التعاون الخليجي.. تحديات وإنجازات
المياه العذبة هي أهم مورد على الإطلاق للبشر، فبدونها لا توجد حياة، وبحسب النص القرآني: «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، وكما يحتاج الإنسان إلى مياه الشرب كي يعيش، فهو يحتاج الماء لنشاطه الزراعي والرعوي والصناعي، لهذا يعد الأمن المائي أهم مكونات مفهوم الأمن القومي بمفهومه الشامل لأي دولة. وينصرف مفهوم هذا الأمن إلى ضمان أن تكون حاجة أفراد المجتمع من المياه العذبة متاحة وميسورة لهم. وقد عرف المنتدى العالمي الثاني للمياه عام 2000 بهولندا: «الأمن المائي من مستوى المنزل إلى المستوى العالمي يعني أن يكون لكل شخص إمكانية الحصول على ما يكفيه من المياه العذبة بكلفة يستطيع تحملها ليعيش حياة نظيفة وصحية مع ضمان المحافظة على البيئة الطبيعية محمية ومعززة»؛ ولهذا تعمل الدول كافة لتحقيق هذا الأمن.
والدول العربية كما هو معلوم من أكثر دول العالم معاناة من شح المياه، وأكثر من 362 مليون شخص في العالم العربي يعيشون في حالة شح مائي، وتتفاقم هذه الإشكالية نتيجة عدة عوامل، كالاعتماد على موارد مياه مشتركة، كما هو الحال بالنسبة إلى العراق وسوريا واعتمادهما على موارد مياه متدفقة من تركيا، واعتماد مصر والسودان على موارد مياه متدفقة من إثيوبيا ومن منطقة أعالي النيل في هضبة البحيرات في وسط إفريقيا. ومن بين هذه العوامل أيضا الاحتلال كما في الأراضي الفلسطينية، يضاف إلى ذلك التغيرات المناخية، وعوامل أخرى كالتلوث وهدر المياه وارتفاع نسبة الفاقد منها، والاستخدام غير الكفء لها، وارتفاع معدلات النمو السكاني.
وبحسب تقرير اليونسكو بمناسبة حلول اليوم العالمي للموارد المائية في 22 مارس فإن المنطقة العربية هي الأكثر معاناة من الأمن المائي في العالم، وفيها 14 بلدا من بين البلدان الـ20 الأكثر معاناة من ندرة المياه، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد فيها من المياه المتجددة 12% فقط من الحصة المتوسطة للفرد عالميا، وأكثر من نصف مياه المنطقة يأتي من خارجها.
غير أن الانشغال بقضية الأمن المائي لا يعد شأنا عربيا أو إقليميا فقط، فتقرير اليونسكو بمناسبة هذا اليوم يدق جرس إنذار للعالم كله، فبحلول 2030 سيواجه نقصا شاملا للمياه يقدر بنسبة 40%، وقد يتفاقم هذا الوضع نتيجة حدة قضايا عالمية أخرى، كما أن ندرة المياه تؤثر على أكثر من 40% من سكان العالم، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة، وهناك نحو 1.8 مليار نسمة على مستوى العالم يستخدمون مياها ملوثة، كما يفتقد 2.1 مليار شخص خدمات الصرف الصحي الأساسية، وأن أكثر من 80% من مياه الصرف الناتجة عن الأنشطة البشرية يجري تصريفها في الأنهار أو البحار من دون معالجة، ما يفاقم من أزمة التلوث.
وعد التقرير المياه العذبة باعتبارها التحدي الأكبر الذي سيواجه معظم دول العالم في المستقبل، مع زيادة عدد السكان وارتفاع نسبة الحضرنة، وتغير أنماط الاستخدام، ما يزيد الطلب على المياه في مقابل محدودية مواردها، وأن كثيرا من مناطق العالم متجهة نحو أزمات مائية، وأنه من المتوقع مع ظاهرة تغير المناخ أن تقل الإرادات المائية. وهذا البعد العالمي لأهمية قضية المياه يخدم التحرك الدبلوماسي الذي تقوم به مصر والسودان عالميا نحو إشراك أطراف دولية في المفاوضات الخارجية للوصول إلى اتفاق ملزم يحقق حلا منصفا، يحافظ على الحقوق الوجودية للدولتين وحق التنمية لإثيوبيا.
ومنذ وقت مبكر، أدركت الدول الخليجية الأهمية القصوى لتحقيق أمنها المائي، وعدم انكشاف هذا الأمن والوصول إلى حالة عجز مائي، فعمل كل منها على وضع الخطط والاستراتيجيات التي تساعدها في تحقيق هذا الأمن في ظل افتقادها مياه الأنهار، ومحدودية الأودية الموسمية (تعتمد عليها فقط الإمارات وعمان)، وندرة الأمطار التي تعد المصدر الوحيد لتغذية الأحواض الجوفية، حيث يتراوح معدل هطولها من 1-100 ملم متر سنويا، وما يؤدي إليه زيادة السكان، وارتفاع نسبة الحضرنة، وزيادة الحاجة إلى المياه لأغراض مختلفة، ما أدى إلى الضغط على موارد المياه الجوفية (تعتمد عليها السعودية والكويت والبحرين وقطر)، التي تواجه تحديا خطيرا يتمثل في أن الكمية المستخرجة منها أكبر بكثير من كمية إعادة تغذية المصدر. وتقدر النسبة بـ3 إلى1، فضلا عن أن بعض خزانات المياه الجوفية بدأت في النضوب سريعا. دفع هذا الوضع دول المجلس إلى التوسع في تحلية مياه البحر لسد احتياجاتها المائية المتزايدة رغم كلفتها المرتفعة، حيث بدأت الكويت ذلك منذ 1951، ثم تبعتها كل دول الخليج الأخرى، والتي أصبحت تنتج نحو 70% من الإنتاج العالمي من المياه المحلاة، كما اتجهت إلى معالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها في الزراعة.
غير أن هذا التطور مشوب بالقلق من جهة إرهاقه الميزانيات العامة. وتشير التقارير السعودية مثلا إلى أن الكلفة المالية لإمداد المياه للاستخدامات البلدية تقفز إلى10% من إجمالي الميزانية، أي 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2040، وأنه بحلول هذا العام سوف يكون هناك احتياج يزيد على 8 ملايين برميل من النفط الخام يوميا لعمليات تحلية المياه، وهناك جانب آخر للقلق مصدره نشاط إيران النووي، وإمكانية تلويثه لمياه الخليج. ولتخفيف الضغط على موارد المياه المحدودة فيها فإنها اتجهت إلى سياسة الزراعة خارج الحدود، فأنشأت علاقات تعاون مع عدد من الدول الإفريقية والآسيوية، أتاحت لها القيام بمشروعات زراعية مشتركة بينها. كما أنه للأهمية القصوى للأمن المائي الخليجي فإن الأمانة العامة لمجلس التعاون كانت قد أنجزت عام 2016 دراسة الأمن المائي لدول الخليج، والاستراتيجية الخليجية الشاملة بعيدة المدى بشأن المياه بمعاونة معهد الملك عبدالله للأبحاث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك سعود وبمشاركة فريق من الخبراء الدوليين.
وفي السنوات العشر الأخيرة بلغت نسبة الزيادة في الطلب على المياه في دول الخليج 140%، علما أن 85% من إجمالي المياه يستهلكها القطاع الزراعي. ندرة المياه إذن كانت ولا تزال تمثل أحد تحديات الأمن الإنساني في البلاد العربية والخليجية بشكل خاص، حيث تصنف ضمن التهديدات البيئية الأكثر خطورة، ويبلغ متوسط إمدادات المياه العذبة المتجددة للفرد دون 500 متر مكعب للفرد سنويا في دول الخليج. وأدت ثلاثة عوامل متداخلة إلى زيادة الطلب علي المياه، وهي زيادة السكان، واحتياجات التنمية، والإفراط الزائد في أنماط الاستهلاك.
ومع ذلك عملت دول مجلس التعاون على مواجهة هذا التحدي، فالسعودية عملت على توفير المياه عبر تحلية مياه البحر عالية الكلفة، وإيقاف الهدر المائي المقدر بـ30% من إجمالي كمية المياه المحلاة سنويا بخسارة تربو على نحو 6 مليارات ريال سنويا، فضلا عن تخفيض الاستهلاك الزراعي للمياه عن طريق تغيير السياسة الزراعية بالاعتماد على استيراد المحاصيل ذات الاستهلاك العالي للمياه، واستئجار أراض زراعية في بلدان غنية بالمياه، وتحلية المياه بطريقة أكثر مراعاة للبيئة وأمن المياه، وتحقيق كفاءة إدارة المياه العذبة بما يحقق تقليل الفاقد في المياه واستغلال مياه الصرف الصحي، وتبنى الاستراتيجية الوطنية للمياه 2030 التي تعمل على تحسين إدارة الطلب على المياه، وتحسين استخدامها.
وفي مملكة البحرين تم تحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة قبل موعده في 2030، وهو توفير المياه لكل المواطنين والمقيمين، ليبلغ نصيب الفرد من المياه 249 لترا/يوميا، بحجم إنتاج يومي 183 مليون جالون، ومخزون استراتيجي يبلغ 659 مليون جالون من تحلية مياه البحر والمياه الجوفية والآبار. وتتضمن استراتيجية المياه في المملكة زيادة إنتاج المياه وسعة التخزين، كما حققت المملكة الإدارة المتكاملة للموارد المائية عن طريق إنشاء مجلس الموارد المائية الذي يضم جميع الوزراء المعنيين بالمياه، وخفضت معدلات السحب من المياه الجوفية إلى المعدلات الآمنة من خلال الاعتماد على مياه الصرف الصحي المعالج في الزراعة، والاعتماد الكلي على التحلية في مياه الشرب.
أما الإمارات فقد سعت لمواجهة هذه التحديات المائية عبر اعتماد استراتيجية الأمن المائي 2036، وعدد من المبادرات المجتمعية التي ترفع وعي المجتمع بالسلوكيات الرشيدة في استهلاك المياه، وتطوير شبكات تحلية ونقل المياه وتوزيعها لضمان خفض معدلات الفاقد إلى أقل درجة ممكنة، وزيادة تطبيق نظم الزراعة الحديثة التي تخفض من استهلاك المياه، وتطوير نظم الري، وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتعزيز مفهوم الشراكة بالمسؤولية بين كل فئات وشرائح المجتمع، حيث تستهلك سنويا كمية من المياه الجوفية تزيد على 10 أضعاف قدرة الطبيعة على تعويضها، كما اتجهت إلى تقنية الاستمطار الصناعي، وإنشاء سدود التغذية للاحتجاز المؤقت لمياه السيول والأمطار لتغذية المياه الجوفية، وتم بناء أكثر من 113 سدا وبحيرة وحاجزا تستطيع استيعاب 106 ملايين متر مكعب سنويا خلال موسم الأمطار، فضلا عن إعادة شحن الخزانات المائية الناضبة بمياه من مصادر مختلفة، واعتماد تقنيات جديدة لتحلية المياه مع وجود أكثر من 70 محطة تحلية يبلغ إنتاجها اليومي 1585 مليون جالون يوميا أي نحو 14% من إجمالي إنتاج المياه المحلاة في العالم.
وكانت الكويت هي الأسبق خليجيا في إنشاء محطات التحلية وتستهدف خطتها المستقبلية وصول الإنتاج اليومي إلى قرابة مليار جالون يوميا بحلول 2035، وأخذت تولى اهتمامًا لإقامة السدود والخزانات للاستفادة بمياه الأمطار والسيول، ومعالجة مياه الصرف الصحي لاستهلاكها في الزراعة، هذا مع ضبط عملية الزيادة السكانية وتفعيل الإعلام المائي ووضع خطة لترشيد استهلاك المياه، والعمل على إطلاق مبادرة خليجية موحدة لضمان تحقيق التنمية المستدامة.
أما قطر التي تعتمد بنسبة 97% على استخدام المياه المحلاة، فقد حددت مخاطر أمنها المائي في التحدي السكاني لجهة ارتفاع عدد السكان وارتفاع مستوي معيشتهم، وتبعات ذلك في زيادة الاستهلاك، والتحدي المناخي. وفي مواجهة هذه التحديات توجهت إلى تحقيق الإدارة المتكاملة والمستدامة للموارد المائية، والاستخدام الأمثل للمياه، وتحقيق كفاءة توفير المياه من محطات التحلية والمياه الجوفية باستخدام التقنيات الحديثة وتفعيل الشراكات الدولية، ومن المبادرات التي قامت بها تدشين مشروع الخزانات الاستراتيجية الكبرى لتأمين المياه بمنطقة أم صلال شمال الدوحة في ديسمبر 2018، وهو المشروع الذي يرفع مخزون المياه بما يقرب من 1500 مليون جالون بزيادة 150%، يوفر الأمن المائي لقطر حتى 2026، فيما يدعم هذا الأمن بعد عام 2026 بـ15 خزانا سعة الواحد منها نحو 100 مليون جالون.
وفي سلطنة عمان يواجه الأمن المائي تحديات المناخ الجاف وشبه الجاف وقلة هطول الأمطار وتزايد الطلب على المياه لاستخداماتها المختلفة وارتفاع نسبة الملوحة وتدهور نوعية المياه الجوفية في بعض المناطق، فضلا عن الأعطال في المحطات وشبكات النقل والمنشآت التخزينية، ولمواجهة هذه التحديات توجهت السلطنة لإنشاء محطات تحلية وخطوط نقل جديدة وتنفيذ مشروعات خزانات الطوارئ.
وختامًا، فإن تماثل مصادر تهديد الأمن المائي للدول الخليجية، ووجود العديد من العناصر المشتركة في السياسات التي اتخذتها كل دولة لمواجهة هذه التحديات، يقتضي بعد قمة العلا تنفيذ الاستراتيجية الخليجية الشاملة لتحقيق الأمن المائي الخليجي التي أعدتها الأمانة العامة للمجلس، وخاصة فيما يتعلق بتسعيرة المياه وتأثيرها على ارتفاع الاستهلاك غير المبرر، والموقف الموحد من الآثار الضارة لبرنامج إيران النووي، والزراعة خارج الحدود، والتقنيات الجديدة لتحلية مياه البحر، والري، وتدوير المياه، والاستمطار الصناعي، والتخزين، والسيطرة على الفاقد.