بقلم العميد الركن. م.
*بهاء حسن حلال *
حرْبٌ عالميّةٌ أولى وما نتَجَ عنها منْ تداعياتٍ على الصّعيدِ العالَميِّ منْ إلغاءِ كياناتٍ سياسيّةٍ وامبراطورياتٍ وإنشاءِ "عصبة الامم”، لتَسوِّسَ العالَم بعْدِ اِنتهاءِ الحرْبِ العالميّة الأولى عامَ 1918 ولنْ ننسى هنا أنْ نذكُرَ اِنتشارَ وباءِ "الاِنفلونزا الِاسبانيّةِ” في أعقابِ نهايةِ الحرْبِ، وصُنِّفَتْ على أنَّها جائِحةٌ عالميّةٌ. وَقدْ حصَدَتِ الكثيرَ مِنَ الأرواحِ بالإضافةِ إلى كارثةِ الحرْبِ، وأُسِّسَتْ نتائجُها لحربٍ أُخرى طالَ اِنتظارُهَا.
اِندلعَتِ الحرْبُ العالميّةُ الثَّانيةُ في عامِ 1939 واِستمَرَّتْ حوالي 6 سنوات، واِنتهَتْ في عامِ 1945، ومِنْ تداعياتِها الكُبرى تحوُّلٌ كبيرٌ في النِّظامِ العالَمِيِّ.
حيثُ قُسِّمَ العالَم إلى قسمَيْنِ:
الأول: شيوعيّ اشتراكيّ بزعامةِ الاِتّحادِ السُّوفياتي اُسِّسَ على إثْرِهِ "حلفُ وارسو” الّذي كانَ عبارةً عنْ معاهدةِ صداقةٍ وتعاونٍ. وهوَ منظّمةٌ عسكريّةٌ لدولِ أوروبا الوسطى والشّرقيةِ الشّيوعيّةِ..
والثّاني: رأسماليّ تزعمَتْهُ الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ واِنضوى تحتَ لوائِها دولُ أوروبّا الغربيّةِ والدّولُ الّتي تتّبعُ النِّظامَ نفسَهُ… وأسّسَتْ هذهِ الدّولُ منظّمةَ حِلْفِ شمالِ الأطلسيّ، واِختُصِرَتْ تحتَ مُسمَّى (النّاتو) وهوَ حِلْفٌ عسكريٌّ للدّولِ التّابعةِ للنّظامِ الرّأسماليّ ومنها: (أميركا، وفرنسا، وبريطانيا)، وهُمْ أعضاءٌ دائمونَ في مجلسِ الأمنِ الدّوليّ ولهُم حقُّ "الفِيتو”.
وهنا يجِبُ أنْ نذكرَ أنّ مجلسَ الأمنِ الدُّوليّ هوَ منْ نتاجِ تداعياتِ نهايةِ الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ، وقد حلَّ مكانَ عُصبةِ الأُممِ.
ودارَ صِراعٌ بيْنَ المعسكرَيْنِ في كلِّ ساحاتِ الكُرةِ الأرضيّةِ، وحُكْمِ النّظامِ العالَميّ من قبلِ الدّولتَيْنِ: (أميركا والاِتّحاد السّوفياتيّ) وسُمِّيَ نظامُ القُطْبَيْنِ.
أسفرَتِ الصّراعاتُ الاِستراتيجيّةُ بينَهُما عن أحداثٍ وحروبٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ بيْنَ الدُّوَلِ، وعُرِفَتْ هذِهِ الفترةُ، بفترةِ (الحربِ البارِدةِ). وبقِيَ الصّراعُ على أشدِّهِ بيْنَ الجبّارِينَ حتَّى انهيارِ الاتّحادِ السُّوفياتيّ في عامِ 1991.
واِستُقِلَّتِ الدُّولُ الّتي كانَتْ تتّبعَهُ عنِ الاتّحادِ السُّوفياتيّ ومنْ ثمَّ دخلَتْ في إطارِ العالَمِ الجديدِ الّتي تتزعّمُهُ الولاياتُ المتّحِدَةُ منفردةً، وأضحى العالَمُ منذُ هذا التّاريخِ يحكِمُهُ قطبٌ واحدٌ، وكانَ تحوّلٌ كبيرٌ غيرَ العالَمَ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، حيثُ دخلَتِ العولَمةُ لتأطرَ العالَمَ ضمنَ قريةٍ كونيّةٍ كُبرى، تتّسِع للعالَمِ كلِّهِ، وسيطرَتْ أميركا على الاقتصادِ العالَمِيِ عبرَ هيمنةِ الدّولارِ الأميركيّ على الأسواقِ، والبورصاتِ العالَميّةِ.
وبشكلٍ سريعٍ جدًّا وعلى مدى السّنِينَ الغابرةِ، مرَّتِ الكُرةُ الأرضيّةُ بأزماتٍ مختلفةٍ سياسيّةٍ، وعسكريّةٍ، وبيئيّةٍ، وصحيّةٍ ناتجةٍ عن أسبابٍ كثيرةٍ، مثلَ انتشارِ الأوبئةِ العالميّةِ الّتي قضَتْ على كثيرٍ منَ الأعدادِ البشريّةِ حولَ العالَمِ، والحروبِ الّتِي ألغَتْ أوطاناً، وكياناتٍ بتداعياتِها.
وخلالَ هذِهِ الأزماتِ والحروبِ، وبعدَ انتهائِها، كانَ العالَمُ يمُرُّ بتحوُّلاتٍ اقتصاديًةٍ وبالتّالي سياسيّة.
وبما أنَّ الاقتصادَ والسّياسةَ توأمَانِ، لا ينفصلانِ، إنّي سأذكُرُ تحوُّلَيْنِ مُهمَّيْنِ في العالَمِ اُثرُوا بِهِ ونقلُوا قيادتَهِ، ونظامَهِ الاقتصاديِّ في بعضِ الأحيانِ من ضفّةٍ إلى ضفّةٍ:
التّحوُّلُ الأوّلُ: كانَ مؤتمرُ "بريتون وودز” والّذي انعقدَ عشيّةَ نهايةِ الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ في 22/ 7/ 1944
حيثُ ثبُتَتْ عُمُلاتٌ أجنبيّةٌ مقابلُ الدُّولارِ؛ وتمَّ اعتمادُهُ كعملةٍ اساسيّةٍ للتّعامُلِ الدُّوليّ، وسُعِّرَتْ أونصةُ الذّهبِ بسعرِ 35 دولارٍ…
هدفَتْ هذِهِ الاتّفاقيّةُ لتأسيسِ استقرارٍ ماليٍّ دوليٍّ، يمنعُ تبادلُ العُمُلاتِ بيْنَ البُلدانِ، وللحَدِّ منِ المُضاربةِ بها (حيثُ كانَتْ إبّانَ الحربِ العالميّةِ الأُولى قاعدةَ تبادُلِ الذّهبِ تحكُمُ النّظامَ الاقتصاديَّ العالميِّ..)
ولقدْ كانَ تأثيرُ هذِهِ الاتّفاقيّةِ مهمًّا على النّظامِ الماليِّ العالميِّ، فحقّقَ عبرَها الدّولارُ الأميركيُّ ربحًا كبيرًا بوصولِهِ إلى مركزٍ عالٍ كعُملةٍ مرجعيّةٍ، وهوَ هُنا يعكِسُ التّغييرَ في الاقتصادِ العالمِيِّ المنتقلِ منْ هيمنةِ أوروبا إلى سيطرةٍ كلّيّةٍ عليْهِ من قِبَلِ أميركا.
وكانَ لهذا التّحوُّلِ الكبيرِ وتزامنِه معَ المؤتمرِ، تأثيراً كاسِحاً على النّظامِ الماليِّ الدُّوليِّ، فأحكَمِ الدُّولارُ سيطرتَهُ كعُملةٍ عالميّةٍ وفْقَ قاعدةِ الذّهَبِ، واستمرَّ العالَمُ في التّخُبُطِ كونَ الفائضِ في البشرِ والإمكاناتِ والرّغباتِ في السّيطرةِ والتّوسّعِ لمْ تتوقّفْ عنْدِ أيِّ مِحطّةٍ.
فكانَ التّحوُّلُ الثّانِي المؤثّرِ:
حيْثُ شهِدَ العالَمُ عامَ 1971 الأزمةَ الاميركيّةُ (ما سُمِّيَ حينَها صدمةُ نيكسون)؛ وهيَ حدثَتْ حِينَ قرّرَ نيكسون كسْرَ نظامِ "بريتون وودز” من خلالِ قابليّةِ التّحويلِ إلى ذهبٍ، وتجميدِ الأسعارِ والأجورِ لمُدّةِ 90 يومًا لمكافحةِ الآثارِ التّضخّميّةِ المحتملَةِ، وهذا تدبيرٌ منعَ الدُّوَلِ مِنْ تبادلِ الدُّولارِ بالذّهبِ.
وفي عامِ 1973 ومع إعلانِ الدُّوَلِ الأعضاء في منظَّمَةِ الدُّوَلِ العربيَّةِ المصدّرةِ للبترولِ أوبك بإعلانِ حظرٍ نفطّيٍّ ضدَّ الغربِ لدفعِهِمْ لإجبارِ إسرائيلَ على الانسحابِ منَ الأراضي العربيّةِ إبّانَ حرْبِ 1973.
وبما أنَّ معظمَ الاقتصاديّاتِ الصّناعيّةِ الغربيّةِ، تعتمِدُ على النّفطِ الخامِ، ومنظّمةِ "أوبك” مصدرُها الأساسيّ أدّى ذلِكَ إلى كبْتِ النّشاطِ الاقتصاديّ بشكلٍ كبيرٍ، وأقدمَتْ دولُ أوبك على تأميمِ شركاتِ البترولِ في بلدانِهِمْ، وهكذا انتجَتْ هذِهِ الأزمةُ إلى فوضَى أسعارٍ، ممّا أفقَدَ بورصةَ نيويورك للأوراقِ الماليّةِ مبلغَ 97 مليارِ دولارٍ في قيمةٍ أسهمَها بفترةٍ وجيزةٍ.
وهنا اُطلِقَ مصطلحُ دولِ (البترو دولار).
وبعدَ انتهاءِ الحرْبِ الباردةِ، وتوالي الحروبِ الكثيرةِ الّتي اجتاحَتِ العالَمِ، وأدَّتْ إلى كوارثَ إنسانيّةٍ، وإلى سيناريوهاتِ محضّرةٍ لتغييرِ أنظمةٍ في دولٍ وسحقِ دولٍ أخرى، وعمِلَتِ العولمةُ الّتي سيطرَتْ علَى العالَمِ، إلى إطلاقِ ما سُمِّيَ حروبُ السّيادةِ والحرّيّةِ، وتحقيقِ الدّيمقراطيّةِ للشّعوبِ، وتحتَ شعارِ مُحاربةِ الإرهابِ، نشطَتِ الحروبُ المُسبقةُ، فانتشرَ مُسمَّى الفوضَى الخلّاقةِ منْ أجلِ الحرّيّةِ والّتي كانَتْ هدّامةً للإنسانيّةِ، ممّا أتعَبَ الشُّعوبَ، وهجرَها وأصبحُوا في أوطانِهِمْ لاجئِينَ.
وهذا إنْ دلَّ على شيْءٍ فهوَ يدُلُّ على فشلِ النّظامِ العالميِّ، بنشرِ العدالةِ الأمميّةِ في العالَمِ، واستندَتِ الدُّوَلُ العُظمى وخاصّةً أميركا على مختبراتِها التّكنولوجيّةٍ، والجرثوميِّةِ على تطويرِ الحياةِ الإنسانيّةِ وقوقعتِها ضِمْنَ شبكاتٍ عنكبوتيّةٍ يسهُلُ التّحكُّمُ بِها عنْ بُعْدٍ.. وقدْ كانَتِ النَّتيجةُ كمَا في كلِّ 100 عامٍ تقريبًا. انتشرَ وباءُ جائحةٍ ككُلِّ الأوبئةِ السّابقةِ الّتي كانَتْ عندما تحلُّ تفتُكُ، وتهدِمُ لتُمَهِّدَ لتغييرٍ ما مُحتمَلٍ على صعيدِ العالَمِ.
وها هيَ اليومَ، جائحةُ "كورونا” تجتاحُ الكُرةَ الأرضيّةَ بكامِلِها، وتكونُ كالشّعرةِ الّتي قصمَتْ ظَهْرَ البعيرِ (اذا صح التعبير).
فالوباءُ ضرَبَ اُسُسَ النّظامِ العالميِّ الحاليّ، بِغضِّ النّظرِ عنْ كونِهِ (مُفتعلًا أو طبيعيًّا)، فلقدْ ظهرِتْ هشاشةُ الوضعِ الإقتصاديِّ العالميِّ، ومدَى استهتارِ حاكِمِ هذا العالَمِ بالبُعدِ الإنسانيِّ للبشريّةِ والصِّحِّيّ، وحتَّى أنه قد تبيَّنَ شدّةَ اهتزازِ بعدِهِ الماليِّ ممّا سيُبرّرُالتّحوّلَ الجديدَ في كينونةِ هذا النّظامِ العالميِّ الهشِّ، والّذِي كمَا هوَ واضحٌ، قدْ حُضِّرَ لَهُ مِنْ قِبَلِ الدّولةِ العميقةِ في الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ، بإيصالِ الرّئيسِ الأميركيِّ الحاليِّ إلى البيتِ الأبيضِ، وإعلانِ حربٍ اقتصاديّةٍ على كلِّ العالَمِ، تقريبًا وبالذّاتِ بنى استراتيجيّةً عمِلَتْ على إعلانِ الحربِ التّجاريّةِ والاقتصاديّةِ على الصّينِ، وأقدَمَ على إجبارِ دولِ الخليجِ وتحديدًا "المملكة العربيّة السعوديّة” على دفعِ مبالغَ طائلةٍ، تُقدَّرُ بملياراتٍ منَ الدُّولاراتِ بهدفِ تسديدِ فاتورةِ الحمايةِ الأميركيّةِ لهُم ولثرواتِهِمِ النّفطيّةِ، وهيَ خطوةٌ تكرّرَتْ عِدّةَ مرّاتٍ ممّا يُؤشِّرُ إلى إمكانيّةِ تكرارِها أكثرَ منْ مرّةٍ مُستقبَلًا، وهكذا يكونُ "ترامب” قد جنى أرباحًا مادّيّةً طائلةً مُسبقةً منَ النّفطِ الّذي يحميهِ، وقدْ تزامَنَ كُلُّ هذا (الحروب الاقتصاديّة والمال الخليجيّ).
مع إطلاقِ فيسبوك من ضمنِ مشاريعِها العملاقةِ مشروعًا كونيًّا يُؤسّسُ لكينونةٍ اقتصاديّةٍ عالميّةٍ جديدةٍ وفريدةٍ اُطلِقَ عليها اسمُ ليبرا لكنَّهُ لمْ يُبصرِ النّورَ إلّا في بدايةِ عامِ 2020، واستنادًا إلى كلِّ الأحداثِ والكوارثِ والتّناقضاتِ في العالَمِ، مع ما صاحبَها منْ سباقٍ محمومٍ في العالَمِ للسّيطرةِ على منابعَ الطّاقةِ، وعلى الممرّاتِ الاستراتيجيّةِ، وعلى المعابرِ الاستراتيجيّةِ الملِحّةِ للدّولِ الكبرى ومع الكسَادِ الاقتصاديِّ والماليِّ الّذي خلّفَتْهُ هذِهِ الأحداثُ الكُبرى، وإذا ما أضفْنا علَيْها جائحةَ "كورونا "الّتي أسقطَتِ الكرةَ الأرضيّةَ بالضربةِ القاضيةِ.
فالسّؤالُ مَنْ سيحكُمُ العالَمَ؟! لأنَّ قيادةَ هذَا العالَمِ الجديدِ، ستؤولُ حتمًا إلى الدّولةِ أو الدّولِ الّتي سيتمكّنُ اقتصادُها مِنَ التّعافِي أوّلًا.
فالمشهدُ الحاليُّ يشيرُ إلى أنَّ "فيروس كورونا” قدْ أحَالَ دُولًا إلى التّقاعدِ، وعرقلَ حركةَ الدُّبِّ الرُّوسيِّ، وقضى على دورِ القارّةِ الأوروبيّةِ، وأثّر بطريقةٍ أو أُخرى على الاقتصادِ الأميركيّ، وأسقطَ منْ يدِها رِيادةَ العالَمِ وقدْ يُحوِّلُ الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ إلى ولاياتٍ أميركيّةٍ غير متّحدةٍ، ونذكرُ هنا على سبيلِ المِثالِ أنّهُ في تاريخِ 2020/4/20، اجتاحَتْ أميركا مظاهراتٍ تُناصرُ سياسةَ "ترامب” بدعوتِهِ إلى كسرِ حواجزِ التّباعدِ الاجتماعيِّ وقدِ انتشرَتْ هذِهِ الظّاهرةُ في عِدّةِ ولاياتٍ منها: كولورادو وشهدتَ عاصمتُها دنفر أكبرَ مظاهرةٍ ضدَّ الحجرِ الصّحّيِّ والشّعاراتِ الّتي رُفِعَتْ كانَتْ مُلفِتَةً مثل:
– صحتُكَ لا تحلُّ مكانَ حقِّكَ..
– الخوفُ هوَ على الحرّيّةِ..
– أُفضِّلُ الفيروسَ التّاجيَّ على الاشتراكيّةِ..
وقدْ أيَّدَ "ترامب” هذِهِ المظاهراتِ ودعمَها وحذا حذو هذِهِ الولاية عدّةُ ولاياتٍ منها ميتشيغن
الّتي ظهرَ فيها مُسلّحِينَ (لأوّلِ مرّةٍ) يتظاهرونَ ضدَّ سياسةِ حاكمةِ الولايةِ والّتي هيَ تنتمي إلى الحزبِ الدّيمقراطيِّ.
معَ الإشارةِ إلى أنَّ الإصاباتِ بلغَتْ في أميركا حتَّى 20/4/2020، /759086/ إصابةً، والوفياتُ حتَّى التاريخ نفسه بلغَ عددُهم 40661 مُتوفٍّ.
وهنا ونحنُ نستعرِضُ المنعطفاتِ التّاريخيّةِ الّتي أثّرَتْ على النّظامِ العالميِّ، نرى أنَّ ما بعدَ "كورونا” لنْ يكونَ كما قبلَهُ، فقدْ تزاحمَتِ الأحداثُ وتعطّلَتِ السُبلُ الاقتصاديّةُ، وانتشرَتِ البِطالةُ وأضحى هذا الاقتصادُ المُعوْلَمُ مُهدّدًا بالكسادِ والانهيارِ ،
مع إضافةِ حَدَثٍ عالمِيٍّ غيرِ مسبوقٍ، سُجِّلَ إذ أنَّ أسعارَ النَّفْطِ تدهورَتْ بشكلٍ كبيرٍ، ولا نملِكُ أيَّ تأكيدٍ عنْ سببِ هذَا الحَدَثِ، سوَاءَ أكانَ مقصودًا أو غيرَمقصودٍ، فلقَدْ هبطَ سعرُ البَرميلِ إلى ناقص صفر مِمَّا اضطُرَ البائعونَ إلى دَفْعِ حقوقِ المشترِينَ للعقودِ الآجلةِ للنِّفطِ ويُشاعُ دونَ تأكيدٍ أنَّ السَّببَ هوَ تراجُعَ الطّلبِ بسببِ "كورونا” واقترابِ مستودعاتِ النِّفطِ الأميركيّةِ مِنَ الِامتلاءِ.
ويأتي هذا التّطوّرُ بُعَيْدَ ساعاتٍ مِنَ التّحذيرِ الّذي أطلقَهُ صندوقُ النَّقْدِ الدُّوليِّ مِنْ أنَّ دخولِه اقتصادياتِ العالَمِ وفي دوامةِ الهبوطِ، سيكونُ الأعمقَ منذُ الكسادِ العظيمِ في ثلاثينياتِ القرنِ الماضِي، وهنا يجبُ أنْ نُشيرَ إلى أنَّ هبوطَ مُؤشِّرِ العقودِ الآجلةِ إلى ما دونِ الدّولارِ الواحدِ، لا يُؤشِّرُ إلى السّعرِ الحقيقيِّ… لأنَّ العقودَ الّتي هبطَتْ هِيَ:
☆عقودٌ منتهية الصّلاحيّة☆
معْ عدّةِ إشاراتٍ (غير مؤكّدةِ الحصولِ) على نيّةِ ما عندَ عددٍ منَ الدّولِ من حولِ العالَمِ ومنها:
الصّين للتّخلّي عن ربطِ اقتصادِها بالدّولارِ الأميركيِّ.
وهنا يكمُنُ السّؤالُ الكبيرُ:
هل ستتّجِهُ أميركا إلى اتّخاذِ إجراءاتٍ اقتصاديّةٍ جديدةٍ ضدَّ بعضِ الدّولِ ومنها الصّين بعْدَ أزمةِ "كورونا” لتستطيعَ أنْ تستوعبَ ما يحدُثُ؟؟
هلْ سيتمُّ الإقدامُ على إلغاءِ الدّولارِ الأميركيِّ الورقيِّ بشكلٍ مرحليٍّ والانتقالِ إلى الدّولارِ الرّقميّ؟، وذلكَ منْ أجلِ تسخيرِ الحياةِ الرّقميّةِ والذّكاءِ الاصطناعيِّ، وعالَمِ تقنيّةِ المعلوماتِ منْ أجلِ إنقاذِ اقتصادِها مِنَ الكَسَادِ…؟
بما أنَّ النَّظامَ الأمميَّ الحاليَّ، قدْ اهتزَّ منْ جرّاءِ الجائحةِ الوبائيّةِ "كورونا”وهو برأي العديدِ منَ الخُبَرَاءِ آيل إلى التَّصدُّعِ مِمَّا سيُؤدّي لاحقًا إلى تغييرٍ كيانيٍّ في خريطةِ النِّظامِ العالميِّ، مِمَّا سيفِقدُ أميركا السّيطرةَ المُطلقةَ
على هذا الكونِ، ويُمكِنُ إنّها ستكونُ مُجبَرةً على مشاركةِ دولةٍ أو أكثرَ استنادًا إلى البُعْدِ الاقتصاديِّ المُرْتكَزِ على التّنميةِ البشريّةِ، وعلى تقنياتِ المعرفةِ المُعتمَدةِ على الذَّكاءِ الاصطناعيِّ، لكلِّ دولةٍ ومدّةِ تعافي اقتصادِها، بعدَ هذا الانهيارِ الحاصلِ.
لقدْ تحدثّتِ الكثيرُ منَ الدّراساتِ الاقتصاديّةِ الاستراتيجيّةِ عن أنَّ القرارَ الاقتصاديَّ سيكونَ المعيارَ الفاصلَ، ليتحدّدَ لِمَنْ ستكونُ الغَلَبةُ في قيادةِ العالَمِ..
وهنا نشيرُ إلى أنَّ الصّين وكما هو ظاهرٌ ستتصدّرُ الدُّولُ اقتصاديًّا. كما سيتراجعُ الاقتصادُ الأميركيّ إلى المركزِ الثّالثِ بعدَ الهندِ الّتي ستحتلُّ المركزَ الثّانِي وما نورِدُهُ هنا ما هوَ إلّا توقّعاتٍ واستنتاجاتٍ استنادًا لواقعِنا الحاليِّ حيثُ لنْ يكونَ هناكَ أيَّ دورٍ للقارّةِ العجوزِ (اوروبا) الّتي فتَكَ الوباءُ بكبارِها وشبابِها واقتصادِها؛ فالمعيارُ الّذي سيحكُمُ قوّةَ أيِّ دولةٍ هوَ:
* الاقتصادُ وقوّتُهُ..
* تِقنيّاتُ اقتصادِ المعرفةِ..
* التّنميةُ البشريّةُ:
– عدد السكان..
– القدرةُ على الإبداعِ..
ونعودُ إلى سؤالِنا الأساسيِّ؛ هلْ سيستعملُ الدّولارُ الرّقميُّ لترميمَ الاقتصادِ الأميركيِّ، وبالتّالي العالميِّ؟!
ماذا نقصدُ بالدُولارِ الرّقميِ
بعدَ عشرةِ أعوامٍ على إطلاقِ "ساتوشي ناكوموتو” لعملةِ البيكوتين ( BTC)، وجدَتِ الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ نفسَها مُجبرةً على التّفكيرِ في نفسِ اتّجاهِ تفكيرِ "ناكوموتو” بخصوصِ العِملةِ الرّقميّةِ..
فالأحداثُ الكُبرى الّتي وقعَتْ في العالَمِ سيكونُ أثرُها موحّدًا على البشريّةِ جمعاءَ.
وبسببِ الأزمةِ الاقتصاديّةِ العالميّةِ الحاليّةِ منْ جرّاءِ وباء "فيروس كورونا” الّذي هدَم الأُسُسَ الاقتصاديّةَ للدّولِ العُظْمَى في العالَمِ، هناكَ الكثيرُ منَ التّساؤلاتِ الجدَليّةِ، والفكريّةِ والمعرفيّةِ، والتّقنيّةِ، وسيكونُ لها ردودَ أفعالٍ مختلفةٍ على الأنظمةِ الاقتصاديّةِ العالَميّةِ والاجتماعيّةِ..
أمَّا في الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ، فقدْ أقدَمَ نوابُ الحزبِ الدّيمقراطيِّ في مجلسِ النّوّابِ الأميركيّ على طرْحِ موضوعِ التّحوّلِ إلى العملةِ الرّقميّةِ، كنمطِ طوارىءٍ للسّوقِ الأميركيِّ، وكطريقةِ لتحفيزِ الاقتصادِ الشّاملِ المتعثّرِ منْ جرّاءِ (covid-19) وهُمْ يعتبرونَ أنّها ستكونُ فرصةً ذهبيّةً، لمنْحِ الدّولارِ الأميركيّ ربحًا وفيرًا منَ الدّولاراتِ منْ خلالِ نظامٍ رقميٍّ، وليسَ نظامٍ مادّيٍّ.. على الرَّغْمِ منْ عدمِ الوضوحِ في طريقةِ عملِ هذا النّظامِ في العالَمِ، وفي أميركا تحديدًا..
فنحنُ قدْ نحتاجُ إلى وقتٍ منَ الزّمنِ حتّى تتجلّى تداعياتُ السّلوكِ السّياسيِّ والاقتصاديِّ للدّولِ المُسيطرةِ على القرارِ المتشعّبِ في كلِّ العالَمِ. وأعتقدُ أنّه مِنَ المُبكرِ جدًّا الإجابةَ على هكذا تساؤلاتٍ!!
فحسبُ كلِّ الدّراساتِ: إنَّ إمكانيّةَ تنفيذِ عمليّةِ الانتقالِ منَ الدّولارِ الورقي الى الدولار الرّقميِّ منْ عدمِها، سيلزمُها الكثيرَ منَ المفاوضاتِ والنّقاشاتِ والقراراتِ، ولطالَمَا أنَّ الاقتصادَ يصنعُ السّياسةَ، نجدُ أنّنا أمامَ مِعْيارَيْنِ:
– الصّراعُ الدّاخليّ في أميركا بيْنَ الجمهورِيّينَ والدّيمقراطِيّينَ إبَّانَ الانتخاباتِ الرّئاسيّةِ الّتي حميَ وطيسها معَ التّأكيدِ على النّقاطِ الاستراتيجيّةِ المشترَكةِ بينَهُما، ومنها عمليةِ الانتقالِ منَ العُمْلةِ الورقيّةِ إلى العُمْلةِ الرّقميّةِ…
– الصُراعُ العالميُّ الاستراتيجيُّ بيْنَ أميركا والصّينَ؛ وهوَ صِراعٌ اقتصاديٌّ بالدّرجةِ الأولى ويجِبُ أنْ نعترِفَ بقوّةِ وحَجْمِ الاقتصادِ الصّينيِّ وتفوّقِهِ على الاِقتصادِ الأميركيِّ.
من هنا (لا بُدَّ منَ التّأكيدِ أنَّ تخطيطَ الدّولةِ العميقةِ الأميركيّةِ، هَوَ باتّجِاهِ اِنقاذِ الاِقتصادِ الأميركيِّ، ليبقى مُسيطرًا ضمنَ السّباقِ الاِقتصاديِّ العالَميِّ الّذي ضُرِبَتْ أساساتُهُ المتينةُ في أميركا وفي غيرِها منَ الدُّوَلِ، لكن تبقى الصّينُ الدَّولةَ الوحِيدةَ القادرةَ على أنْ يتعافى اِقتصادُها سريعًا، مِمَّا سيجعلُهَا المنافسَ الأوَّلَ والأوحَدَ لأميركا.
وفي سِياقِ السِّباقِ الِاقتصادِيِّ الحاليِّ، بيْنَ الصّينَ وأميركا يبقى هنا السُّؤالُ هلْ يكونُ الاِنتقالُ إلى الدُّولارِ الرّقميِّ هوَ عمليّةُ الاِنقاذِ النّاجعةِ لاِقتصادِ أميركا..؟ وبالتَّالي العالَم؟؟
ومَنْ منهما الصّينُ أم أميركا ستُطلِقُ عملتَها الرّقميّةَ أوّلًا ؟؟
مَنْ سيفوز؟؟ وهلْ سَيَسُود؟؟