السبت 23 تشرين الثاني 2024

الأصل التاريخي للجماعات المتشددة والمسلحة..


النهار الاخباريه - قسم الدراسات

أظهرت الجماعات المسلحة خلال العقود الماضية اهتمامًا متزايدًا من المراكز المعنية بالشأن العام العالمي، لما شكلته هذه الجماعات من خطر على الدول والشعوب، بل عملت على هدم دول بأكملها ونشرت الفوضى بها، وساهمت في التأثير في المحيط الإقليمي لها والشأن العالمي، بل طال هذا التأثير السياسة الدولية، حيث أظهرت هذه الجماعات مدى قدرتها على التغلغل داخل المجتمعات والتأثير على بعض الشباب والأفراد، فاستخدمت هذه الجماعات الدين، لتكسب وتستقطب الناس تجاهها، ومنهم من استخدم السياسة وغيرها، بل الأعجب من ذلك منهم من كوّن أحزابا سياسية وشارك في القرار السياسي للدول، ومثال على ذلك حزب الله في لبنان. وعبر المشاركة في العملية السياسية والمؤسسات السياسية، والفوز في الانتخابات والحصول على المناصب السياسية، اكتسبت هذه الجماعات المسلحة -حزب الله مثالا- قوة  سياسية بالإضافة إلى القوة العسكرية.
 
وهناك أيضًا من يقدّم نفسه ممثلا حقيقيا للإسلام كما مارسته الأجيال الأولى من المسلمين، المعروفة باسم السلفية، كتنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من الحركات الإسلامية المتشددة، حيث تصف العديد من الحركات الإسلامية من مرحلة ما بعد الاستعمار ومرحلة الحداثة نفسها بأنها سلفية، بما فيها الصِبغة الرسمية من الإسلام التي تتبنّاها بعض الدول الإسلامية الكبرى.
وعلى الرغم من انتشار هذه الجماعات المسلحة وتعدد أهدافها ومعتقداتها على مستوى العالم، فإن هناك ربطا بين الإرهاب والحركات الإسلامية المتطرفة بصفة خاصة، وذلك بناءً على الأعمال الإرهابية التي يشهدها العالم، وتتبنى هذه الأعمال جماعات تنسب نفسها إلى الإسلام. وقد وجدت المنظمات والجماعات المتطرفة طريقها إلى منطقة الشرق الأوسط وإنشاء جماعات مسلحة، لها نظامها ولها كياناتها، وذلك في إطار المخططات الرامية لتقسيم دول المنطقة عبر تأجيج الصراعات الطائفية
والأيديولوجية وبث الفتن والأكاذيب.
فمن هنا يمكن النظر إلى الأيديولوجيا التاريخية المتطرفة لتنظيم الدولة الإسلامية، على أنها نتاج عملية تهجين بطيئة بين السلفية العقائدية وبين التيارات الإسلامية الأخرى، تضرب الكثير من المفاهيم الدينية المتطرفة التي تدعم أيديولوجيا تنظيم الدولة بجذورها في معركة الأفكار، التي يمكن فهمها بصورة أفضل في سياق حركة الصحوة السعودية في سبعينيات القرن الماضي، وحركة مماثلة في مصر، وكذلك في بلدان أخرى في تلك الدول. وأنتج التفاعل بين الأفكار العقائدية السلفية وبين النشاط السياسي الإسلامي الموجّه من جانب جماعة الإخوان المسلمين تيارات لا يزال صداها يتردد إلى اليوم.
في الواقع، نجد أن وتيرة امتزاج السلفية والإسلام السياسي لجماعة الإخوان تسارعت في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، وملأت الفراغ الذي كان قائما، عندما فشلت المؤسسات الدينية التقليدية في الاستجابة كما ينبغي لتطلّعات ومطالب الجماهير العربية، وقد اقتنص تنظيم الدولة الإسلامية -إلى جانب غيره من الجماعات الإسلامية والجهادية- الفرصة لفرض رؤيته الخاصة حول دور الإسلام.
وفي المملكة العربية السعودية ومصر، أنتج التوافق بين السلفية التقليدية والإسلام السياسي أشكالا جديدة من السلفية التي تأثرت بكلا الحركتين وانتقدتهما، فأصبح الإسلام السياسي أكثر تحفظا، بينما تسيّست السلفية.
وجرى في كثير من الحالات إعادة تفسير وتكييف واستخدام المفاهيم السلفية بصورة جوهرية، على يد جيل جديد من المفكرين أو المنظّرين الدينيين الذين بدؤوا في التماهي مع الحركة الجديدة. وفي المملكة العربية السعودية، ابتعد جيل الصحوة عن المدرسة النجدية، الاسم المُعتمد للمؤسّسة الدينية الوهابية.
وطغت ممارسة التكفير بشكلٍ مطّرد، أولاً خلال ستينيات القرن الماضي في مصر، وثانيًا بعد حرب الخليج الأولى في تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ قدامى المحاربين في أفغانستان بتكفير المملكة العربية السعودية؛ بسبب استضافتها ودعمها للقوات الغربية التي جاءت لمحاربة الرئيس العراقي صدام حسين آنذاك.
وبدأت السلفية الخاضعة للسياسة العلمية والعملية -كما يُطلق عليها- والتي رفضت التمرّد السياسي، تفسح المجال أمام التكفيرية السياسية التي حملت راية الخلافة والجهاد والتمرّد، وفي الوقت ذاته، أدّى تنامي نفوذ المُثُل السلفية إلى "سلفنة" -أو "تسلّف"- جماعة الإخوان المسلمين.
نستنتج ثمة ملاحظة وهي أن تنظيم الدولة الإسلامية يختلف عن تنظيم القاعدة على المستوى الفكري، غير أن الأول لا يزال يعتمد بشكل كبير على الأدب الجهادي الذي يستخدمه تنظيم القاعدة، ويفتقر تنظيم الدولة الإسلامية إلى الموارد الدينية، مثل "الأدعياء" الملتزمين داخل وخارج المناطق التي يسيطر عليها، لتطوير مدرسته الجهادية، مما يعكس طائفيته الشديدة.

ظهور وانتشار المليشيات المسلحة

في النصف الأول من القرن الماضي، تفشى الاستعمار التقليدي في معظم دول العالم الثالث، بهدف الحصول على المواد الخام الأولية والأيدي العاملة بسعر بخس، واستغلال تلك الدول أسواقا لمنتجاته، مما دفع تلك الدول إلى مقاومة المحتل، فنشطت جماعات المقاومة الوطنية وقامت بأعمال عسكرية وطنية في إطار حرب العصابات والشوارع ضد الجيوش النظامية لدول الاحتلال، وكان مثال ذلك هو مقاومة الاحتلال الفرنسي في الجزائر على نطاق واسع، أو مقاومة الاحتلال البريطاني لمصر في منطقة قناة السويس على نطاق أقل، أو حركات التحرر العابرة للحدود: "تشي غيفارا" في أميركا اللاتينية، خاصة في بوليفيا وكوبا.
وحتى بداية الربع الأخير من القرن الماضي، لم تكن هناك حروب مليشيات على نطاق واسع لأسباب دينية، إلا القليل، مثل بعض الصراعات الإسلامية بين السنة والشيعة، أو الصراعات المسيحية بين الكاثوليك والأرثوذكس ضد البروتستانت، أو الإسلامية ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين إبان إعلان قيام إسرائيل في 15 مايو/أيار 1948.
وارتبط ميلاد المليشيات الدينية على نطاق واسع بعام 1979، من مبدأ الاحتلال الشيوعي "الكافر" لدولة مسلمة "سنية" هي أفغانستان، فقد كانت مقاومة الاحتلال السوفياتي من أهم أسباب تشكل "السلفية الجهادية"، حيث تشكلت معسكرات "المجاهدين" في باكستان وأفغانستان، وتم استقبال العديد من المتطوعين في قاعدة معسكر الأنصار لتلقي تدريب أميركي على حرب العصابات. فقد كانت واشنطن قد وعت الخسائر الكبيرة في فيتنام عند قتال العصابات الشيوعية بجيوش نظامية مهما كانت عالية الكفاءة، كما أن الرأي العام الأميركي لن يقبل خسائر أخرى في صراع القوى العظمى ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، فكانت فكرة المحاربة بأيدي الآخرين كأحد أنواع الحرب بالوكالة.
 
وبنهاية الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، كانت تلك المليشيات (القاعدة) اكتسبت خبرة قتالية كبيرة في حرب العصابات ضد جيش نظامي قوي وفي بيئة قتالية صعبة، وتحولت إلى فائض قوة قتالية، كما أن الولايات المتحدة توقفت عن الدعم المالي والعسكري باعتبار أن المهمة قد انتهت بانسحاب السوفيات من أفغانستان والابتعاد عن مصادر الطاقة، مما أدى إلى توجه فائض القوة ضد الغرب والولايات المتحدة ذاتها، حيث وصل مداه في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، لينفجر بعد ذلك ما سُمي "الحرب على الإرهاب" في العالم بداية بأفغانستان ثم العراق ثم سوريا، ومسلسل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وغيره من التنظيمات والحركات التي ما زالت تتوالى على الشرق الأوسط وبالأخص على مناطق الدول العربية والإسلامية، رغم أن هذه الجماعات بعيدة عن وسطية ومنهج الدين، وإنما تفوقت القوى الدولية في استخدامها أداة ضغط سياسي وعقائدي على مناطق ثروات الشرق الأوسط. فمن خلال هذه الجماعات المتطرفة تستطيع القوى الدولية أن تؤدي إلى فتنة وطائفية وتدمير في ثوابت المعتقد وروابط الشعوب، ومن ثم جني المكاسب السياسية والاقتصادية الطائلة بأقل تكلفة.. فيبقى السؤال هنا: متى ينتهي مسلسل الجماعات المتشددة وتسليحها تجاه الشرق الأوسط التي تُنسب ذاتها للإسلام؟