النهار الاخبارية - وكالات
في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، كانت مجموعة "آنت غروب" تستعد لأكبر طرح عام أولي في التاريخ.، لكن بعد يوم واحد انهار كل شيء، إذ كان قرار بكين بسحب الاكتتاب العام الأولي البالغ قيمته 37 مليار دولار مجرد بداية لحملة شاملة أصبحت واحدة من أهم عمليات إعادة تنظيم الشركات الخاصة في تاريخ الصين.
في العام التالي غيرت القوة التنظيمية للحكومة الصينية صناعات تتراوح من التكنولوجيا والتمويل إلى الألعاب والترفيه والتعليم الخاص.
لكن المنظمين في الصين ليسوا وحدهم من تحركوا لتقييد ما يرون أنه شركات شديدة القوة أو عملاقة، لا سيما في شركات التكنولوجيا الكبرى، إذ تحركت السلطات في الولايات المتحدة وأوروبا خلال العام الماضي للسيطرة على اللاعبين الجامحين من خلال اقتراح قوانين جديدة لمكافحة الاحتكار، أو محاولة تنظيم البيانات والمحتوى عبر الإنترنت.
لكن السرعة والضراوة اللتين تصرفت بهما السلطات الصينية ضد الشركات العملاقة في البلاد أذهلت حتى أقرب مراقبي الصين.
وكتب محللون من "غولدمان ساش" في تقرير بحثي حديث، "أحدث دورة تشديد تنظيمي غير مسبوقة من حيث المدة والشدة والنطاق والسرعة"، فقد قضت الحملة على أكثر من تريليون دولار في جميع أنحاء العالم من القيمة السوقية للشركات الصينية، وتسببت في قشعريرة في الاقتصاد الأوسع وأثارت مخاوف بشأن آفاق الابتكار والنمو الصينيين في المستقبل.
استقالات لعدد من رواد الأعمال الأكثر نجاحاً
وفق تقرير حديث لشبكة "سي أن أن"، فقد استقال بعض رواد الأعمال الأكثر نجاحاً في الصين من وظائف رفيعة المستوى في الأشهر العديدة الماضية، وفيما كشف بعضهم أن القرارات ليست لها علاقة بحال الاضطراب، لكن يجد المحللون صعوبة في فصلها تماماً عن الحملة الصينية على الشركات، وتعهدت العديد من شركات التكنولوجيا بتسليم أرباح بمليارات الدولارات لقضايا اجتماعية تدعمها الحكومة، وقد أعاد بعض كبار مؤيدي الاستثمار الصيني النظر في خطط ضخ مزيد من الأموال في السوق حتى تتضح نتيجة التدخل السياسي.
بالنسبة إلى الصين فإن كبح جماح الشركات الخاصة هو الحل لإصلاح المخاوف القديمة بشأن حقوق المستهلك وخصوصية البيانات والديون الزائدة وعدم المساواة الاقتصادية، وبعبارة أخرى لا يتعلق الأمر بقتل القطاع الخاص، بل بترويض تجاوزات الرأسمالية واحتضان تاريخ الاشتراكية في البلاد، وذكرت إحدى الصحف التابعة للحزب الشيوعي الصيني أن "الرخاء المشترك هو ازدهار جميع الناس والحياة المادية والروحية للثراء. إنه ليس ازدهار قلة من الناس".
أزمة تفاقم عدم المساواة
وفقاً للبنك الدولي، وتعد الصين واحدة من أكثر الاقتصادات الرئيسة تفاوتاً في العالم، زاد معامل جيني، وهو مقياس شائع لعدم المساواة، بشكل كبير على مدى العقود الأربعة الماضية تزامناً مع معدل النمو الاقتصادي المذهل في البلاد. وقد تسارع هذا الارتفاع النيزكي تحت قيادة دنغ شياو بينغ، الذي تولى السلطة في أواخر السبعينيات بعد وفاة ماو تسي تونغ.
في عهد دنغ احتضنت البلاد السوق الحرة وانفتحت على التجارة العالمية، وقال في عام 1985 إن "بعض الناس يمكن أن يصبحوا أثرياء أولاً" لمساعدة الفقراء على المدى الطويل، حتى يتمكن المجتمع تدريجياً من تحقيق "الرخاء المشترك"، وهو استخدام لعبارة اختلفت بشكل كبير عن التي استحضرها ماو من قبل، حين دعا إلى إعادة توزيع الثروة منذ حوالى 70 عاماً وكان يعمل على ترسيخ سيطرة الحزب.
يبدو الآن أن تفاقم عدم المساواة يزعج شي جين بينغ أقوى زعيم في البلاد منذ عقود، فخلال العام الماضي فقط أنهت حكومته معركة دامت خمس سنوات ضد الفقر المدقع، والآن من المتوقع على نطاق واسع أن يسعى إلى الحصول على فترة رئاسية ثالثة خلال العام المقبل، وقد ركز وقته على تقليص فجوة الثروة.
وكتب شي في مقالة الشهر الماضي، "يجب أن نقسم الكعكة جيداً"، مضيفاً أن هدفه هو "تحقيق الرخاء المشترك لجميع الناس بحلول منتصف هذا القرن".
ويعتقد المحللون على نطاق واسع أن مخاوف شي بشأن عدم المساواة حقيقية، لكن الحملة القمعية التي تتكشف تشير أيضاً إلى رغبة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في السيطرة.
السيطرة على أجزاء مهمة من الاقتصاد
ترى الأستاذة في جامعة بوكوني في إيطاليا سونيا أوبر، والتي تدرس الاقتصاد الصيني والقطاع الخاص، أن شي يدرك أن نظام الحزب الشيوعي يتمتع بالشرعية طالما يشعر عامة الناس بأنهم ممثلون، وقالت إن "الدافع النهائي الأكثر احتمالاً هو السيطرة على أجزاء قوية من الاقتصاد".
ويعتقد أن حملة القمع التجارية التي هيمنت على جزء كبير من هذا العام قد بدأت بعد أن قام جاك ما، وهو الأشهر بين رجال الأعمال في الصين، بتفجير النظام المالي الصيني خلال خطاب مثير للجدل في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، إذ انتقد النظام التنظيمي باعتبار أن الزمن تجاوزه ويكره المخاطرة، وهو عقبة أمام شركات التكنولوجيا التي قال إنها يمكن أن تجلب الخدمات المصرفية إلى السكان الفقراء والشركات الصغيرة التي تكون بخلاف ذلك محجوبة عن التمويل التقليدي.
كما اتهم رائد الأعمال في قطاع التكنولوجيا البنوك الصينية التقليدية التي تسيطر عليها الدولة بامتلاك عقلية "متجر الرهونات" من طريق إقراض المقترضين الذين يمكنهم تقديم ضمانات وحسب، وقال إن الأساليب الأكثر ابتكاراً والمثقلة بالبيانات قادرة على توفير الخدمات المصرفية للفئات المهمشة.
ومن المحتمل أن تكون هذه الكلمات قد دفعت بكين إلى الانتقام بسرعة، فقد تم تعليق الاكتتاب العام الأولي لمجموعة "آنت غروب" بعد أكثر من أسبوع بقليل من تصريحات جاك ما، ومنذ ذلك الحين أصبحت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة إلى شركته و"آنت غروب" والشركات العملاقة الأخرى في الصين، فقد اختفى جاك ما من الحياة العامة، بل إنه ترك قيادة مدرسة النخبة التي أسسها، واضطرت "آنت غروب" إلى إصلاح أعمالها لتصبح شركة مالية قابضة، مما يعني أنها تخضع للتنظيم بشكل أكبر بكثير مما كانت عليه من قبل.
وتعرضت شركة "علي بابا" لأزمة كبيرة في وقت سابق من هذا العام مع غرامة قياسية قدرها 2.8 مليار دولار لتصرفها كاحتكار، وخسرت حوالى 400 مليار دولار من القيمة السوقية خلال العام الماضي.
إمبراطورية جاك ما ليست الوحيدة
لكن إمبراطورية جاك ما التجارية ليست الوحيدة المتضررة، إذ تم التحقيق مع عدد كبير من الشركات ومن بينها شركات تقنية، وفرضت عليها الحكومة الصينية غرامات بسبب السلوك المزعوم المناهض للمنافسة، كما تم حظر تطبيق "ديدي" لاستدعاء الركاب والذي تم طرحه للجمهور في الولايات المتحدة على الرغم من المخاوف المبلغ عنها من المنظمين الصينيين، وتم التحقيق معه بشأن أسئلة حول أمن البيانات.
ترى الأستاذة المتخصصة في تاريخ وسياسة الصين الحديثة في جامعة أكسفورد رنا ميتر أن الحزب الشيوعي "يبدو قلقاً بشكل متزايد من أن قطاع التكنولوجيا الصيني أصبح بارزاً على مستوى العالم لدرجة أنه يواجه خطر تجاوز الحزب نفسه، والحملة ستساعد في تقليص حجمه"، وامتد القمع إلى ما هو أبعد من التكنولوجيا، إذ أدت القواعد التي نُشرت في يوليو (تموز) الماضي إلى إحداث تغيير في قطاع التدريس للربح في الصين البالغ 120 مليار دولار، وتم إصدار إرشادات إضافية لتشديد الرقابة على صناعة توصيل الأغذية الضخمة في البلاد، كما خضعت سوق العقارات التي كان تعاني بالفعل من جهود حكومية للحد من الاقتراض المفرط من قبل المطورين، لتدقيق مكثف هذا العام، وأعلنت السلطات أكثر من 400 لائحة على القطاع هذا العام في محاولة لخفض ديون العقارات والسيطرة على أسعار المنازل، كما حولت الحكومة اهتمامها إلى القضايا الثقافية والمجتمعية التي اعتبرتها السلطات "غير صحية" أو "سامة"، بما في ذلك الإفراط في العمل وسلوك المشاهير الجامح والوقت المفرط الذي يقضيه بعضهم في ألعاب الفيديو، وتم فحص مجالات أخرى للثقافة الشعبية أيضاً.
حذر من قوة التكنولوجيا الخاصة
يشير الخبراء إلى الحملة القمعية، بخاصة الإجراءات الموجهة ضد قطاع التكنولوجيا، على أنها بداية حقبة جديدة للتنظيم في الصين، فقد صعدت شركات مثل "آنت غروب" و"ديدي" بسرعة خلال السنوات الأخيرة لتصبح مراكز قوة في مجالاتها، حيث تهيمن شركة "علي باي" التي تديرها "آنت غروب" على سوق الدفع عبر الهاتف المحمول في الصين بحصة سوقية تبلغ نسبتها 56 في المئة، فيما تحتكر "ديدي" سوق سيارات الأجرة بحصة سوقية تبلغ 90 في المئة تقريباً.
وفي البداية شجعت بكين رحلة صعود مثل هذه الشركات التي كانت ترى أنها تخلق فرص عمل ضخمة وجذبت كميات هائلة من رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية، كما انفجر نفوذ الصين كمركز للابتكار التكنولوجي خلال السنوات الأخيرة بسبب هذه الشركات التي تتنافس وجهاً لوجه مع المنافسين الغربيين.
ويرى الأستاذ ومدير المبادرات الصينية في مدرسة ثندربيرد بجامعة ولاية أريزونا دوج جوثري أن شركات مثل "علي بابا" و"تينسنت" و"ديدي" لن تكون قادرة بعد الآن على البقاء تحت المظلة الداعمة للإنترنت أو التكنولوجيا خارج إشراف الحكومة الصينية.
ومن الواضح أن بكين قلقة أيضاً بشأن جمع البيانات من هذه الشركات الخاصة، إذ إن التكنولوجيا التي قامت بإنشائها منتشرة في الحياة الصينية لدرجة أن لديها إمكان الوصول إلى معلومات حساسة حول مئات الملايين من الأشخاص، بدءاً من المكان والوقت الذي يسافرون فيه ووصولاً إلى تفاصيل محددة حول كيفية إنفاق أموالهم.
وتقول أوبر إن "الصناعات والقطاعات التي تعرضت لانتقادات شديدة هي جزء من الاقتصاد التكنولوجي الحديث، وتتحكم في كميات هائلة من بيانات المستوى الفردي". وأضافت أن البيانات "مورد لا يقدر بثمن لأي حكومة ترغب في السيطرة على جميع مناحي الحياة".
وقد كان اهتمام بكين بالبيانات الضخمة واضحاً هذا الصيف، إذ تبلور التحقيق الذي أجرته الحكومة بشأن "ديدي" والشركات الصينية الأخرى التي تتاجر في الولايات المتحدة، وركزت السلطات على مزاعم بأن هذه الشركات أساءت التعامل مع بيانات حساسة حول مستخدميها في الصين، مما يشكل أخطاراً على الخصوصية الشخصية والأمن السيبراني الوطني.
وقالت أوبر إن هذه اللوائح "قد تعكس ببساطة الرغبة في السيطرة على نوع البيانات والتكنولوجيا التي تهيمن عليها حالياً أكثر شركات التكنولوجيا الخاصة ابتكاراً في الصين".