يتجه المشهد الجغراسياسي في ليبيا نحو استقطاب ثنائي تركي-روسي، ما يُفسر تسارع الجميع في الأيام الأخيرة، نحو الاستئثار بصفقات تجارية ضخمة، في إطار انطلاق عمليات إعادة الإعمار. وحاز الأتراك على حصة من الصفقات التجارية، ربما تكون الأكبر حتى الآن، في أعقاب زيارة مهمة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة إلى أنقرة، على رأس وفد مؤلف من 14 وزيراً.
وعلى عكس التخمينات التي أطلقها البعض، عشية زيارة الوفد الليبي إلى أنقرة، لم تُطرح معاودة النظر في الاتفاقات التي وقع عليها الرئيس التركي اردوغان، ورئيس حكومة الوفاق الوطني السابقة، فائز السراج، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 ويتعلق الأمر بمذكرتي تفاهم تخصان التعاون الأمني والعسكري، وتحديد مناطق الصلاحية البحرية، «بهدف حماية حقوق البلدين المنبثقة عن القانون الدولي» على ما قال اردوغان. لا بل الأكيد أن الأتراك سيحصدون مزيدا من الصفقات، بعد هذه الزيارة.
ولم يترك اردوغان الفرصة تمرُ من دون تحذير المنادين بمراجعة مذكرة التفاهم البحرية واتفاق التعاون العسكري بين بلاده وليبيا، متهما أنصار الجنرال المتقاعد خليفة حفتر «الذين وقفوا إلى جانب الانقلاب والانقلابيين عوضا عن الحق والعدالة والشرعية» بكونهم شركاء في المجازر التي عرفتها ليبيا. كما توجه برسالة إلى أنصار المجلس الرئاسي مفادها التذكير بأن الدعم العسكري التركي «حال دون سقوط طرابلس ومنع ارتكاب مجازر جديدة وضمن وقف إطلاق النار» وهو تلميح إلى أحقية تركيا بالاستحواذ على قسم كبير من صفقات إعادة الإعمار. ولم يختلف دبيبة مع ما قاله الرئيس التركي، بل أكد أن بلاده تبحث عن «علاقات استراتيجية مبنية على المصالح المشتركة» مع ليبيا.
مجلس التعاون الاستراتيجي
وكان لافتا أن كل وزير في الوفد الليبي اجتمع خلال الأيام التي استغرقتها الزيارة مع نظيره التركي للبحث في تنفيذ المشاريع الكبرى التي يحتاجها الليبيون. وأكدت وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان، التي سبق أن زارت طرابلس على رأس وفد من رجال الأعمال ورؤساء الشركات التركية، أن بلادها مستعدة «لتولّي المسؤوليات اللازمة لإعادة إعمار ليبيا في مختلف المجالات، بدءاً من استثمارات البنية التحتية والفوقية، مروراً بمجالات الصحة والطاقة والتعليم» وذلك عقب لقائها مع وزير الاقتصاد والتجارة الليبي محمد علي الحويج ووزير التخطيط فاخر مفتاح بوفرنة.
وفي أعقاب الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين، تم التوقيع على سلسلة من الاتفاقات الثنائية، التزمت بموجبها الشركات التركية بتنفيذ مشاريع كبرى، لاسيما في مجال الطاقة وبناء محطات توليد الكهرباء، التي تنقطع خدماتها حاليا لفترات مديدة، وتأهيل العديد من المناطق والبنى التحتية، ومنها تجديد مطار طرابلس الدولي المقفل منذ 2014 بسبب الحرب.
تدريب الدبلوماسيين الليبيين
والطريف أن من بين الاتفاقات اتفاق يخص إطلاق برنامج تدريبي للدبلوماسيين الليبيين في المرحلة الأولى، وفقا لمذكرة تفاهم سابقة بين الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية التركية ومعهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية والتعاون الدولي في ليبيا. والأهم من ذلك أن مدربين وخبراء عسكريين أتراكا سيدربون قوات حكومة الوحدة الوطنية الليبية. ويدل هذا، عمليا، على أن تركيا لا تعبأ بنداءات الأمم المتحدة إلى جميع القوات الأجنبية بمغادرة ليبيا في أقرب وقت ممكن. كما يعني أيضا استمرار وجود قوات تركية وروسية على جانبي الطريق الفاصلة بين مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية.
إرضاء الروس والأتراك معا؟
أما في زيارة دبيبة لموسكو، فبالرغم من تركيز الروس على تجديد صفقات السلاح، التي كانوا أبرموها في عهد معمر القذافي، يمكن للمرء أن يلحظ الأهمية التي ارتدتها الزيارة، إذ ستترك بصماتها في العلاقات الثنائية. وبدت الأمور وكأن دبيبة، الذي يدرك ضخامة الورشة التي ستفتحها حكومته لإعادة إعمار البلد، يعتزم إرضاء الروس والأتراك معا. فقد وعد الروس بالعودة إلى مناقشة محاور التعاون الثنائي «بالتفصيل» على ما قال رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، لدى استقباله دبيبة في موسكو. مع ذلك لوحظ أن الروس لم يخُصُوا الزائر الليبي باستقبال يليق برئيس حكومة، إذ كان في استقباله لدى وصوله نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وهو شخصية مفتاحية، لكنه أدنى من وزير في السلم البروتوكولي. أما الرئيس فلاديمير بوتين فاقتصر على مكالمة هاتفية مع دبيبة أثناء وجوده في موسكو، وهي مكالمة كان يمكن إجراؤها خلال وجود رئيس الحكومة الليبي في طرابلس. وكان من الواضح أن دبيبة لم يحظ باستقبال من مستوى الاستقبالات التي حظي بها، في الماضي، الجنرال حفتر أثناء زياراته لموسكو.
حظوة لدى الأتراك
أما في أنقرة فاستقبله الأتراك بمراسم بروتوكولية ضخمة في المجمع الرئاسي بالعاصمة، في وجود رئيس الجمهورية اردوغان، ومع عزف النشيدين الرسميين، على الرغم من أن الزائر الليبي ليس رئيس دولة. والثابت أن الروس، الذين أشاروا في بياناتهم إلى التعاون في المجال العسكري، سيقيسون حجم هذا التعاون ونوعيته على حجم الاتفاقات المماثلة مع تركيا.
ولذلك لم يتطرق أي مسؤول روسي لموضوع إخراج القوات الأجنبية من ليبيا، متظاهرين بكونهم غير معنيين بطلب الأمم المتحدة والحكومة الليبية إخراج القوات الأجنبية من البلد.
على هذه الخلفية أتت تصريحات دبيبة الأخيرة، التي أكد فيها أن حكومته حققت توحيد مؤسسات الدولة عدا المؤسسة العسكرية. غير أنه لم يقل شيئا عن استمرار وجود ميليشيات وكيانات مسلحة خارج قبضة الدولة، في الشرق كما في الغرب والجنوب، ما شكل أكبر عائق أمام تحديث الجيش المُهلهل، الموروث عن النظام السابق، وتوحيد ضباطه ومعداته وأسلحته، أو ما تبقى منها. وأعطت اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 والتوافقات المهمة التي توصلت إليها، أملا كبيرا لليبيين بأن فرص التوحيد ممكنة، وذلك في سياق التقدم الحاصل على المسار السياسي.
مطامع الأوروبيين
لا يقتصر هذا السباق على الروس والأتراك وحسب، فالأوروبيون وخاصة الإيطاليون والفرنسيون، مستعجلون للتوقيع على اتفاقات تجارية من أجل العودة إلى ليبيا، مع أنهم تخاصموا كثيرا في ما بينهم، طيلة السنوات العشر الأخيرة. وبدا هذا الاستعجال للفوز بأكثر ما يمكن من الصفقات في كلام نائبة وزير الخارجية الايطالي مارينا سيريني، التي أولت أهمية كبيرة للعملية الاقتصادية، وعرضت على الحكومة الليبية أن تتزامن العمليتان السياسية والاقتصادية.
ويتفاخر الإيطاليون بأن أمريكا هي الحليف الأقرب إليهم في الملف الليبي، ويسعون إلى تعزيز «الصداقة التاريخية الديناميكية» مع ليبيا، التي يعتبرونها «شريكا استراتيجيا» لهم. وإذ يحاول الاتحاد الأوروبي «تبريد» الخلافات بين أعضائه، وهي في الأساس بين مجموعتي «توتال» الفرنسية و»إيني» الإيطالية، فإن الانسجام الحالي يبقى مؤقتا. ولعل أحد عناوين الاختلاف بين الفرنسيين والإيطاليين يتمثل بالقلق الفرنسي من تداعيات اضطراب حبل الأمن في ليبيا، على مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا، في منطقة الساحل والصحراء، وينصحها الإيطاليون بسحب قواتها من مالي والنيجر وتشاد لأن المعركة العسكرية خاسرة، ولن تستقر الأوضاع هناك، سوى بعودة السلام إلى ليبيا، وسيطرة الدولة المركزية على كافة مناطق البلد.
تفكيك شبكة دولية
وتعززت المخاوف الفرنسية في الأيام الأخيرة بعدما أعلنت السلطات الأمنية في النيجر، عن تفكيك شبكة دولية لتهريب الأسلحة من ليبيا، كانت في طريقها إلى نيجيريا، وضبط أكثر من ثمانين قطعة سلاح ومصادرة سبعة وسبعين رشاش كلاشنيكوف، مع صاروخين وقرابة خمس وثلاثين ألف طلقة من عيارات مختلفة. وهذه واحدة من الجماعات الكثيرة التي تجوب الصحراء، وتتعاطى التهريب العابر للحدود وتجارة السلاح، إلى جانب ارتكابها عمليات إرهابية تستهدف مدنيين وعسكريين في دول الساحل.
ويُبدي مراقبون مخاوفهم، في ظل ضعف قبضة السلطة المركزية، من تعزيز النزعة الانعزالية التي كانت تجعل من المدن الليبية الكبرى دولا قائمة بذاتها، أسوة بمصراتة والزنتان وسبها وبنغازي. ومن هؤلاء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي شبه الوضع الراهن في ليبيا بالوضع في سوريا. ويعتقد الباحث الفرنسي بيار رازو أن باريس بصدد البحث عن رجل قوي في ليبيا، بعدما تخلت عن حفتر، بُغية ضمان الاستقرار في الضفة الجنوبية للمتوسط، وكذلك في الجنوب الليبي المُطل على منطقة الساحل، والذي يتحفظ أهله على سياسات حفتر المناهضة للإسلاميين والمتساهلة، في الوقت نفسه، مع المتشددين الموالين للداعية السعودي ربيع المدخلي. من هنا يشكل إدماج جميع المناطق والمدن في المشروع السلمي التوحيدي، أهم هدف للحكومة الحالية تمهيدا للاستحقاقات السياسية المقبلة.
أكثر من ذلك يرى خبراء فرنسيون، ومن بينهم رازو، أن الروس والأتراك يُعاودون السيناريو السوري في ليبيا، حيث تتجاور المنافسة العسكرية مع التوافقات السياسية والدبلوماسية.
بالمقابل يرى الفرنسيون والإيطاليون في التمدُد التركي والروسي في شمال أفريقيا وشرق المتوسط، خطرا مشتركا لكن هذا التطابق لم يكن كافيا لوقف الصراع نهائيا بين روما وباريس. ويشير الأدميرال باسكال أوسُور، مدير «المؤسسة المتوسطية للدراسات الاستراتيجية» إلى أن كلا من روسيا وتركيا تملك وسيلة ضغط على الأخرى، وهي المعابر والمضيقات الاستراتيجية، بالإضافة إلى عضوية الحلف الأطلسي، بالنسبة لتركيا، واحتياط الغاز والتفوق العسكري في الجانب الروسي. غير أن تكهنات بعض الباحثين الغربيين بأن ليبيا ستفقد مكانتها الاستراتيجية بحكم تأثير الكماشة الروسية-التركية، تبدو بعيدة عن الواقع، لأن الاستقرار الأمني وانطلاق إعادة البناء في ليبيا، سيجعلان منها قوة إقليمية، لا بيدقا في أيدي القوى الكبرى.
رشيد خشانة