الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

هل تقع روسيا وأوروبا في ظلام حالك عبر هيمنتها على إمدادات الطاقة النووية؟

يستطيع فلاديمير بوتين إدخال أوروبا في ظلام حالك بفضل هيمنة الطاقة النووية الروسية على الإمدادات في أوروبا والعالم بما في ذلك أمريكا وخاصة عبر شركة روس آتوم.  

فلقد تحركت أوروبا بسرعة مذهلة لفطم نفسها عن النفط والغاز الطبيعي الروسيين في أعقاب الحرب في أوكرانيا. لكن كسر الاعتماد طويل الأمد على الصناعة النووية الروسية الهائلة هي مهمة أكثر تعقيداً بكثير، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.

وتهيمن روسيا، من خلال شركة روساتوم للطاقة النووية العملاقة المملوكة للدولة، على سلسلة التوريد النووية العالمية. 

ووفقاً لتقريرها السنوي لعام 2020، بلغت محفظة الطلبات الخارجية للشركة لمدة عشر سنوات 138.3 مليار دولار. وتُقدَّر إنشاءات الشركة من محطات الطاقة الذرية في الخارج 

بـ89.1 مليار دولار.

وتخضع شركة روس آتوم الروسية بالكامل لسيطرة الرئيس الروسي، الذي يحدد أهدافها الاستراتيجية ويُعيِّن مديرها وأعضاء مجلسها الإشرافي. ويستخدم بوتين بنشاط الشركة لتوسيع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، وتتمتع بدور رئيسي في إقامة علاقات أوثق مع القوى الإقليمية والتقرب منها.

وتمثل موسكو أكبر مورد في العالم لليورانيوم المخصب، الذي يستخدم في تشغيل المفاعلات النووية.

واللافت أنه عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن فرض حظر أمريكي على واردات النفط والغاز والفحم الروسي في مارس/آذار 2022، لم يكن هناك أي ذكر لـ"روس آتوم".

ويمكن أن يُعزَى هذا الإعفاء إلى اعتماد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على اليورانيوم الروسي، الذي شكّل 14% من مشتريات اليورانيوم الأمريكية في عام 2021 و20% من واردات الاتحاد الأوروبي من اليورانيوم في عام 2020. ومن شأن فرض عقوبات على روس آتوم بعد قطع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، أن يؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة العالمية. وقد تمنح هذه الحقيقة شركة روس آتوم الامتياز والحرية للعمل في الشرق الأوسط.

وكانت روستوم ثالث أكبر مورد لليورانيوم في أوروبا في عام 2021، وهو ما يمثل 20% من إجمالي حجم التوريدات، وجاءت 19.1% من احتياجات الاتحاد الأوروبي الأخرى من حليف روسيا كازاخستان.

أمريكا تخشى استخدام روسيا الطاقة النووية ضدها
ولكن حتى الولايات المتحدة القوى العظمى التي تناصب موسكو العداء حتى قبل غزوها لأوكرانيا والتي طالما انتقدت الأوروبيين، لا سيما الألمان لاعتمادهم على الغاز الروسي، هي بدورها تعتمد بشكل كبير على اليورانيوم الروسي المخصب.

واستحوذت روسيا على 16.5% من اليورانيوم المستورد إلى الولايات المتحدة في عام 2020 و23% من اليورانيوم المخصب اللازم لتشغيل المفاعلات النووية التجارية الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.

والولايات المتحدة لا تمتلك سوى منشأة تخصيب تجارية واحدة متبقية في ولاية نيو مكسيكو، وهي مملوكة لشركة أوروبية.

ويشعر العلماء الأمريكيون بالقلق من أن روسيا قد تعرقل تشغيل المفاعلات النووية في الولايات المتحدة من خلال وقف إمدادات اليورانيوم، وإذا تحققت هذه المخاوف، فستواجه الولايات المتحدة أزمة كهرباء كبيرة، حسبما ورد في تقرير للنسخة الإنجليزية لموقع TRT  التركي.

وعند بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، توقع الخبراء الإغلاق الشامل لمحطات الطاقة النووية الأمريكية في حالة فرض واشنطن لحظر على صادرات اليورانيوم الروسي.

لكن ممثلي شركات الطاقة النووية الأمريكية طلبوا من الرئيس الأمريكي جو بايدن عدم حظر واردات اليورانيوم الروسي لتجنب ارتفاع أسعار الكهرباء.

وعلى عكس النفط والغاز والفحم، تعتمد صناعة الطاقة الأمريكية على الإمدادات من روسيا وكازاخستان وأوزبكستان وهما (دولتان حليفتان لموسكو) لما يقرب من نصف احتياجاتهما من اليورانيوم المخصب.

 تشتري الولايات المتحدة اليورانيوم الروسي غير المكلف نسبياً منذ أكثر من 30 عاماً، حسب موقع Kompaniya.

فمنذ عام 1993 إلى عام 2013، استخدم يورانيوم الأسلحة الروسية كمصدر للطاقة في الولايات المتحدة، وذلك بموجب عقد وُقّع من قبل الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين.

وكبادرة متبادلة تم الاتفاق عليها، دمر الاتحاد الروسي 20 ألف رأس نووي وتلقى 17 مليار دولار من الأمريكيين.

كما يقولون في واشنطن "بفضل الصواريخ الروسية"، عملت مصابيح الإضاءة الأمريكية لمدة 20 عاماً، وبدورها نجت صناعة الطاقة النووية الروسية بفضل هذه الأموال الأمريكية.

الأمر أسوأ بالنسبة لأوروبا، مع وجود بدائل قليلة جاهزة، كان هناك دعم ضئيل لفكرة فرض عقوبات ضد روساتوم، على الرغم من حث الحكومة الأوكرانية في كييف على ذلك.

بعض المفاعلات الأوروبية يمكنها التوقف بدون روسيا
وبالنسبة للبلدان التي لديها مفاعلات روسية الصنع، فإنَّ جذور الاعتماد عليها تمتد عميقاً. ففي 5 من دول الاتحاد الأوروبي (دول حلف وارسو سابقاً)، شيدت روسيا جميع المفاعلات النووية، بإجمالي 18 مفاعلاً. بالإضافة إلى ذلك، من المقرر أن تبدأ شركتان أخريان العمل قريباً في سلوفاكيا، واثنتان قيد الإنشاء في المجر؛ مما يعزز الشراكات المستقبلية مع شركة روساتوم الروسية.

يذكرنا العلماء أن العديد من المفاعلات العاملة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تصنعها روسيا أيضاً، وبالتالي تزود الدول الغربية أيضاً بمكوناتها وقطع غيارها، وإذا استمر الصراع بين موسكو والغرب، فسيتم إجبار العديد من محطات الطاقة النووية بالفعل على تعليق بعض أو كل عملياتها.

اليوم، تمتلك شركة "روس آتوم" الروسية 17% من سوق تصنيع معدات تخصيب الوقود النووي العالمي، وهي ثالث أكبر شركة بعد Westinghouse الأمريكية وAREVA الفرنسية.

وطوال سنوات، لم يكن أمام مُشغّلي محطات الطاقة النووية خيارات كثيرة. كانت شركة روساتوم، من خلال شركة الطاقة النووية TVEL التابعة لها، هي المنتج الوحيد تقريباً لتركيبات الوقود المُصنَّعة -وهي الخطوة الأخيرة في عملية تحويل اليورانيوم إلى قضبان وقود نووي- التي تزود المفاعلات بالطاقة.

ومع ذلك، منذ غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، بدأت بعض الدول الأوروبية في الابتعاد عن مُزوِّد الطاقة النووية الروسي العملاق.

الأمريكيون يحاولون وراثة دور روس آتوم في أوروبا
فقد وقعت شركة الطاقة في جمهورية التشيك، CEZ، عقوداً مع شركة Westinghouse Electric ومقرها ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وشركة Framatome الفرنسية لتوفير تركيبات الوقود لمصنعها في بلدة تيميلين.

وفي فنلندا، أنهت شركة Fennovoima للطاقة مشروعاً مضطرباً مع روساتوم لبناء مفاعل نووي. واستعانت شركة Fortum بخدمات شركة Westinghouse الأمريكية لتصميم وترخيص وتوريد نوع وقود جديد لمصنعها في لوفيزا بفنلندا، بعد انتهاء عقودها الحالية.

وقال سايمون إريك أولوس، نائب الرئيس التنفيذي في Fortum، وهي شركة طاقة فنلندية: "الهدف هو تنويع سلسلة التوريد".

بدورها، وقّعت بلغاريا اتفاقية جديدة مدتها 10 سنوات مع شركة Westinghouse لتوفير الوقود لمفاعلاتها الحالية. وفي الأسبوع الماضي، أحرزت تقدماً في تنفيذ خطط الشركة الأمريكية لبناء وحدات مفاعل نووي جديد. كما توشك بولندا على بناء أول محطة للطاقة النووية، التي ستضم ثلاثة مفاعلات من تطوير الشركة الأمريكية Westinghouse.

روس آتوم
شركة روس آتوم تعد من أقوى أدوات النفوذ في يد بوتين/رويترز
وتبحث سلوفاكيا، وحتى المجر، أقرب حليف لروسيا في الاتحاد الأوروبي، عن موردي الوقود بديلين.

وقال طارق تشوهو، رئيس وحدة الوقود النووي في Westinghouse، إنَّ حرب أوكرانيا عجّلت بحث أوروبا عن موردين جدد، مضيفاً: "حتى المجر تريد التنويع".

وصرح ويليام فريبيرن، مدير التحرير الأول للطاقة النووية في موقع S&P Commodity Insights ، بأنَّه في غضون أيام من الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت كل دولة تقريباً تدير مفاعلاً روسياً تبحث عن إمدادات بديلة.

وفي أوكرانيا، بدأت الجهود الجادة لتقويض الهيمنة النووية الروسية في عام 2014 بعدما أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوات لضم الأراضي في شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس الشرقية. ووقّعت أوكرانيا، التي كانت مفاعلاتها الـ15 التي تعود إلى الحقبة السوفييتية تزود نصف الكهرباء للبلاد، اتفاقاً مع شركة Westinghouse الأمريكية لتوسيع عقد الوقود الخاص بها.

وفي يونيو/حزيران، وقّعت أوكرانيا عقداً آخر مع Westinghouse لتزويدها في النهاية بكل وقودها النووي. وستعمل الشركة أيضاً على بناء 9 محطات للطاقة وإنشاء مركز هندسي في الدولة.

ابتعاد الغرب عن الصناعة النووية الروسية أمر شاق وسيستغرق سنوات
ومع ذلك، فإنَّ الابتعاد الغربي عن الصناعة النووية الروسية سيكون مهمة شاقة؛ نظراً للطبيعة بالغة التعقيد لسلسلة التوريد النووية. وسيكون إنشاء واحدة جديدة مكلفاً ويستغرق سنوات.

وفي الوقت نفسه، أثبتت شركة روساتوم نجاحها الفريد بصفتها مؤسسة تجارية وأداة للتأثير السياسي الروسي. ويرجع جزء كبير من صعودها إلى ما وصفه الخبراء بأنها "محطة نووية شاملة"، التي يمكنها توفير البلدان بحزمة شاملة من المواد، والتدريب، والدعم، والصيانة، والتخلص من النفايات النووية، وإيقاف التشغيل، وربما الأهم، التمويل بشروط مواتية.

ومع عمر يتراوح من 20 إلى 40 عاماً، فإنَّ صفقات بناء مفاعلات نووية تفرض زواجاً طويل الأمد.

إنها تخصب نصف يورانيوم العالم
وتمُد روسيا أقوى قبضاتها في السوق إلى الوقود النووي. فهي تتحكم في 38% من تحويل اليورانيوم في العالم و46% من قدرة تخصيب اليورانيوم – وهي خطوات أساسية في إنتاج الوقود القابل للاستخدام.

وقال بول دبار، الزميل الزائر في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: "هذا يساوي في المجال النووي كل أعضاء أوبك مجتمعين من حيث الحصة في السوق والقوة في مجال النفط"، في إشارة إلى هيمنة منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) على النفط.

وكما هو الحال مع النفط والغاز الطبيعي، ارتفعت تكلفة إمدادات الوقود النووي خلال العام الماضي؛ وأسهمت بضخ أكثر من مليار دولار من الصادرات إلى الخزانة الروسية، وفقاً لتقرير صادر عن معهد Royal United Services Institute، وهو منظمة أبحاث أمنية في لندن. 

وتحصل صناعة الطاقة النووية الأمريكية على ما يصل إلى 20% من اليورانيوم المُخصَّب من روسيا، وهو الحد الأقصى المسموح به بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الأخيرة، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

بينما تستورد فرنسا 15% منها. ووقّعت شركة Framatome، المملوكة لشركة الطاقة النووية المدعومة من الدولة الفرنسية، Électricité de France، اتفاقية تعاون مع روساتوم في ديسمبر/كانون الأول 2021، قبل شهرين من الغزو الروسي، التي لا تزال سارية المفعول.

وتأتي حوالي ربع إمدادات الكهرباء في الاتحاد الأوروبي من الطاقة النووية. ومع كارثة المناخ المرتقبة التي تدفع العالم لتقليل الاستخدام الكلي للوقود الأحفوري، من المتوقع أن يزداد دور الطاقة النووية في مزيج الوقود المستقبلي.

بدائل لروسيا في اليورانيوم أصدقاء لها!
المشكلة أن أغلب الدول الأخرى المنتجة لليورانيوم هي بدورها حليفة لموسكو بشكل أو بآخر، أو خاضعة لتأثيرها.

يقول المحللون "إن كازاخستان تنتج أكبر قدر من اليورانيوم في العالم"، وأيضاً أوزبكستان منتج مهم، والبلدان المسلمان الواقعان في آسيا الوسطى يمثلان ما يقرب من 50% من تعدين اليورانيوم العالمي.

ويعلم الجميع العلاقات الودية بين روسيا وكازاخستان، كما أن الدولتين ليس لديهما طرق لتوريد اليورانيوم لأوروبا وأمريكا إلا عبر روسيا، أو إيران أو الصين أو بحر قزوين ومنه إلى أذربيجان، وهي كلها طرق شائكة لوجستياً وسياسياً وتمر عبر أو قرب منافسين للولايات المتحدة.

وفي حال غياب بدائل لعملاق الوقود الروسي روس أتوم، فإن إمدادات الطاقة لمئات الملايين من الناس حول العالم ستكون معرضة لخطر الاضطرابات.

 ويخلص أليكسي أنبيلوغوف مدير مؤسسة the Groundwork الأمريكية المتخصصة في تقنيات المعلومات إلى أنه "إذا بدأت العقوبات الغربية في استهداف شركة روس آتوم الروسية، فقد تستخدم موسكو نفوذها لتقييد اليورانيوم الكازاخستاني أيضاً".

في الوقت الحالي، من غير المرجح أن تؤدي محاولة الولايات المتحدة لإحياء برامج تخصيب اليورانيوم الخاص بسرعة إلى الحد من المشتريات الروسية أو تغيير ميزان القوى في سوق الوقود النووي العالمي الذي ما زال الروس يسيطرون عليه بشكل كبير.

روسيا قد تفقد السوق الغربي تدريجياً ولكن تتوسع خارجه
ومع ذلك، يجادل المحللون بأنه حتى بدون عقوبات رسمية، فإنَّ موقف روسيا باعتبارها مورداً نووياً قد يتعرض للخطر الدائم.

وفي ذروة الجدل في ألمانيا العام الماضي حول ما إذا كان يجب إبقاء محطتي الطاقة النووية المتبقيتين قيد التشغيل بسبب الحرب، برز اعتمادهما على اليورانيوم المُخصَّب من روسيا اللازم لقضبان الوقود كإحدى الحجج ضد تمديد تشغيل المحطتين. وسيُغلَق المفاعلان الأخيران الشهر المقبل.

وعندما وافق مجلس الوزراء البولندي على الاتفاق في نوفمبر/تشرين الثاني الذي يقضي ببناء Westinghouse أول محطة للطاقة النووية في البلاد، أشار القرار إلى "الحاجة إلى الاستقلال الدائم عن إمدادات الطاقة وناقلات الطاقة من روسيا".

وأعرب طارق تشوهو، رئيس وحدة الوقود النووي في Westinghouse، عن ثقته في قدرة الشركة على التنافس مع روساتوم في أوروبا، وقدّر أنها في النهاية يمكن أن تستحوذ على 50 إلى 75% من تلك السوق النووية. 

لكن خارج الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتحديداً في البلدان التي استمر فيها الدعم للحكومة الروسية أو الحياد تجاه الحرب، لا يزال التسوق والتمويل الشامل من روساتوم مغرياً. ويمكن العثور على مفاعلات روسية الصنع في الصين والهند وإيران وكذلك أرمينيا وبيلاروسيا. وبدأت أعمال البناء في أول محطة للطاقة النووية في تركيا، ووقعت روساتوم مذكرة تفاهم مع 13 دولة، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.

 وفي عام 2015، وقّعت روس آتوم اتفاقية مع مصر لبناء محطة للطاقة النووية في مصر بالقرب من الضبعة على ساحل البحر المتوسط ​​من خلال تقديم قرض بقيمة 25 مليار دولار من روسيا. 

وخلُص تقرير جديد نشرته مجلة Nature Energy إلى أنَّ مكانة روساتوم العالمية "قد تظل قوية"، برغم أنَّ الحرب "ستقوض مكانتها في أوروبا وتضر بسمعتها باعتبارها مورداً موثوقاً به".