النهار الاخبارية - وكالات
ألغى المجلس العسكري في النيجر اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، فهل تشعل باريس حرباً بالوكالة في غرب إفريقيا في محاولة لإفشال الانقلاب وإنقاذ ما تبقى من نفوذ لها في مستعمراتها السابقة؟
كان عدد من عناصر الحرس الرئاسي في النيجر قد أعلنوا، الأربعاء، 26 يوليو/تموز، عزل الرئيس محمد بازوم واحتجازه وأسرته ووزير الداخلية وإغلاق حدود البلاد الواقعة غرب إفريقيا وقال الجنود إنهم عطلوا الدستور، وعلقوا عمل جميع المؤسسات في البلاد.
وعلى الفور توالت الإدانات الدولية والإقليمية للانقلاب في النيجر، لكن الخميس، 27 يوليو/تموز، ومع وصول الرئيس البنيني ممثلاً عن الإيكواس لإجراء وساطة، أعلن قائد الجيش عن تأييده للقوات التي أعلنت الاستيلاء على السلطة في البلاد، ليزداد الموقف غموضاً، بين من يرى أن الانقلاب "نجح" وحُسمت الأمور، وبين من يقول إن الأمور لم تُحسم بعد، مرجحاً عودة الرئيس المنتخب إلى السلطة.
زوال الغموض عن الموقف في النيجر
بعد أن ظل الغموض سيد الموقف لأيام في أعقاب الانقلاب في النيجر، بدأت الصورة تتضح والمواقف تتبلور، فقائد الانقلاب هو عبد الرحمن تشياني، قائد الحرس الجمهوري الذي قالت تقارير إن الرئيس محمد بازوم كان بصدد إقالته من منصبه الذي تولاه لمدة 10 سنوات.
لكن بعيداً عن تفاصيل الموقف الداخلي في النيجر، تلك الدولة غير الغريبة على الانقلابات العسكرية على أية حال، يظل الموقف الخارجي مرشحاً للتبلور أكثر في الأيام والأسابيع القادمة، بعد أن تحولت الدولة الواقعة في غرب إفريقيا والمستعمرة الفرنسية السابقة إلى آخر موطئ قدم لباريس والغرب في تلك المنطقة.
فبعد أن شهدت بوركينا فاسو وغينيا ومالي انقلابات عسكرية خلال السنوات الثلاث الأخيرة نتج عنها فقدان فرنسا لنفوذها لصالح روسيا، أصبحت النيجر المعقل الأخير لباريس، ولم يعد هناك شك الآن في أن قادة الانقلاب في النيجر لا يكنون أي ود تجاه المستعمر السابق، الموقف نفسه يبدو واضحاً في التظاهرات الداعمة للانقلاب.
وكانت فرنسا تأمل في أنه يمكن إعادة الرئيس المنتخب بازوم إلى السلطة، إذ اعتبرت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، الجمعة، 28 يوليو/تموز، أن محاولة العسكريين السيطرة على الحكم في النيجر ليست "نهائية" بعد، وأنه لا يزال هناك مخرج إذا استمع المسؤولون (عن تلك المحاولة) إلى المجتمع الدولي.
لكن الخميس 3 أغسطس/آب، شهد ضربة أخرى للآمال التي تعقدها باريس في استعادة الوضع السابق، حيث ألغى المجلس العسكري مجموعة من اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا. وهذه الخطوة شبيهة بتحركات اتخذها المجلسان العسكريان في مالي وبوركينا فاسو المجاورتين في أعقاب انقلابات.
فكما حدث في الانقلابات التي وقعت في الآونة الأخيرة في بوركينا فاسو ومالي المجاورتين، جاء استيلاء المجلس العسكري على السلطة في النيجر وسط موجة متنامية من المشاعر المعادية لفرنسا، إذ يقول السكان إنهم يريدون أن تتوقف الحاكمة الاستعمارية السابقة للبلاد عن التدخل في شؤونهم.
إذ تعد النيجر جزءاً رئيسياً من المنطقة الإفريقية المعروفة باسم الساحل، وهي منطقة ينشط فيها الجهاديون وتحاصرها الأنظمة العسكرية، واعتُبرت في السنوات الأخيرة مثالاً على الاستقرار النسبي، في حين استسلمت مالي وبوركينا فاسو، المجاورتان، لانقلابات عسكرية. وتستضيف النيجر قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية وينظر إليها على أنها شريك رئيسي في الحرب ضد المتمردين الإسلاميين.
وكانت حكومة بازوم شريكة للدول الأوروبية التي تسعى إلى وقف تدفق المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط، ووافقت على إعادة مئات المهاجرين من مراكز الاحتجاز في ليبيا، فضلاً عن التصدي الاتجار بالبشر.
ما قصة النفوذ الاقتصادي لفرنسا؟
يبلغ عدد سكان النيجر 24 مليون نسمة، الأغلبية الساحقة منهم مسلمون، وتقع في غرب إفريقيا، وهي بلد حبيس سميت نسبة إلى نهر النيجر الذي يخترق أراضيها، ويحدها من الجنوب نيجيريا وبنين ومن الغرب بوركينا فاسو ومالي ومن الشمال الجزائر وليبيا، وتحدها تشاد من جهة الشرق.
ويبلغ إجمالي مساحة النيجر نحو 1.3 مليون كم مربع، مما يجعلها أكبر دولة في منطقة غرب إفريقيا من حيث المساحة، ويتركز معظم سكان النيجر في أقصى جنوبي وغربي البلاد، وعاصمتها نيامي، وهي أكبر مدن النيجر والتي يقع أغلبها على الضفة الشرقية لنهر النيجر في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد.
وتعتبر النيجر واحدة من أفقر دول العالم، حيث تشغل الصحراء الكبرى نحو 80% من مساحة البلاد، بينما تعاني الأجزاء الباقية منها من مشكلات تتعلق بالمناخ مثل الجفاف والتصحر. لكن في الوقت نفسه، فالنيجر دولة غنية بموارد الطاقة، إذ تمتلك واحداً من أكبر احتياطيات العالم من اليورانيوم وتعد سابع أكبر منتج له، فضلاً عن كميات كبيرة من احتياطيات الذهب والنفط، كما تم الكشف عن احتياطيات من الفحم عالي الجودة في جنوب وغرب البلاد.
وكانت النيجر قديماً عبارة عن أطراف مترامية لدول وممالك كبيرة أخرى، ومنذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، تعاقبت على النيجر 5 حكومات، بالإضافة إلى 3 فترات من الحكم العسكري حتى تم تشريع قانون انتخابي يحكم اختيار رئيس البلاد عام 1999. فالنيجر واحدة من أكثر دول العالم التي شهدت انقلابات في تاريخها المعاصر، إذ سجلت 4 انقلابات منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، فضلاً عن العديد من محاولات الانقلاب الفاشلة، كانت إحداها قبل تنصيب بازوم نفسه بيومين. ووقع آخر انقلاب في الدولة الإفريقية في فبراير/شباط 2010، وأطاح حينها بالرئيس مامادو تانجا.
ومع انتهاء الحقبة الاستعمارية لم تنتهِ المصالح الفرنسية في هذا البلد، إذ تحتل النيجر مكانة استراتيجية مهمة لدى باريس، فهي حليف في مجال مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتستضيف قاعدة عسكرية فرنسية بها نحو 1500 من القوات الفرنسية. كما تعتمد باريس على النيجر في الحصول على 35 في المئة من احتياجاتها من اليورانيوم، لمساعدة محطاتها النووية في توليد 70 في المئة من الكهرباء.
لكن ربما تكون النقطة المحورية في النفوذ الفرنسي هي السيطرة المطلقة على اقتصاد النيجر، فمنذ الاستقلال، أرغمت فرنسا مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا على استخدام وحدة نقدية موحدة معروفة باسم "فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا (CFA)، ومن خلال هذه الآلية، ضمنت لفرنسا الاستمرار في الهيمنة المطلقة والشاملة على ثروات مستعمراتها حتى اليوم. إذ ضمن ذلك لباريس استمرار التدفق النقدي والاقتصادي في اتجاه واحد من هذه المستعمرات نحو الخزينة الفرنسية طوال العقود التالية للاستعمار.
ويتم إصدار "الفرنك" عن طريق المصرف المركزي لدول وسط إفريقيا، حيث يحدد البنك المركزي الفرنسي بشكل منفرد قيمة صرف الفرنك الإفريقي، وعلى الرغم من أن قيمته موحدة ومرتبطة باليورو ( 1 أورو=656 فرنكاً إفريقياً) إلا أن فرنسا تمنع كل مجموعة من صرف عملتها داخل دول المجموعة الثانية.
كما أجبرت باريس تلك الدول على إيداع احتياطياتها من النقد الأجنبي لدى بنك فرنسا وربط قيمة العملة بالفرنك الفرنسي (اليورو حالياً)، وهكذا أصبحت فرنسا متحكمة بالكامل في اقتصاد هذه الدول وعملتها، وأصبحت أيضاً تغطي جزءاً كبيراً من عجز موازنتها السنوية الذي بلغ مستويات تاريخية بهذه الأموال.
وبعد احتجاجات من طرف بعض الدول الإفريقية على هذا النظام، قررت باريس خفض مستوى الودائع من احتياطيات الدول بالنقد الأجنبي لدى بنك فرنسا إلى لـ65% قبل تخفيض المعدل إلى 50% عام 2005، وفي 2020 بلغت الاحتياطيات المحجوزة على مستوى حسابات خاصة لدى بنك فرنسا ما يعادل 12.5 مليار يورو تتصرف فيها فرنسا بحرية مطلقة.
هل تشعل فرنسا حرباً بالوكالة؟
انقلاب النيجر إذاً يمثل ضربة قد تكون قاصمة لظهر فرنسا اقتصادياً وسياسياً، وبالتالي فإن رد فعل باريس على الأرجح سيكون الأكثر حدة على الإطلاق مقارنة بموقفها من انقلابات مالي وبوركينا فاسو وغينيا. وفي هذا السياق، يمكن رصد موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، التي اتخذت موقفها الأكثر صرامة حتى الآن حيال الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، رغم أن هذا هو الانقلاب السابع الذي تشهده منطقة غرب ووسط إفريقيا منذ عام 2020.
إذ من المقرر أن يختتم وزراء دفاع دول إيكواس الجمعة 4 أغسطس/آب مناقشاتهم بشأن احتمال التدخل العسكري في النيجر لاستعادة النظام الدستوري قبل انتهاء المهلة التي أعطوها لقادة الانقلاب وتنتهي السبت 5 أغسطس/آب.
ويزور وفد من إيكواس نيامي على أمل التوصل إلى "حل حاسم وودي" للأزمة، على الرغم من أن التكتل فرض أيضاً عقوبات شاملة وحذر من أنه قد يسمح باستخدام القوة إذا لم يعد بازوم لمنصبه بحلول يوم الأحد 6 أغسطس/آب.
لكن عبد الرحمن تشياني، الذي نصب نفسه زعيماً للنيجر، رفض العقوبات وقال إن المجلس العسكري لن يتراجع أمام أي تهديدات، في الوقت الذي تستمر اجتماعات وزراء دفاع المنطقة رسمياً في العاصمة النيجيرية أبوجا لمناقشة الرد العسكري المحتمل والذي قالوا إنه سيكون الحل الأخير.
ونشرت مجلة The Foreign Policy الأمريكية تقريراً يرصد تزايد الحديث عن احتمال أن يشتعل صراع إقليمي شامل في منطقة الساحل بوسط إفريقيا، بعد إعلان مالي وبوركينا فاسو مساء الإثنين 31 يوليو/تموز أنهما سيعتبران أي تحرك تُقدم عليه قوة أجنبية لتقويض الانقلاب المتواصل في النيجر "إعلانَ حربٍ" على بلديهما.
والإنذار موجه بطبيعة الحال إلى إيكواس، التي فرضت بالفعل عقوبات دبلوماسية واقتصادية على النيجر، حيث أعلنت عن تعليق جميع المعاملات بينها وبين الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وتجميد جميع الأصول المالية للنيجر في البنوك المركزية الإقليمية.
وبالتالي، فإن مُضي الطرفين قدماً في تنفيذ تلك التحذيرات يعني أن منطقة الساحل قد تكون على موعد مع حرب عسكرية بين دول الإقليم. لكن رضا الليموري، الزميل البارز في "مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد" -وهو مركز أبحاث مغربي- استبعد هذا الخيار استخدام المجموعة للقوة العسكرية أمام النيجر، لأن "العواقب ستكون كارثية على المدنيين إذا اختار الانقلابيون المواجهة".
من جهة أخرى، فإنه ليس من المستغرب أن أبرز دولتين داعمتين للانقلاب في الإقليم يتولى الحكم في كل منهما مجلس عسكري. ففي أغسطس/آب 2020، قاد العقيد آسامي غوتا الجيش في مالي انقلاباً على الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا. وتمكن غوتا بعد 9 أشهر من الاستيلاء على السلطة، وعيَّن نفسه زعيماً للمجلس العسكري الحاكم في البلاد. ثم أرجأ المجلس العسكري الاستفتاء على الدستور، الذي كان من المفترض أن ينتقل بالبلاد إلى نظام دستوري مدني، حتى عام 2024، ما يعني استمرار سيطرة غوتا على السلطة عاماً آخر.
وعلى المنوال ذاته، واجهت بوركينا فاسو اضطرابات داخلية، فقرر جيشها بقيادة المقدم بول هنري سانداوغو داميبا، حلَّ البرلمان والحكومة وتعليق العمل بدستور البلاد. لكن لم تكد تمضي بضعة أشهر إلا وأطاح النقيب إبراهيم تراوري بالمقدم داميبا واستولى على الحكم.
كانت الدول الثلاث -مالي وبوركينا فاسو والنيجر- تقاتل حركات تمرد شنَّتها جماعات متشددة، وعلى الرغم من المساعي التي بذلتها فرنسا والولايات المتحدة للقضاء على تلك الجماعات، فإن هذه الجهود آلت إلى الفشل. وتعاني دول غرب إفريقيا معاناة كبيرة تحت وطأة الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة. واستغلت مجموعة فاغنر الروسية اضطراب الأوضاع في تلك الدول لتعزيز استثمارها ونشر قواتها بالمنطقة. وقيل إن فاغنر مشاركة في انقلاب النيجر، لكن البيت الأبيض قال يوم الثلاثاء 1 أغسطس/آب إنه لم يحصل على دلائل مقنعة بأن روسيا لها ضلع في الانقلاب.
في غضون ذلك، أجلت فرنسا المواطنين الفرنسيين والأوروبيين من النيجر؛ وسرعان ما فعلت إيطاليا مثلها. وجاءت هذه الخطوة بعد أن تعرضت السفارة الفرنسية في نيامي، عاصمة النيجر، لهجوم يوم الأحد 30 يوليو/تموز، في أعقاب قرار فرنسا تعليق المساعدات الموجهة إلى البلاد.
ومن جانب آخر، قال البيت الأبيض إن الولايات المتحدة لم تغير قرارها بشأن الإبقاء على الحضور العسكري الأمريكي في البلاد. ولا يزال هناك قرابة ألف جندي أمريكي متمركزين في القاعدة العسكرية الأمريكية في أغاديز الواقعة وسط النيجر، وإن صدرت لهم تعليمات بتقييد التحركات خارج القاعدة بعد الانقلاب.