هكذا تتداخل دبلوماسية الطاقة والجغرافيا السياسية في شرق المتوسط
أعاد اكتشاف احتياطيات الغاز المهولة خلال العقد الماضي في شرق البحر الأبيض المتوسط تشكيل ديناميكيات المنطقة المتوترة بالفعل. ومنذ اكتشاف حقلي "تمار" و"ليفياثان" الإسرائيليين وحقل "ظهر" المصري، وصولا إلى الاكتشافات الحديثة لـ"كاليبسو" و"جلوكوس" في قبرص، أصبحت لعبة الطاقة في شرق المتوسط عاملا رئيسيا في تشكيل الدبلوماسية وتحركات السياسة الخارجية بين جميع الأطراف المعنية.
وفي الواقع، ترتبط الجوانب الجيوسياسية ارتباطا وثيقا بالتطورات في قطاع الطاقة. ومن خلال التدقيق في مشروعين رئيسيين لأنابيب الغاز، أحدهما يعمل بكامل طاقته والآخر يتم استكماله خلال الأعوام الأربعة القادمة، يمكن توضيح الديناميكيات التي يؤثر من خلالها قطاع الطاقة على الدبلوماسية والعكس.
ويعتبر خط أنابيب "تاناب" العابر للأناضول واحدا من مشاريع خطوط الغاز الطبيعي الضخمة حيث ينطلق من حقل غاز "شاه دنيز" الأذربيجاني، الواقع في جنوب بحر قزوين، ويمتد لمسافة 1850 كم داخل تركيا. وعلى مقربة من الحدود التركية اليونانية، بين مدينتي "إيبسالا" و"كيبوي"، يتم توصيل "تاناب" بخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي "تاب"، الذي يقوم عبر طريق آخر بطول 878 كم بتزويد اليونان وألبانيا بالغاز الطبيعي، وفي النهاية إيطاليا عبر البحر الأدرياتيكي.
وبالنظر إلى البنية التحتية التقنية لـ"تاب" فإنها تجعله قابلا للتوصيل بخطوط أنابيب ومسارات طاقة إضافية، ما يعني أن خط الغاز الجنوبي يقدم بالفعل بديلا هاما لإمدادات الغاز الأوروبية، مع إمكانات كبيرة على المدى الطويل.
ومن ناحية أخرى، هناك ما يسمى بخط أنابيب "إيست ميد"، وهو مشروع بارز في طور التكوين. وتتوقع خطة "إيست ميد" الطموحة إنشاء نظام أنابيب عملاق تحت سطح البحر بطول نحو 1900 كيلومتر، يتم تزويده بالغاز من المصادر الإسرائيلية والقبرصية، وصولا إلى جمهورية قبرص ومن هناك إلى جزيرة كريت اليونانية ليستمر في مساره إلى البر الرئيسي لليونان، وينتقل على طول الطريق إلى شمال غرب اليونان حيث من المقرر أن يتم توصيله مع وصلة متعددة المصادر لإمداد أسواق الطاقة الأوروبية في النهاية.
وفي هذه الحالة، على عكس "تاب"، سيتم ربط اليونان مباشرة بإيطاليا عبر خط أنابيب تحت البحر بطول 210 كيلومترا، يربط السواحل اليونانية مع بلدة "أوترانتو" الساحلية الإيطالية.
بيئة الأمن الإقليمي وسياسة الطاقة
وتظهر المصالح المتضاربة عند المقارنة بين المشروعين جنبا إلى جنب. وفي الحالة الأولى، يصبح اللاعب الرئيسي هو تركيا، بالنظر إلى أن أنقرة تعمل في هذه الحالة كمركز رئيسي للطاقة في المنطقة، حيث تستقبل الغاز الطبيعي الأذربيجاني وتنقله إلى أوروبا عبر اليونان. وتزيد العلاقات المتوترة بين أثينا وأنقرة من التأثير على الموقف التركي، بالنظر إلى أن "تاب" يعتمد بشكل أساسي على "تاناب". وتبدو سياسات الطاقة حاضرة هنا أيضا، كما هو موضح في العلاقات الوثيقة بين تركيا وأذربيجان، والتي تم التأكيد عليها أكثر في نزاع "ناغورني قره باغ" الأخير.
وفي حالة مشروع "إيست ميد"، تلعب اليونان دورا محوريا من حيث تدفق الغاز وتوزيعه إلى أوروبا. وتعد الأطراف الموردة المعنية هنا هي قبرص وإسرائيل. وترتبط اليونان بجمهورية قبرص تاريخيا ويعتمدان سياسة خارجية مشتركة في العديد من الحالات، كما أن عقيدة الدفاع المشترك موجودة أيضا في كثير من الأحيان.
وعلى مدار العقد الماضي، اقترب كلا الجانبين، اليوناني والقبرصي، من إسرائيل بشكل كبير. ومن أمثلة ذلك صفقة الدفاع اليونانية الإسرائيلية الأخيرة غير المسبوقة، وهي اتفاقية مدتها 20 عاما بقيمة 1.68 مليار دولار أمريكي. ويتناسب مشروع "إيست ميد" بالتأكيد مع هذه الأجندة، حيث يتم تحقيق التعاون الثلاثي بين أثينا ونيقوسيا وتل أبيب، مع كون أمن الطاقة هو المعيار المشترك.
وبهذا المعنى، من المحتمل أن تكون اليونان وقبرص قد ضمنتا حليفا حيويا، على الأقل على المستوى الدبلوماسي، في أي تصعيد محتمل مع تركيا.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، تم تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط" رسميا بعد توقيع ميثاقه من قبل أعضائه، وهم قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين. وفي مارس/آذار 2021، انضمت فرنسا أيضا إلى الكتلة، مؤكدة الأهداف الجيوسياسية المشتركة للمجموعة.
ومن اللافت مشاركة إسرائيل وفلسطين معا. وربما يعني التطوير المحتمل لمشروع حقل غاز غزة البحري جلب مصر وإسرائيل وفلسطين إلى نفس الطاولة، مع فوائد محتملة للاقتصاد الفلسطيني.
وتؤكد مشاركة قبرص ومصر وفرنسا واليونان على المصالح المشتركة لتلك الدول. وكانت اليونان وقبرص على خلاف مؤخرا مع تركيا بشأن المناطق الاقتصادية الخالصة وقضايا الجرف القاري، ناهيك عن الخلافات التاريخية بينهما. وتتعارض الأهداف الفرنسية والمصرية مع الأهداف التركية، بالنظر إلى الأطراف المختلفة التي يدعمها كل جانب في الحرب الليبية.
ويعتبر ذلك هو السبب الحقيقي لرد فعل تركيا العنيف على تطورات منتدى غاز شرق المتوسط واستبعاد تركيا من هذا التجمع. وسوف تستمر أنقرة في محاولة إضعاف التكتل بكل الوسائل المتاحة. وينظر البعض إلى الاعتراض الفلسطيني الأخير على مشاركة الإمارات في منتدى غاز شرق المتوسط على أنه جهد خلفي من قبل تركيا لتقويض المجموعة.
وفي الوقت نفسه، ترحب الولايات المتحدة بالتعاون المتزايد في شرق البحر المتوسط، على النحو المبين في قانون شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط عام 2019. وفي الوقت نفسه، تسعى واشنطن إلى تعزيز التعاون بين قبرص وإسرائيل واليونان ورفع مستوى القدرات الدفاعية والعسكرية للدول الثلاث.
ويهدف هذا النهج المزدوج إلى ممارسة بعض الضغط على تركيا التي تتبع استراتيجية يصعب التنبؤ بها إلى حد ما، والأهم من ذلك هو خلق توازن أمام طرق الطاقة الروسية نحو أوروبا.
ويعد الاختلاف الجوهري بين خطي الأنابيب، هو أن "تاب - تاناب" يعمل في حين أن "إيست ميد" هو مشروع طموح لن يتم تشغيله حتى عام 2025 على أقل تقدير. علاوة على ذلك، يواجه "إيست ميد" 3 تحديات حاسمة، تكلفته الكبيرة حيث تشير التقديرات المتفائلة لتكلفة بـ6 مليارات دولار (وقد تكون الأرقام أعلى من ذلك بكثير)، وعدم استقرار أسعار الغاز الطبيعي والتقلبات العالية في أسواق الطاقة، والأهم من ذلك استراتيجية الاتحاد الأوروبي طويلة المدى للطاقة الخضراء، والتي تحدد عام 2030 للوصول إلى تخفيضات بنسبة 40% في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، و2050 للتخلص تماما من هذه الانبعاثات.
والسؤال هنا حول مدى جدوى خط أنابيب "إيست ميد". حسنا، من حيث التعاون السياسي والعلاقات الدبلوماسية، فإن المشروع له ما يبرره بالتأكيد. وسيظل تحجيم مكانة موسكو دوليا أحد أهداف السياسة الخارجية الأساسية لإدارة "جو بايدن". وبينما تسعى الولايات المتحدة حاليا لاحتواء الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، ودعم البدائل من بحر قزوين عبر تركيا، أو من الشرق الأوسط عبر اليونان، يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد اتخذ خياراته بالفعل.
واستثمرت ألمانيا بشكل كبير في مشروع "نورد ستريم"، وتدعم بنشاط "نورد ستريم 2"، في حين تمثل شركة "غازبروم" الروسية الحكومية أكبر المساهمين في المشروع، وهنا تكمن المواجهة مع الولايات المتحدة، حيث أعلنت واشنطن فرض عقوبات على الكيانات الأوروبية المشاركة في المشاريع التي تقودها "غازبروم".
وفي الوقت نفسه، التزم بنك الاستثمار الأوروبي بوقف تمويل مشاريع الوقود الأحفوري التقليدية بحلول نهاية عام 2021، ما يجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لاستمرار مشروع "إيست ميد"، نظرا لأن المشروع يديره حاليا شركة "إديسون" الإيطالية والشركة الأصغر "ديبا" اليونانية. ويفوق "إيست ميد" إلى حد كبير قدرة الشركات إذا لم يتم تأمين التمويل اللازم.
وفي ظل الظروف الحالية، لا يمكن لأحد التحدث بثقة عن مستقبل الطاقة والمشهد الأمني في البحر الأبيض المتوسط. وتعود حالة عدم اليقين هذه إلى الإمكانات الحقيقية لمشروع "إيست ميد"، الذي لم يظهر تقدمه الفعلي بعد، لأنه يثير سؤالا رئيسيا مهما، وهو هل يمكن للفوائد الجيوسياسية المحتملة لهذا المشروع أن تعوض المخاطر المالية ومخاطر السوق القائمة؟.