النهار الاخبارية - وكالات
على مدار القرن الماضي، أصبح تمركز القوات الأمريكية في منشآت عسكرية في الخارج حجر الزاوية في السياسة الخارجية والدفاعية للولايات المتحدة. واليوم، لدى الولايات المتحدة قواعد عسكرية في الخارج أكثر من كل الدول الأخرى مجتمعةً، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية. وتنتشر قواعد أمريكا، المقدَّرة بـ750، عبر 80 دولة أو أكثر، وهو رقم أكبر من أي شعب أو دولة أو إمبراطورية أخرى في التاريخ.
ومع اشتداد الإجماع المناهض للصين داخل النظام السياسي الأمريكي وبناء الصين وجودها العسكري في المحيط الهادئ وأماكن أخرى، يعتقد الكثيرون أن استراتيجية التمركز في الخارج أصبحت أهم من أي وقت مضى. لكن رغم ذلك، لماذا يتعين على الولايات المتحدة إغلاق قواعدها العسكرية بالخارج؟
لماذا يتعين على أمريكا إغلاق قواعدها العسكرية بالخارج؟
تقول فورين بوليسي، رغم أن التمركز في الخارج يمثل أحد أكثر المبادئ التقليدية رسوخاً في استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، فقد حان الوقت للتغيير. تجادل حركة متنامية بأن ذلك قد جرَّ الولايات المتحدة إلى صراعات متهورة ولا تحظى بتأييدٍ شعبي، إذ يغري صانعي السياسة بردود عسكرية غير متوقعة بدلاً من ردود فعل دبلوماسية، واستفزاز الأعداء بدلاً من مجرد ردعهم.
بعد عقود من الإجماع، يقاوم النشطاء والعلماء والمحاربون القدامى الآن ما يرون أنه زلة جيوسياسية، بحجة أن الوقت قد حان للتخلي عن هذه البؤر الاستيطانية القديمة وإعادة القوات إلى الوطن.
ورغم أن العديد من الرؤساء سعوا إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج من نواحٍ معينة، لم تتغير هذه العقيدة كثيراً منذ الأربعينيات، حتى مع التحول الجذري للحرب والجغرافيا السياسية منذ ذلك الحين.
قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الشيء نفسه في ديسمبر/كانون الأول 2020، عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة لديها "الكثير من البنية التحتية في الخارج والكثير من البنية التحتية الدائمة"، واصفاً العديد من القواعد في الخارج بأنها "مشتقة من حيث انتهت الحرب العالمية الثانية". على هذا النحو، لم يعد الكثيرون يجدون الحجج الرئيسية لهذه الاستراتيجية مقنعة.
وبدلاً من ردع الأعداء، يمكن للقواعد الأمريكية في الخارج أن تستفزهم في كثير من الأحيان. في مارس/آذار فقط، شنت الولايات المتحدة غارات جوية انتقامية ضد أهداف تابعة لإيران في سوريا بعد تعرض قاعدة للتحالف لهجومٍ عليها، ما أدى بدوره إلى مزيد من الهجمات على المنشآت الأمريكية بعد يوم واحد فقط. قُتِلَ أمريكي وأُصيبَ ستة آخرون جراء هذه الهجمات.
المزيد من القواعد العسكرية الأمريكية يعني المزيد من كراهية أمريكا
وتقول المجلة، لكي نكون منصفين، فإن إلقاء اللوم على القواعد باعتبارها الاستفزاز الوحيد للهجمات "أمر غير مسؤول". وإثبات أن وضعيةً هجومية يمكنها ردع الأعداء هو أمر صعب كالعثور على إبرة في كومة قشّ. لكن المبررات الأخرى لهذه الاستراتيجية ليست مقنعة تماماً أيضاً.
بدلاً من منح الطمأنينة، يمكن للوجود العسكري الأمريكي أن يؤجج الاستياء بين السكان المحليين وقادتهم، ما يؤدي إلى تنفير الحلفاء الذين كانت القواعد تهدف إلى طمأنتهم. إن الانتهاكات بحق العمال، والسلوك الإجرامي للجنود الأمريكيين، وانتهاكات السيادة التي تحدث في القواعد العسكرية الأمريكية أو بالقرب منها، يمكن أن تعرض العلاقات الدبلوماسية الحساسة للخطر وتغذي الحركات المعادية للولايات المتحدة بين السكان المحليين.
من المعروف أن أسامة بن لادن قد استشهد بوجود القوات الأمريكية على أرض أجنبية كأحد الدوافع لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2002، كتب: "قواتكم تحتل بلادنا. أنتم تنشرون قواعدكم العسكرية في كل مكان".
وفي الآونة الأخيرة، سافر ديني تاماكي، حاكم جزيرة أوكيناوا اليابانية في المحيط الهادئ، إلى واشنطن للضغط على النائب أوكاسيو كورتيز ومشرعين آخرين ضد بناء قاعدة جوية أمريكية جديدة، ولتقليل وجود القوات الأمريكية على أرض جزيرته.
وقال تاماكي إن القاعدة الجديدة ستلقي بعبء على السكان المحليين وتجعلهم هدفاً للهجوم، وتنتهك أحكام الدستور الياباني التي تمنع استخدام القوة العسكرية. حدثت العديد من الاحتجاجات الأخرى في جميع أنحاء إمبراطورية القواعد الأمريكية. هذا التردد ليس فريداً. وفقاً لإحدى الإحصائيات، منذ الحرب العالمية الثانية، خرج السكان المحليون في أكثر من 30 دولة إلى الشوارع للاحتجاج على الوجود العسكري الأمريكي.
القواعد العسكرية تعني سهولة الانخراط في المزيد من الحروب
حتى في عصر القوة الجوية الأكبر والتقدم التكنولوجي، لا تزال القواعد الخارجية مفيدة للاستجابة السريعة للأزمات، ولكن هذا ليس بالضرورة أمراً جيداً. بالنسبة إلى جون جلاسر من معهد كاتو للبحوث في واشنطن، فإن سهولة وصول قادة الولايات المتحدة إلى القواعد تجعل من السهل جداً الانخراط في الحرب.
سيكون من الأفضل استراتيجياً حرمانهم من أدوات الحرب السريعة هذه، ووضع عقبات في طريقهم، مثل النقاش العام أو التصويت على تفويض من الكونغرس، لتجنب جر الجيش إلى تدخلات غير شعبية وغير قانونية. وأكد أندرو باسيفيتش، رئيس مجلس إدارة معهد كوينسي، على ذلك عبر البريد الإلكتروني: "إن الوجود العسكري العالمي يميل إلى التدخل غير الحكيم في الخارج. وببساطة، فإن الموقف العالمي الأكثر تواضعاً قد ينطوي على قدر أكبر من ضبط النفس".
كلفة ضخمة
تقول فورين بوليسي، من المؤكد أن عدداً قليلاً من المناهضين للقواعد العسكرية سيطالبون بالتخلي الكامل عن البؤر الاستيطانية الخارجية. تقدر الخبيرة السياسية نيتا سي كروفورد أن الوجود العسكري الأمريكي في الخليج يكلف ما بين 5 مليارات دولار و50 مليار دولار سنوياً.
وكتبت كروفورد في كتابها "البنتاغون وتغير المناخ والحرب: صعود وهبوط البرامج العسكرية الأمريكية"، إن "التكاليف السياسية والعسكرية للدفاع عن الوصول إلى نفط الخليج باهظة للغاية، وربما لا تستحق العناء نظراً لمخاطر العداء. الاستيلاء على السلطة منخفض والوجود الأمريكي المستمر في الخليج يولد مقاومة سياسية بين سكان تلك الدول".
لكن، لن يكون إغلاق القواعد الخارجية أمراً سهلاً. كما قال الجنرال ميلي في تصريحاته في ديسمبر/كانون الأول 2020. قال: "بصراحة، ليس هناك الكثير من الحماس لفعل ما قلته للتو، لكنني أعتقد أن هذا ضروري". إن إنهاء وجود القواعد، أو حتى التراجع عنه، سيكون بلا شك أمراً صعباً. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، فإن التخلي عن إمبراطورية القواعد ليس خياراً أخلاقياً فحسب، بل هو الخيار الاستراتيجي أيضاً.