الخميس 28 تشرين الثاني 2024

كيف انهار النموذج الاقتصادي التركي


النهار الاخباريه  وكالات 

عقب الإعلان عن صندوق إماراتي بـ10 مليارات دولار للاستثمار في تركيا، خلال زيارة ولي عهد أبو ظبي أنقرة هذا الأسبوع، ارتفعت قيمة الليرة التركية ستة في المئة.

لكن ذلك كان مجرد وقف لنزيف العملة التي فقدت 40 في المئة من قيمتها منذ بداية هذا العام حتى الآن، ليصل سعر الليرة إلى أقل من 8 سنتات.

وفي الشهر الحالي، هوى سعر صرف الليرة 20 في المئة، بعد أن خفض البنك المركزي مجدداً نسبة الفائدة للمرة الثالثة على التوالي، ليصبح معدل نسبة الفائدة الأساسية في تركيا عند 15 في المئة، من 19 في المئة قبل سبتمبر (أيلول).

ويشبه عدد من المحللين والمتابعين للاقتصاد التركي ما حدث لسعر صرف الليرة هذا الأسبوع بما سبق وحدث عندما تعهدت قطر قبل سنوات بضخ 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي. وكان تأثير ذلك مؤقتاً تماماً، لتعاود الليرة منحى الانهيار.

ويرجع هؤلاء المشكلة إلى سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يرى عكس كل النظريات الاقتصادية، أن خفض أسعار الفائدة على الرغم من استمرار ارتفاع معدلات التضخم "يفيد الاقتصاد".

ولهذا، أقال أردوغان محافظ البنك المركزي ثلاث مرات في نحو عامين، ليضمن تنفيذ سياسته التي تخالف ما هو معروف لدى الاقتصاديين في العالم، وأدى ذلك إلى شكوك دولية في مدى استقلالية البنك المركزي كما هو الحال في دول العالم.
سياسات خطرة

يقول بول جاكسون، من شركة "إنفستكو" الاستثمارية في مقابلة مع صحيفة "غارديان"، "توجد مؤشرات مقلقة بشأن عدم الاستقرار نتيجة السياسة النقدية. معدل التضخم وصل حسب البيانات الرسمية إلى 20 في المئة، وارتفعت أسعار البيوت 35 في المئة. وعلى الرغم من أن ضخ النقد في السوق تراجع قليلاً أخيراً، فإن خفض أسعار الفائدة يعني أن التضخم سيواصل الارتفاع. وكل ذلك يعني أن ما يفعله الرئيس خطير ويضر بالاقتصاد".

لكن أردوغان يرى أن انهيار قيمة العملة يساعد الصادرات التركية، وهو ما يعد نمواً أكبر للاقتصاد وتوفير فرص عمل وسد العجز في الحساب الجاري. وصرح هذا الأسبوع بأن بلاده تخوض "حرب استقلال اقتصادي" مع ما وصفه بالمتآمرين على عملتها.
غير أن بعض أعضاء حزب الرئيس العدالة والتنمية الحاكم يشكون من أن الرئيس لم يعد يسمع لرأي أحد. ونقلت وكالة "رويترز" عن أحد أعضاء الحزب قوله: "حاول البعض أن ينقلوا للرئيس الرأي القائل إنه يجب اتباع سياسة أخرى، لكنهم لم يفلحوا في توصيل ذلك إليه".

تلك هي مشكلة الاقتصاد التركي منذ انفضّ المتخصصون الذين أسهموا في تحسنه بداية حكم أردوغان كرئيس للوزراء منذ عام 2003 حتى تولى الرئاسة في 2014، وعدل الدستور لتصبح أغلب الصلاحيات بيد الرئيس.

يقول قالب دالاي، من مركز "تشاتام هاوس"، إن غياب التكنوقراط والاقتصاديين المحترفين "هو السبب في تراجع ما بدأه أردوغان قبل نحو عقدين".

ويضيف، كما تنقل "غارديان"، "كل الفريق الذي كان موجوداً (حول أردوغان) في عام 2011 اختفى. وأصبح المؤهل الأهم الآن هو الولاء للرئيس".

قللوا الأكل

هذا الولاء يبقي مجموعة صغيرة حول الرئيس، ليس بالضرورة يسمع لها إنما فقط تردد آراءه. في تقرير مطول لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، الجمعة، رصدت زيادة الغضب الجماهيري بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة للأتراك، وذلك بعد خروج تظاهرات تطالب برحيل الحكومة ومطالبة أحزاب المعارضة بإجراء انتخابات مبكرة بدلاً من الانتظار حتى موعدها منتصف العام بعد المقبل 2023.

وكانت الصحف التركية قد حملت عناوين مثيرة يوم الثلاثاء اقتباساً مما قاله النائب في البرلمان عن الحزب الحاكم زولفو ديمبراج، مردداً فيه آراء الرئيس. كان النائب قد صرح بالقول، "لنقل إنه في الأحيان العادية نأكل 2 كيلو لحماً في الشهر. فلناكل نصف كيلو فقط، وإذا كنا نشتري 2 كيلو طماطم، فلنشترِ حبتين من الطماطم فقط".

لكن دعوة النائب للأتراك إلى أن يقللوا الأكل، التي أراد منها إثبات ولاءه للرئيس الذي طالب الجماهير بالمشاركة في مقاومة القوى الخفية التي تريد الضرر بالاقتصاد التركي، أثارت الغضب الشعبي.

وتنقل "فاينانشيال تايمز" عن سينام أدرار، من مركز دراسات تركيا في برلين، قوله: "توجد مجموعة من الناس سيصوتون للحزب (الحاكم) وأردوغان أياً كان الأمر، لكن الكتلة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية أصبحت غير راضية عن الحكومة وسياستها. ويظهر ذلك جلياً في كل استطلاع للرأي منذ سبتمبر (أيلول)، حيث يتراجع التأييد للحزب والحكومة".

انهيار النموذج

من الواضح، حسب رأي كثير من المعلقين، أن الفورة الاقتصادية في النمو في النصف الأول من حكم أردوغان كانت بسبب سياسات فتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، وطرح كثير من الأصول في قطاعات مختلفة، مثل المصارف وغيرها لدخول الأجانب فيها.

لكن ذلك وصل إلى نهايته تقريباً قبل عقد كذلك الإعفاءات الضريبية الهائلة التي منحت للشركات الأوروبية، كي تنقل صناعاتها إلى تركيا، مستفيدة من الابتعاد عن الضرائب والرسوم في الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من أن القدرات التصديرية لتركيا تحسنت، وكذلك زادت العائدات من السياحة، وزاد الاستثمار الأجنبي في القطاع العقاري، فإن ذلك أخذ في التراجع. ويعود قدر كبير من ذلك إلى السياسات الاقتصادية، بخاصة مع تركيز الرئيس للسلطات في يده.

ومع أنه يتوقع أن يصل معدل النمو في الاقتصاد التركي، البالغ حجمه 750 مليار دولار، إلى 10 في المئة هذا العام، فإن المواطن التركي لا يشعر بتأثير ذلك على مستوى معيشته، بخاصة في ظل ارتفاع الأسعار.

ويتوقع الاقتصاديون أنه إذا واصل البنك المركزي خفض سعر الفائدة فسيصل التضخم إلى 30 في المئة بسهولة، ما يعني تضاعف أسعار المواد الأساسية للمستهلك التركي.

وتعتمد تركيا على الاستيراد بشكل كبير. كما أن انهيار العملة يعني أنها ستجد صعوبة في توفير مستحقات دين خارجي قصير الأجل بقيمة 167 مليار دولار، كما ذكرت وكالة "رويترز".

ونتيجة التقلب الهائل في سعر صرف الليرة، لم تعد شركات كثيرة قادرة على العمل في تركيا. فعلى سبيل المثال، أوقفت شركة "أبل" مبيعاتها في تركيا، لأنها لا تستطيع تسعير منتجاتها مع تغير سعر صرف الليرة كل ساعة تقريباً.