النهار الاخبارية - وكالات
كشفت صحيفة The New York Times الأمريكية، الخميس 21 سبتمبر/أيلول 2023، كواليس وعوائق واجهت صفقة تبادل السجناء بين الولايات المتحدة وطهران، والتي استمرت سنوات وبوساطة سرية من دول الخليج العربي، وقضت في 6 يونيو/حزيران بإطلاق سراح أربعة أمريكيين كانوا محتجزين في أحد أسوأ السجون الإيرانية، مقابل رفع واشنطن التجميد عن 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني، وإسقاط التهم عن إيرانيين متهمين بانتهاك العقوبات الأمريكية على طهران.
الصحيفة أشارت، في تقريرها، إلى أنه بعد يوم واحد فقط من الاتفاق، احتجزت إيران مواطناً أمريكياً آخر، وهي امرأة متقاعدة من ولاية كاليفورنيا يُفترض أنها كانت تشارك في أعمال إغاثة في أفغانستان.
التقرير أوضح أنه لم يكن من الواضح آنذاك، وحتى الآن، ما إذا كان احتجاز المرأة قراراً خططت له إيران من قبل، أم أنها وقعت في طريق شبكات الأمن الإيرانية دون عزم سابق.
ومع ذلك فقد كان الأمر مدعاة لغضب المسؤولين الأمريكيين في جميع الأحوال، إذ لم يكن من الممكن أن يوقع بايدن على اتفاق يغض الطرف عن ترك المرأة محتجزة لدى إيران، ومن ثم كان لا بد من إطلاق سراحها أيضاً.
انهيار الصفقة
على أثر ذلك، انهارت الصفقة، وخابت آمال السجناء الأربعة الذين كانوا يتوقعون العودة إلى وطنهم في أقرب وقت.
ووفقاً للتقرير، فإن المسؤولين الأمريكيين -الذين كانوا لا يزالون يعملون سراً- لم يتمكنوا من إعادة المحادثات إلى مسارها إلا بعد أسابيع، وقد استمدوا العون في ذلك من دبلوماسيين في عمان وقطر والإمارات.
ولما أعلن بايدن أخيراً يوم الإثنين 18 سبتمبر/أيلول أن الأمريكيين -ومنهم المرأة التي احتُجزت حديثاً- في طريقهم إلى الوطن، كان ذلك تتويجاً لسنوات من المفاوضات المعقدة التي لم تقتصر المحادثات فيها على مسألة إطلاق سراح السجناء، بل شملت أيضاً الجهود المبذولة لإطفاء فتيل التوترات مع إيران، ومواجهة ما تعدُّه الولايات المتحدة أنشطة تعمد بها طهران إلى زعزعة الاستقرار في أنحاء الشرق الأوسط.
من جهته، قال جيك سوليفان، مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي: "حينما تنتظم الأمور كلها في مسارها الصحيح، سنتنفس الصعداء، ومن ثم فإننا جميعاً سنبقى نحبس أنفاسنا حتى حدوث ذلك"، فنحن "لم نكن نريد أن تطول المحنة الفظيعة التي يتحملها هؤلاء الأمريكيون ولو ليوم واحد آخر".
روى تفاصيل هذه المفاوضات مسؤولون في الولايات المتحدة وإيران وقطر، وأفراد من عائلات بعض السجناء ومحاميهم؛ وممثلو منظمات أخرى كانت مطلعة على المحادثات. وقد تحدث معظمهم بشرط عدم الكشف عن هويته، وأجمعوا على أن ما حدث يبرهن على أنه حتى ألد الخصوم يمكنهم في بعض الأحيان أن يجدوا سبيلاً للاتفاق.
بداية المحادثات
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن الإدارة الأمريكية بدأت في سعيها لإعادة الأمريكيين المحتجزين إلى وطنهم في أوائل عام 2021، بعد أسابيع فقط من تولي بايدن منصب الرئاسة. وكان الرئيس الأمريكي ومستشاروه عازمين على إخراجهم من السجون الإيرانية بطريقة ما.
ولعدة أشهر، كان وزير الخارجية أنتوني بلينكن يحمل في جيبه أسماء المعتقلين: سياماك نمازي، وعماد شرقي، ومراد طاهباز، الذين تزعم الولايات المتحدة أنهم سُجنوا بتهم تجسسٍ لا أساس لها.
في الكواليس، تشابكت المحادثات بشأن إطلاق سراح الأمريكيين المسجونين مع المفاوضات الجارية بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد بدا واضحاً أن الولايات المتحدة لن توافق على صفقة مكلفة بشأن السجناء في وقت تنهار فيه المفاوضات النووية.
إلى ذلك، قال علي فايز، مدير شؤون إيران في "مجموعة الأزمات الدولية"، إن الولايات المتحدة "بدا على مدار عام 2021 بأكمله ومعظم عام 2022، أنها تفضل إدراج صفقة السجناء في اتفاق أوسع لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة"، و"لم يفكر الأمريكيون ولا الإيرانيون في صفقة قائمة بذاتها بشأن المحتجزين إلا في أواخر العام الماضي، حين أُغلقت السبل الدبلوماسية أمام العودة إلى الاتفاق النووي".
أرادت إيران رفع التجميد المفروض بمقتضى العقوبات الأمريكية عليها عن 6 مليارات دولار من عائدات نفطها الموجودة في حسابات بنكية بكوريا الجنوبية، وطالب المفاوضون الإيرانيون بنقل الأموال بطريقة يمكنهم استخدامها.
وكانت الولايات المتحدة تصر على وجوب إيداع الأموال في حسابات مقيدة بضوابط تجعل من المستحيل استخدامها في أي شيء آخر غير شراء الغذاء والدواء والأجهزة الطبية ومستلزمات الزراعة. إلا أن الإيرانيين رفضوا هذه الشروط رفضاً قاطعاً.
في غضون ذلك، كانت إيران قد اعتقلت أمريكياً رابعاً، وهو رجل أعمال وعالم حُجبت هويته. وواصلت إدارة بايدن الضغط من أجل إطلاق سراحهم.
على إثر ذلك، التقى روبرت مالي، مبعوث الشؤون الإيرانية لدى الولايات المتحدة، أمير سعيد إيرواني، سفير إيران لدى الأمم المتحدة، عدة مرات. وكانت هذه المفاوضات الوحيدة التي جرت وجهاً لوجه بين ممثلين عن الولايات المتحدة وإيران بشأن السجناء، إلا أنها لم تسفر عن انفراجة.
اجتماع عمان
وفي مايو/أيار من هذا العام، وصل الدبلوماسيون الأمريكيون إلى عمان يعتريهم قدر كبير من الشك. وكانت إيران قد أرسلت عبر الوسطاء رسالة مفادها أنها تريد خفض التوترات.
اجتمع بريت ماكغورك، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم في شؤون الشرق الأوسط، وفريقه الأمريكي في غرفة بأحد فنادق مسقط. واجتمع الوفد الإيراني برئاسة نائب وزير الخارجية علي باقري كني في مكان آخر. وكان كل فريق يرى الآخر من خلال نوافذ مطلة على مكان اجتماع نظيره. وظل الوسطاء العمانيون يتنقلون لساعاتٍ بين الفريقين.
وتقول المصادر الأمريكية إن رسالة ماكغورك كانت واضحة: إذا أرادت إيران الحد من التوترات، وربما استئناف المناقشات حول البرنامج النووي، فعليها أن تتوقف عن مهاجمة القوات الأمريكية، وأن تطلق سراح الأمريكيين الأربعة الذين سجن بعضهم عدة سنوات.
رأى ماكغورك المفاوضين الإيرانيين وهم يتجادلون، ما يعني أنهم لم يكونوا مجمعين على رأي واحد. لكن الرسائل التي عاد بها الوسطاء العمانيون حملت مفاجأة: الإيرانيون يريدون تنازلات أمريكية بشأن تخفيف العقوبات المفروضة على مبيعات النفط، وهم مستعدون في مقابل ذلك أن ينظروا في المطالب الأمريكية بشأن صفقة لإطلاق سراح المسجونين الأمريكيين.
مباحثات في قطر
وفي غضون أسابيع، جرى الترتيب لمزيد من المحادثات في قطر، التي شاركت طيلة سنوات في مساعي التوسط لإطلاق سراح الأمريكيين.
وقال غيس غوريشي، مستشار وزارة الخارجية الإيرانية: "قررت إيران أنه إذا لم يكن هناك سبيل للتوصل إلى اتفاق نووي مع الولايات المتحدة، فعليها حل بعض المشكلات الأقل تعقيداً، مثل تبادل السجناء، وخفض التوترات في المنطقة"، و"كان النهج أننا إذا نجحنا في فك بعض العقد في نهاية المطاف، فقد يؤدي ذلك إلى تيسير أكبر للأمور، وتخفيف العقوبات، وربما التوصل إلى اتفاق نووي".
وفي 6 يونيو/حزيران، توصل المسؤولون الأمريكيون والإيرانيون إلى اتفاق مكتوب، بوساطةٍ من القطريين في الدوحة. وتضمن الاتفاق إطلاق سراح الأمريكيين، وسماح الولايات المتحدة لإيران بشراء السلع الإنسانية باستخدام 6 مليارات دولار من أرباح بيع النفط المجمدة في بنوك كوريا الجنوبية، وإسقاط الولايات المتحدة التهم الموجهة إلى خمسة إيرانيين متهمين بانتهاك العقوبات الأمريكية.
اعتقال أمريكية
لكن اعتقال إيران لمواطنة أمريكية أخرى قضى على أي أمل في التوصل إلى حل سريع. ومن ثم حاول ماكغورك ومسؤولون أمريكيون إحياء الاتفاقية التي وقعت في 6 يونيو/حزيران على مدار عدة أسابيع. وأوضح المسؤولون الأمريكيون على لسان الوسطاء أن الطريقة الوحيدة للمضي قدماً في الصفقة هي إطلاق سراحها أيضاً.
ويقول مسؤول أمريكي إن الأمر احتاج إلى بعض الوقت، لكن ما إن وافق الإيرانيون على مطلب إطلاق سراح السجناء الخمسة، وصلت المفاوضات إلى نقطة تحول سمحت بالمضي قدماً.
وفي أعقاب زيارة قام بها محمد الخليفي، وزير الدولة القطري، إلى طهران في أغسطس/آب، توصل الجانبان الأمريكي والإيراني إلى اتفاق نهائي يحدد الشروط، ومنها خطوات تبادل الأسرى، وآلية تحويل الأموال. واتفق الجانبان على الاحتفاظ بالأموال في قطر، ودفعها مباشرة إلى البائعين حين تريد إيران شراء مواد الاحتياجات الإنسانية، مثل الأغذية والأدوية والمعدات الطبية.
وفي 10 أغسطس/آب، نُقل جميع السجناء إلى فندق في شمال طهران، ووضعوا تحت الإقامة الجبرية في انتظار تحويل الأموال بالكامل.
ثم تولى السفير السويسري في طهران يوم الإثنين 18 سبتمبر/أيلول نقل مواطنين أمريكيين آخرين إلى المطار، إذ وافقت طهران على السماح لوالدة نمازي، وزوجة مراد طاهباز، بالمغادرة على نفس الطائرة مع المسجونين، بعد أن مُنعتا من مغادرة إيران منذ احتجازهما.
ثم نُقل المحتجزون الأمريكيون على متن طائرة قدمتها الحكومة القطرية إلى الدوحة لإجراء التبادل الذي جرى على نمط اتفاقات تبادل الأسرى خلال الحرب الباردة.
الأموال لم تصل
ومع ذلك، تأخرت الخطوات الأخيرة للاتفاق بعض الوقت، فقد زعم المسؤولون في إيران أن الأموال القادمة من كوريا الجنوبية لم تصل بالكامل إلى الحساب المصرفي في قطر، وقالوا إنهم لن يسمحوا للأمريكيين بالمغادرة إذا لم يطمئن الإيرانيون على مصير الأموال. فاضطر الجميع إلى الانتظار لأكثر من ساعتين.
ثم حين تيقن المسؤولون الإيرانيون من أن الأموال وصلت، استقل الأمريكيون السيارات في رحلة استغرقت 40 دقيقة بالسيارة إلى مطار طهران.
وبعد توقف قصير في الدوحة، وصل الأمريكيون في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم الثلاثاء 19 سبتمبر/أيلول إلى قاعدة عسكرية أمريكية في شمال ولاية فيرجينيا. وبعد ساعتين، ثم نشر سوليفان، مستشار الرئيس للأمن القومي، صورة للأمريكيين مجتمعين معاً في الطائرة الحكومية الصغيرة. وكتب بجانب رمز تعبيري للعلم الأمريكي: "مرحباً بكم في وطنكم".