قراءة البشري في المسألة الوطنية المصرية
في المسألة الوطنية المصرية… القراءة المتميزة للقاضي البشري
رأى البشري أن دستور 1923 ترجم تلك الآمال الديمقراطية دون مواربة مثلما أدرج العديد من ضمانات حقوق وحريات المواطنين.
ثورة 1919 جسدت نضال الشعب المصري لأجل الاستقلال الوطني وآماله في الحرية والحكم النيابي والبرلمان المنتخب والفصل بين السلطات.
ظل دستور 1923 علامة فارقة في النضال الشعبي من أجل حياة ديمقراطية عمادها حكومة نيابية وبرلمان منتخب وفصل بين السلطات وقضاء المستقل.
منذ تنصلت جمهورية يوليو من الرباط العضوي للاستقلال بالديمقراطية وركزت على الاستقلال لم تعرف مصر فضاء عاما وحرية وتنوعا وحياة فكرية وسياسية قريبا مما أتيح للناس بعد ثورة 1919.
* * *
كان لطارق البشري الذي غادر عالمنا قبل أيام العديد من الإسهامات الفكرية الرصينة عن قضايا المجتمع والسياسة في مصر. ومن بين تلك الإسهامات، اتسم مؤلفه «الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970» (صدر في 1987) بمعالجة تاريخية وفلسفية وسياسية دقيقة لإرث ثورة 1919 الذي تنصلت منه تدريجيا الجمهورية المصرية في أعقاب حركة الضباط الأحرار 1952.
كتب البشري أن ثورة 1919 لم تجسد نضال الشعب المصري من أجل الاستقلال الوطني وحسب، بل عبرت أيضا عن آماله في الحرية والحكم النيابي والبرلمان المنتخب والفصل بين السلطات، تلك الآمال التي حملتها المطالبة بدستور ديمقراطي.
بعثت ثورة 1919 وطنية مصرية حديثة لم ترد فقط إخراج المستعمر البريطاني من البلاد، بل امتلكت الفكر التقدمي الباحث عن إقرار حقوق المواطنة المتساوية لجميع المصريين دون تمييز على أساس الدين والراغب في إعادة صياغة العلاقة بين الحكم والمجتمع.
بحيث يصير الملك مقيدا بالدستور وتصير الحكومة صاحبة السلطة التنفيذية خاضعة لمساءلة من البرلمان مستقر السلطة التشريعية ويفرض القضاء المستقل ولايته على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
رأى القاضي أن دستور 1923 ترجم تلك الآمال الديمقراطية دون مواربة مثلما أدرج العديد من ضمانات حقوق وحريات المواطنين.
فعلى النقيض من الحركة العرابية التي ارتبطت عضويا بالجيش وقاد نضالها في مواجهة التمييز ضد المصريين وفي مواجهة استبداد الخديوي توفيق والتدخل الأوروبي ضباط مصريون، كان عموم المصريين، نساء ورجال، هم قوة دفع ثورة 1919 الحقيقية وطاقتها البشرية التي خرجت إلى الفضاء العام رافعة رايات الاستقلال الوطني.
ومنحت سعد زغلول و«الوفد» شرعية التأييد الشعبي والحق الحصري للتعبير عن آمال المواطنين المصريين في الحرية إزاء قوة استعمارية متغطرسة وأسرة مالكة لم تتخل عن نزوعها الاستبدادي.
على النقيض أيضا من القيادة العسكرية للحركة العرابية، قاد ثورة 1919 مدنيون انتمى معظمهم إلى دولاب الدولة المصرية وعمل في مؤسساتها التقليدية والحديثة. كرس هؤلاء المدنيون بتنوع هوياتهم الدينية بين الإسلام والمسيحية شعار «الدين لله والوطن للجميع».
وحفزوا بذلك مشاركة جميع طوائف الشعب في التظاهرات والاحتجاجات التي عمت البلاد، وامتلكوا رؤية واضحة لانتزاع الاستقلال الوطني عبر التفاوض مع المستعمر وإقرار الدستور الديمقراطي المستند إلى القوة الكاسحة للثورة الشعبية (تناول البشري تفاصيل المفاوضات المصرية-البريطانية التي تلت ثورة 1919 في مؤلفه «سعد زغلول يفاوض الاستعمار» الذي صدر في 1977).
في قراءة البشري، لم تقتصر حركية ثورة 1919 على النضال ضد المستعمر البريطاني ولم تنحصر في ميادين الحكم والسياسة وحسب بل امتدت إلى كافة جوانب الحياة المجتمعية.
فرغم أن مشاركة النساء في الثورة لم يسفر عنها حصولهن على الحق العام في التصويت والترشح في الانتخابات (وهو ما أقرته جمهورية يوليو فيما بعد) إلا أن أدوار المرأة في الفضاء العام اتسعت في السنوات والعقود التي تلت الثورة وانفتحت أمامهن مجالات جديدة للتعليم والعمل والإسهامات الفنية والأدبية والموسيقية.
كذلك دفعت ثورة 1919 بشرائح الطبقة الوسطى إلى واجهة المجتمع واجتاح «الأفندية المصريين» المؤسسات التقليدية والحديثة وانتزعوا وظائفها وفرضوا على المدن والمناطق الريفية التي جاءوا منها ثقافتهم الهجين بخليطها من الالتزام بالتقاليد وبشيء من الانبهار بالحداثة.
خلقت ثورة 1919 حراكا فكريا وأدبيا وفلسفيا وفنيا واسعا، ومهدت السنوات التي تلتها لظهور حركات مجتمعية جديدة قومية وشيوعية وعلمانية ودينية وعمقت عقود التجربة الديمقراطية الليبرالية التي أرسى دعائمها دستور 1923 من حضور تلك الحركات التي حازت حظوظا مختلفة من القبول الشعبي وشكلت روافد وعي الناس بأحوال البلاد.
في بوتقة ثورة 1919 أيضا تمصر وجود بعض الجاليات الأجنبية وصار وجود أجانب آخرين طبيعيا وغير قابل للإقصاء من النسيج المجتمعي، وظهر ذلك بجلاء في مرآة الأدب والفن وفي صناعة المسرح والسينما التي تطورت على نحو مبهر.
لم ينكر البشري أن الاستقلال الوطني ظل منقوصا قبل 1952. فقد تحايلت بريطانيا على حق المصريين المشروع في تقرير المصير وأبقت على قواتها العسكرية في البلاد ولم تكف عن التدخل السافر في الشؤون السياسية.
لم ينكر أيضا أن البناء الديمقراطي الذي استند إلى دستور 1923 تكرر الانقلاب عليه من قبل القصر الذي إما حال بين حزب الأغلبية، حزب الوفد، وبين الحصول على ما تضمنه شعبيته في الانتخابات من أغلبية برلمانية أو حال بينه وبين تأليف الحكومات موظفا أحزاب خاضعة له.
ولم يقتصر انقلاب القصر على دستور 1923 على تزوير الانتخابات ضد الوفد وتمكين أحزاب محدودة القبول الشعبي من الفوز زيفا وتفضيل حكومات الأقلية الضعيفة التي كانت دوما على استعداد للتخلي عن المبادئ الديمقراطية وتنفيذ رغبات القصر، بل امتد إلى تعطيل العمل بالدستور وإلغائه وإحلال دستور رجعي محله لبضعة سنوات (دستور).
غير أن النواقص التي تلت ثورة 1919 على الاستقلال الوطني والبناء الديمقراطي، قيمها القاضي الراحل على أنها لا تلغي أبدا التحولات الكبرى التي أحدثتها ثورة قربت المصريين من الاستقلال خطوات حقيقية وصنعت حزب الوفد الذي تمتع بقبول شعبي كاسح كأول حزب سياسي مصري حديث.
وظل دستور 1923 إلى اليوم علامة فارقة في النضال الشعبي من أجل حياة ديمقراطية عمادها الحكومة النيابية والبرلمان المنتخب والفصل بين السلطات والقضاء المستقل.
ختم البشري معالجته لثورة 1919 وآثارها بالتأكيد على أن مصر لم تعرف، منذ تنصلت جمهورية يوليو من الرباط العضوي للاستقلال الوطني والديمقراطية وركزت فقط على إنجاز الاستقلال، فضاء عاما اقترب في حريته وتنوعه ولا حياة فكرية وسياسية اقتربت في عنفوانها مما أتيح للناس بعد الثورة العظيمة.
رحم الله القاضي طارق البشري وأدام إسهاماته حية في النقاش العام ببلادنا المحروسة.
* د. عمرو حمزاوي باحث بجامعة ستانفورد، أستاذ العلوم السياسية المساعد سابقا.
المصدر | القدس العربي