غاده السمان
ينجح عمرو مجدح في اختراق ستائر الماضي وتعرية حقائق مرت منذ عشرات الأعوام. فقد ذكرتُ في «لحظة حرية» أنني ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بأسماء معلماتي في دمشق وذكرت اسم مديرة «مدرسة الفيحاء» في «بوابة الصالحية» في دمشق حيث كنت طالبة وطفلة دون العاشرة من العمر، واسمها الأستاذة جيهان موصللي. وها هو عمرو مجدح (قصاص الأثر الأدبي!) يدهشني باكتشافه لتفاصيل الحياة العلمية لتلك الأستاذة التي لم أنسها يوماً كما الكثير من أستاذاتي في دمشق، بل وذكر لي تاريخ وفاتها! أدهشني عمرو بالأسماء النسائية العلمية التي عرفتها في زمان طفولتي وصباي الأول في سوريا، ومن بينها مثلاً ذكره للأستاذة عادلة بيهم الجزائري. فقد كانت أيضاً مؤسسة مدرسة «دوحة الأدب» للبنات في دمشق وابنتها أمل الجزائري، حيث عملتُ كأستاذة للغة الإنكليزية لعام واحد وأنا طالبة في جامعة دمشق في الصف الأول من كلية الأدب الإنكليزي. وكنت دائماً طالبة وامرأة عاملة في آن. وها هو عمرو يدهشني بسعة اطلاعه وأنا التي لم يعد يدهشني شيء في كوكبنا، كأن أجلس في مقهى في شارع الشانزيليزيه الباريسي كما أنا الآن، أتأمل قوس النصر بتغليفه، كما خطط لذلك الفنان كريستو، وتأتي بومة لتجلس على طاولتي وتشاركني شرب قهوتي، وتجلس زرافة على الكرسي إلى جانبي!.. ولا يدهشني ذلك.
مذكراتي الدمشقية هل سأكتبها؟
تقول أفانين كبة: «لا أحد فينا يعلم ما يخبئه القدر لنا، فلقد قضيت ثلثي عمري خارج العراق، لكن يبقى الوطن يسكن في ذاكرتي». وأنا مثلها! وأكثر من أي وقت مضى، أشعر بأن عليّ كتابة مذكراتي، وبالذات في سوريا، هذا على الرغم من أنني عشت بعدها عدة حيوات في لندن وسويسرا وروما وباريس وسواها..
لكنني ما زلت أتذكر حتى أسماء أستاذاتي كلهن في دمشق، ورفيقاتي في الصفوف كلها، وأذكر قبضة يد أبي وأنا في السادسة من عمري وهو يساعدني على الصعود على جبل قاسيون حتى «قبة السيار» وبصورة غير مباشرة حرضني عمرو مجدح على كتابة مذكراتي الشامية، ولكل قارئ مغترب ذكريات في وطنه الأم، وكم يسعده أن يعرف ماذا حدث للذين كانوا من مفاتيح طفولته العلمية والإنسانية.
سوري جداً: «مكتب عنبر» و«مئذنة الشحم»
أسماء قد لا تعني الكثير لقراء «القدس العربي» إلا القلائل من أبناء الشام. أتذكر أيضاً سوق ساروجة ومئذنة الشحم والحمدية وباب توما والقصاع و..و.. وكان ياما كان..
ذكريات شامية ثمة من ينبغي أن يكتب عن تلك المدينة (الاستثنائية) وهو ما فعلته في روايتين لي: «فسيفساء دمشق» و»يا دمشق وداعاً» و«رسائل الحنين إلى الياسمين» وغيرها. دمشق تستحق كتابات و(ذاكرات) كثيرة، وهي التي قاومت الفاتحين جميعاً واستطاعت أن تظل أقدم مدينة مأهولة في التاريخ.. لست وحدي التي ستكتب عن ذكرياتها في دمشق.. وكل من عاش في تلك المدينة (السحرية) يستطيع الكتابة عن ذلك، أما أنا فأتابع الآن شرب قهوتي في شارع الشانزيليزيه الباريسي مع بومتي وزرافتي، وأتأمل تغليف قوس النصر بأمر الفنان كريستو!
طفل في السابعة يقتاده شرطي للبيت!
على شاشة التلفزيون الفرنسي، شاهدت مساء في برنامج «سيريل هنونا» والدة تلميذ طفل في السابعة حرموه من الغداء في (الكانتين) أي مطعم المدرسة، حيث كان يتناول طعام الغداء (الجماعي) مع بقية التلامذة. إذ جاء شرطي واصطحبه إلى بيته قبل أن يبدأ بابتلاع لقمة. لماذا حدث ذلك؟
تعترف الأم بأنها لم تسدد للمدرسة المبلغ السنوي مقابل طعام ابنها التلميذ في المدرسة لأنها لا قدرة لها عليه. من طرفي، كأمّ أياً كانت جنسيتها، تعاطفت مع هذا الطفل وشعوره بالحرج والخوف حين جاء شرطي لاصطحابه إلى البيت حتى دون أن يتناول طعام الغداء. وأعتقد أن الحل لدى رئيسة بلدية باريس، آن هيدالغو، التي رشحت نفسها لرئاسة جمهورية فرنسا كالعديدين.
تغليف «قوس النصر» بعد أحد الجسور
فرنسا «عاشقة الفن» تحتضن الأفكار الفنية والمشاريع المجنونة كلها.. منها مثلاً تغليف الفنان البلغاري التشكيلي كريستو لجسر (بون نوف) بين ضفتي نهر السين، بالقماش الخاص. كان ذلك بعد عام من وصولي للإقامة في باريس. وأدهشني المشهد. أما اليوم فمشروع الفنان كريستو أكثر طموحاً بتغليف «قوس النصر» في باريس، وهو يتصدر شارع الشانزيليزيه الشهير، وعمّره نابليون الأول تخليداً لذكرى انتصاراته، كما أنه يضم قبر الجندي المجهول الذي سقط في الحرب العالمية الأولى. ويبلغ ارتفاعه 50 متراً، ويمكن الصعود إلى قمته بمصعد عصري خاص. تغليف قوس النصر كلفته 14 مليون يورو تم تسديدها كلها من قبل زوجة الفنان كريستو، الفنانة جين كلود، وذلك من رصيد بيع بعض أعماله الشهيرة، وبذلك يتحقق حلمه حتى بعد وفاته بعام ونيف (2020).
طيور «العوسق» اعترضت وأنا أيضاً!
لأقواس النصر سكانها، وطيور العوسق منها، لكنها طوال أسبوعين ستحرم من بيتها المفضل منذ سنة 1806 حين بدأ تشييد قوس النصر حتى 1836 حين تم إنجازه. وأنا أيضاً، اعترض قلبي على تغليف قوس النصر بالقماش (بالضبط 25000 متر) من اللون الفضي المثبت بحبل أحمر، ولم يعجبني. باريس تحتفي بكل إبداع فني جديد، مثل المدخل إلى متحف اللوفر عن طريق هرم زجاجي، أو ترك الفنان بوريف يدهن أعمدته الصغيرة في مدخل أحد القصور باللونين الأسود والأبيض، وغير ذلك مما لا يحصى مما نراه في مدينة الفن الباريسي.
الفقراء أولى بهذه النفقات!
أتساءل ربما دون أن يحق لي ذلك (فأنا مواطنة عربية أولاً): بدلاً من إنفاق 14 مليون يورو لتغليف «قوس النصر» وتشويهه، في نظري، لفترة أسبوعين؛ أما كان من الأفضل إنفاق هذا المبلغ على إطعام التلاميذ في الكانتين (أي المطعم المدرسي) للذين قد يعاني بعض أهلهم من رقة الحال؟ 14 مليون يورو لتغليف قوس النصر لأسبوعين! أعرف وقرأت الكثير مما كتبه النقاد المعجبون بذلك، لأن عيننا بعد تعرية قوس النصر ستصير جديدة، ستتأمله بعين متفرسة فنياً، حيث قدم كريستو خدمة للجالية المعمارية الباريسية. لكن كم من الأطفال في المدارس كان يمكن توفير طعام الغداء لهم مجاناً في (الكانتين) بدلاً من أن يعود شرطي بطفل جائع من مدرسته إلى البيت، ونرى أمه مساء ذلك النهار المشؤوم على شاشة التلفزيون في برنامج «سيريل هنونا» تشكو ما حدث لابنها.
وربما لأنني أعرف مدى افتقار لبنان هذه الأيام إلى المال، أشعر بالنفور من كل هدر حتى ولو كان ذلك تحت قناع (الفن) ولا أرى شخصياً فناً (عظيماً!) في تغليف قوس النصر الباريسي.. لكن أحداً لم يستشرني.. وككل الكتاب، أسطر رفضي وجرح قلبي في زمن بلا قلب.