النهار الاخباريه وكالات
ليس فوز القاص والروائي المصري أحمد القرملاوي بجائزة "كتارا" في دورتها الأخيرة، عن روايته "ورثة آل الشيخ"، هو دافعي للكتابة عن عمل جديد له. فهو سبق أن حصد بعض الجوائز المهمة، مثل جائزة الشيخ زايد عن روايته "أمطار صيفية"، وجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن "نداء أخير للركاب". الجوائز إذن – بعد أن نالها أكثر من مرة – ليست هي دافع الكتابة عنه، بل موهبته اللافتة وصوته المتميز وعوالمه الجديدة. في مجموعته القصصية "قميص لتغليف الهدايا" (المصرية اللبنانية) يصور القرملاوي شخصياته دائماً فى ذروة لحظاتهم المأزومة. ففي القصة الأولى نجد أنفسنا أمام حالة موت مفاجئ أقرب إلى القتل حيث يسقط "خالد"؛ عامل البناء "زرع بصل" في "الخرسانة" من دون أن يظهر منه سوى القدمين. يفكر المقاول فى إخفاء الحادثة خوفاً على مصالحه. ويظل العمال واجمين؛ لأنهم على عِلم بأن سبب الحادثة هو عدم صرف إدارة المشروع أحزمة أمان تقيهم السقوط من أعلى بناء قيد التشييد. أما حذاء خالد البارز، فيظل "كما شاهِد قبر أعلى القاعدة". لن يستطيعوا الصلاة على "خالد" في وجود الحذاء، ولن يتمكنوا من إعادة الصب طالما استمر يذكرهم بالحادث. ويفكر صاحب الشركة في بتر هذا الحذاء، لكن هذا القرار صعب التنفيذ في وجود هذه الوجوه الواجمة. ولهذا يقرر أن يستبدل بهم طاقماً آخر، يجز الحذاء أولاً، من فوق القاعدة، ثم يستكمل بقية الخطوات؛ و"سيرى في ما بعد إن كان هؤلاء المصطفون أعلى الجدار يستحقون فرصة جديدة. فكل ما تفصح به نظراتهم الميتة هذه لا يبشر بخير". وهكذا يمكن القول إن القصة ليست سوى أزمة مستحكمة لا تجد لها حلاً سوى هذه النهاية المفجعة.
شخصية حالمة
وفي قصة "الموت على صدر السندريلا"، نجد – منذ اللحظة الأولى – رجلاً يصارع اقتراب الموت وهو ممسك بمركب مقلوب. وبينما هو في هذا الوضع "التفت ليتأكد من وجودها، فإذا بها تحبو نحوه وتدفع بيديها الأجساد المتشبثة به حتى تصل إليه". وهكذا يختلط الموت بالحب واليأس بالرجاء. ويطلق هذا البطل – الذي لا نعرف اسمه – خياله حين يصل إلى شاطئ إيطاليا... "يمكنني هناك أن أرسم الناس في الميادين وأكسب الكثير من المال". هو إذن شخصية حالمة، بينما هي – كأنها صوت ذاته الحذرة – شخصية واقعية. نقرأ ما يحيط بها بلا أوهام حين تقول له: "لن تكمل الطريق إلى شاطئ إيطاليا ولكي أختصر عليك طريق الوهم لن ترسل النقود لأمك ولا ستشتري جهاز أختك. دعك من أوهامك هذه وفُزْ بقبلة أخيرة".
thumbnail_المجموعة القصصية - الدار المصرية اللبنانية.jpg
المجموعة القصصية ( الدار المصرية اللبنانية )
إن اليقين الوحيد عند هذه الحبيبة هو يقين الحب الذي تتمسك به في مواجهة الأوهام والموت الذي يقترب. وعلى رغم وجود الراوي الخارجي، فإن صوت الشخصيتين بارزٌ من خلال الحوار والمونولوجات الداخلية.
تستمر تيمة الموت في قصة "موتٌ حلو المذاق" التى ينتقل فيها السرد من ضمير الغائب: "لن يستطيع الصبر أطول من ذلك. هكذا حدَّث نفسه. وبهذا الإيقاع الشديد البطء لن تمر الثلاثون دقيقة أبداً"، إلى ضمير المتكلم: "كانت ماما تبدي امتعاضها دائماً من "الرمرمة" عمَّال على بطَّال، بين الوجبات، وكانت تؤنب بابا على هذا التسيب الزائد". والقصة تدور حول شاب وهو في مجلس عزاء أبيه وإحساسه المؤلم بالجوع ورفض أمه أن يتناول أي طعام حتى لا يفضحهم بين أهل أبيه الذين جاءوا من قرى بعيدة لتقديم واجب العزاء. ولم يجد هذا الشاب وسيلة إلا دخول حجرة أبيه ليفاجأ بوجود الحلوى التى كان أبوه يحبها فيأكلها على رغم ظنه أنها كانت سبب موته... "لامستْ يده لفافة صلبة ملساء تخشخش بصوت السلوفان وملمسه. إنها أصابع "الفولية" المحبَّبة لبابا. هل كانت هي من قتله ليلة أمس؟".
علاقات متوترة
هذه العلاقة المتوترة مع الأم التي تلقي بأوامرها وتنفذ إرادتها، نجدها كذلك في قصة "بيت من جير"، فبعد موت الأم يحقق السارد أمنيته باقتناء سلحفاة، "هالَه لغز تلونها لعدة أيام تالية. كما أدهشه نموها بسرعة عجيبة بعد أن ظلت تقضم جير الجدران. ثم صارت تقتحم أحلامه في هيئتها الضخمة، فلم يجد بُداً من التخلص منها.
وأحياناً تحل الزوجة مكان الأم الآمرة الناهية. ففي قصة "سجل الليل الصامت"، يعاني مريض السكري من زوجته الغاضبة دوماً من كثرة تبوله: "ألا تفرغ هذه المثانة أبداً؟"... "يبدو أن إدرار البول صار متعتك الوحيدة الباقية". وعندما تنتابه الرغبة في التبول بينما زوجته نائمة كالميتة، يقول لنفسه: "البول ضاغط، البول حارق، دافئ مريح".
وينتهي الأمر بأن يستسلم له مرجئاً التفكير في كل شيء حتى الصباح، مذعناً لسلطان النوم. وهكذا تنتهي الأزمة بوقوعها، فنحن – مع أكثرمن قصة – لسنا أمام حلول أو انفراج للأزمات بل استحكام لتأزمها حتى تقع. ففي قصة "في الركن المظلم"، يتخلص التلميذ من مدرسة العلوم الإيرلندية السيدة "ماكارثي" بادعاء أنها تعاقبه وهو أمر يترتب عليه الفصل في المدارس الدولية. وبالفعل يتم فصل هذه المدرسة وكان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد فقد انتهى هذا التلميذ من أزمته مع معلمته التي يكره مادتها أو هكذا يتخيل خلاصه منها. لكن شبح السيدة "ماكارثي" ظل يطارده مسبباً له عذاباً أقسى مما كان يعانيه... "أخفض عيني هرباً من ركن الصالة المظلم المجاور للأباجورة مقطوعة السلك حيث يقف شبح السيدة ماكارثي ليل نهار يرنو إليَّ باندهاش".
قتل صريح
وهناك ما يمكن أن نسميه بالأزمة المستديمة التي لا حل لها. ففي قصة "كفَّان وأربعة أصابع" يبدأ السارد هكذا "كانت أطيب جيراننا على الإطلاق لدرجة أنك تشعر بالبهجة لمجرد رؤيتها لولا كفاها المفزعتان". ثم يذكر أنها "كانت طالبة في الفرقة الثالثة في كلية الطب لكنها كانت طبيبة البناية باتفاق الجميع". وعندما يصاب السارد أثناء لعبه ويذهب – مع رفاقه – إليها، يشاهد كفها المفزعة لكنه مع الوقت يعتاد هذه الكف التي أصبح يراها أيضاً في أحلامه... "صارت كفها اللامعة ذات الأصابع الأربعة الرشيقة المطلية بأحمر قان هي تجسيد الأنوثة الوحيد الذي يرتضيه خيالي". فعلى رغم أننا مع أزمة مستديمة لا حل لها فقد تكيَّف السارد معها وأصبح يشتهيها. وخلاصاً من هذه الأزمات كلها يتمنى السارد أن يكون "صفحة بيضاء". وفي بداية قصة تحمل العنوان نفسه يقول السارد: "بلا اسم ستمضي بدءاً من اليوم. باغتني الصوت كأنه قرعُ جرسٍ. أيقظني كأنما لأخلق من جديد. كان صوتاً باطنياً ربما، غير أنه أشد وقعاً من أي صوت آخر". لكن هذه المحاولة تفشل عندما تقول له الزوجة وهي معه: "لا بد من اسم أشتهيه. أنت الآن حسن، وغداً خالد". فتتحول الأسماء كلها إلى خصم عليه التسلح في مواجهته.
thumbnail_الكاتب - فيسبوك.jpg
الكاتب المصري أحمد القرملاوي (صفحة الكاتب على فيسبوك)
وفي قصة "قانون الخبز"، يتحول الموت إلى قتل صريح على يد المغاوير الذين انتزعوا "رقعة من أرض الله الواسعة؛ غرسوا فيها نواة حكمهم باسم الله". وبعد عودة "عيَّاد" من سفره يقص عليه "الأسطى مصطفى"، كيف اقتحم سبعة من المغاوير الضخام فرن الخبيز؛ "حاصرَ خمسةٌ منهم أم عيَّاد ملصقين جسدها المكتنز مثل العجين بفوهة الفرن التي كانت تبخ الصهد منذ الفجر". ذنبها هو أنها كانت تصنع الخبز ولم تصدق ما نقله الجيران عن تحريم أمير المغاوير لصناعته؛ لأنه "يحتاج للخميرة والخميرة مصغَّر للخمر"! وهكذا تتشرد أسرة هذه المسيحية، حيث يذهب "أبو عيَّاد" أيضاً من دون أن يعرف أحد أين ذهب منذ ذلك اليوم الذي احترقت فيه زوجته.
اغتراب عن الذات
ويستمر القتل أو التهديد به فى قصة "الأحجية"، لكنه تهديد غير مفهوم على عكس ما حدث في القصة السابقة. فنحن هنا أمام شخص مجهول يتوعد السارد بالقتل قائلاً: "تأتيني الخميس المقبل، فإما أقتلك أو أمنحك أي شيء تريد إذا أتممتَ ما بدأته قبل سنوات"، من دون أن نعرف أو يعرف السارد ما هو هذا الشيء. وبهذا يظل الوعيد بالقتل قائماً ويظل السارد في حيرة: "هل يهرب منه لبعض الوقت أم يسعى لمواجهته أو يحمل سكيناً ويواجه مصيره".
كل هذا يجعل فكرة "الاغتراب" عن الذات أمراً وارداً. ويظهر ذلك على بطل قصة " حديث المنفضة" الذي تمر عليه ذكرى ميلاده من ن ينتبه فتذكره زوجته برسالة قصيرة قبل خروجها للعمل. عندئذ يقف أمام المرآة، ثم "أضاء المصباح وأمعن النظر في انعكاس وجهه. كان وجهاً آخر غير الذي يألفه. وجه رجل في السبعين، فيما لم تكد قدمه تتجاوز عتبة الخامسة والثلاثين". هذا الاغتراب عن الذات والإحساس بالعجز ووطأة الزمن يجعل هذه الشخصية تفكر في الموت الذي يمكن أن يأتيها في أي لحظة.
وفي قصة "بيت الخالة أخت الأم"، يختلط الموت بالحياة. موت الأم وحياة الخالة التي تصر على أن السارد ابنها، فيتشكك في كل شيء. يقول في نهاية القصة: "مضيت أهبط درجات السلم حيث النسوة البدينات والسيدة التى أشارت عليَّ بمكان خالتي أو أمي، أياً كان كنهها". وأخيراً يمكن القول إننا أمام مجموعة بديعة في التقاط ما هو غير عادي في حياتنا