الأحد 6 تشرين الأول 2024

اغتيال إسماعيل هنية: لأن هدف نتنياهو الوحيد هو إشعال المنطقة

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني


بقَتْلِ إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الرسالة الأكثر وضوحاً حتى الآن إلى إيران وحركات المقاومة بأنه يريد حرباً إقليمية.

وبإنكاره لأي تورط أو علم مسبق بهجوم الطائرة المُسيّرة الذي استهدف هنية، فقد ألحق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المزيد من الضرر بمصداقية واشنطن المنهارة.

كان مسؤولو الأمن الأمريكيون يطلعون الصحفيين بعد ساعة من وقوع الهجوم على تقارير بشأن مقتل عضو بارز في محور المقاومة. ولم يحددوا أين أو من، وفي البداية كان يُعتقد أنها ضربة ثانية في لبنان بعد استهداف فؤاد شكر، القائد العسكري في حزب الله والذراع اليمنى للزعيم حسن نصر الله.
ولكن المؤكد هو أن مسؤولي الأمن الأمريكيين كانوا على علم بهجوم الطائرة المُسيّرة الذي استهدف هنية في غضون دقائق من وقوعه. لهذا فإن تصوير نتنياهو كزعيم أصدر الأمر بتنفيذ الهجوم لأنه تحت تأثير اليهود المسيانيين الفاشيين هو تصوير لا ينقل الصورة الكاملة.

عندما التقيت به قبل عَقدين من الزمان حين كان منبوذاً سياسياً يصفه المذيعون الصهاينة الليبراليون بالمتطرف، لم يكن لدى نتنياهو سوى فكرة واحدة يريد أن ينقلها إلي: إيران هي السفينة الأم، وليست حماس وحزب الله سوى حاملتي طائرات لها.
لا يمكن أبداً أن ننكر إيمان نتنياهو طيلة حياته بأنه سيقود أُمّته إلى النصر من خلال سحق القضية الوطنية الفلسطينية ومنع قيام الدولة الفلسطينية.

واليوم، قد يتصور أنه على أعتاب تحقيق إنجازه السياسي النهائي باعتباره رئيس الوزراء الأطول خدمة في إسرائيل، من خلال جر الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الحرب مع إيران.
انهيار المفاوضات
لقد أرسل نتنياهو رسائل أخرى أيضاً بِقَتْلِهِ هنية، الذي لم يكن له أي دور في هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكان مكتبه مسؤولاً عن المفاوضات مع الوسيطين قطر ومصر.

لقد مزق نتنياهو المفاوضات وأي مُقْتَرَحٍ لإعادة الرهائن أحياء. وكان من المفترض أن يكون هذا واضحاً بالفعل من الجولة الأخيرة من المحادثات في روما، حيث شدّد الجانب الإسرائيلي شروطه حول المرحلة الأولى من الصفقة.

الواقع أن هنية كان أحد أعضاء لجنة التفاوض، التي ستستمر في عملها من دونه.
كان رد فعل آل ثاني اللهاذع موجهاً إلى نتنياهو، الذي بذل كل ما في وسعه لتصعيد التوترات الإقليمية وتقويض موقف الإدارة الأمريكية بشأن وقف إطلاق النار الدائم، ومعارضتها المستمرة لفتح جبهة ثانية في لبنان.

وبقتل رجل معتدل مثل هنية، الذي لم يختبئ تحت الأرض بل عاش على مرآى من الآخرين، والذي كرس حياته المهنية للمفاوضات والانخراط مع العالم الإسلامي في قطر وتركيا وإيران، فقد قتلت إسرائيل زعيماً قد تحتاج إليه ذات يوم للتفاوض على هدنة، أو وقف إطلاق نار طويل الأمد.
خارج المعادلة
كان هنية شخصاً ودوداً، وهادئاً، ومستمعاً جيداً، ومتواضعاً. كان دبلوماسياً متكاملاً. ولم يكن قط من أولئك الذين يتحدثون بسوء عن فتح أو الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

وإذا لم تتمكن إسرائيل، كما يجب أن يكون واضحاً الآن حتى بالنسبة للجيش الإسرائيلي، من هزيمة حماس أو إضعافها في غزة، فسوف تحتاج إلى أشخاص في حماس للتفاوض معهم. وقد قتلت إسرائيل للتو أحد هؤلاء الأشخاص.
ومن وجهة نظر استراتيجية، فقد تصرفت إسرائيل بجنون. وهذه ليست أوصافي، بل هو الوصف الذي استخدمه الجنرال الإسرائيلي السابق عميرام ليفين، الذي أضاف، بشيء من التقليل من شأن الأمر، أن "قوات الأمن كان ينبغي لها أن تعارض بشدة" هذه الخطوة.

وحتى من دون وقف إطلاق النار، فإن هنية كان يستحق أن يكون حياً أكثر من كونه ميتاً بالنسبة لإسرائيل.

كان بوسع إسرائيل أن تزعم أمام الجمهور الغربي أنها لن تسلم نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في حين كان هنية، وهو أحد الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في طلب المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال، حراً طليقاً في قطر ويتجول في
المنطقه.وكان من المحتم أن يتم ممارسة الضغوط على قطر لتسليمه وطرد المكتب السياسي لحماس.

والآن بعد أن أصبح خارج المعادلة، فقدت إسرائيل هذه الحجة. وقد حققت إسرائيل كل هذا بقتل هنية.

باتت حماس أقوى
يتعين على نتنياهو أن يدرك أنه لم يضعف حماس. بل على العكس من ذلك تماماً.

إن هنية، الرجل المتواضع الذي فقد 60 من أفراد عائلته، بما في ذلك الأبناء والأحفاد، في هذه الحرب التي خاضتها إسرائيل، سوف يُـسجَّل باعتباره أحد أعظم شهداء حماس.
في اللحظة التي علم فيها هنية بمقتل أبنائه وأحفاده في قصف إسرائيلي استهدف سياراتهم خلال عيد الفطر، كان يزور مستشفى في الدوحة حيث كان الفلسطينيون الجرحى من غزة يتلقون العلاج.

وقال فقط: "رحمهم الله"، لكنه رفض قطع زيارته. وانتشر المقطع على نطاق واسع، لأنه كان يتحدث أكثر مما تستطيع الكلمات أن تقول عن قدرته على وضع القضية الفلسطينية فوق حزنه الشخصي كأب.

لقد قتلت إسرائيل عدداً لا يحصى من زعماء وقيادات حماس، ولم يتوقف تطور الحركة على صعيد التجنيد والأسلحة والنفوذ السياسي. واليوم، تشير استطلاعات الرأي إلى أن حماس سوف تفوز في الضفة الغربية إذا سُمح بإجراء انتخابات حرة هناك.
إن حماس التي قاومت الهجوم الإسرائيلي على غزة لمدة 10 أشهر أصبحت أكبر حجماً وقدرات مقارنة بحماس في عهد الشيخ أحمد ياسين. لقد قُتل مؤسس حماس الذي كان يعاني من الشلل الرباعي عندما أطلقت عليه مروحية إسرائيلية صاروخاً أثناء نقله على كرسي متحرك لصلاة الفجر في غزة. وكان هنية رئيساً لهيئة أركانه. ولقد أدان المجتمع الدولي هذا الاغتيال.
لقد ارتفعت أسهم حماس، ولم تنخفض، في فلسطين والعالم العربي والإسلامي منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وهذا هو السبب الوحيد الذي دفع عباس البالغ من العمر 88 عاماً، والذي مزق باستمرار اتفاقيات المصالحة، إلى نعي خصمه المقتول يوم الأربعاء.

وقد أدان عباس عملية القتل ووصفها بأنها "عملٌ جبانٌ وتطورٌ خطير"، ودعا الفلسطينيين إلى التوحد. لقد تحدث عباس بدافع الخوف والضرورة السياسية، وليس بدافع الحب لحماس.

بعد أيام من التوصل إلى اتفاق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية في بكين، حاولت قوات الأمن التابعة لعباس اعتقال قائد مصاب من كتيبة طولكرم من مستشفى في الضفة الغربية المحتلة، لكنها فشلت.

لذا، يمكنك أن تكون على يقين تام من أن عباس لا ينوي توحيد فتح مع الفصائل الفلسطينية الأخرى. ربما كان مفاوض فتح في بكين صادقاً، ولكن بالنسبة لعباس، كانت محادثات بكين مجرد استعراض. ولم يحدث ذلك أي فرق على الأرض في الضفة الغربية المحتلة.
حريق في المنطقة، حريق في الداخل
ليس من قبيل المصادفة أن اغتيال هنية جاء في غضون يوم واحد من اقتحام الفاشيين الإسرائيليين وأعضاء اليمين المتطرف في الكنيست لمنشأة احتجاز في محاولة لمنع اعتقال جنود بتهمة اغتصاب سجين فلسطيني.

لقد كان إشعال النار في المنطقة هو رد نتنياهو الوحيد على الاضطرابات التي اندلعت في الداخل وعلى عتبة بابه.
خرج مئات المعتقلين بروايات مروعة عن مركز احتجاز سديه تيمان سيئ السمعة. وكان موقع ميدل إيست آي أول من نشر تقريراً عن كيفية استخدام قضبان الحديد والصدمات الكهربائية والكلاب وحروق السجائر في تعذيب المعتقلين الفلسطينيين في مراكز الاحتجاز الإسرائيلية.

وقال عمر محمود عبد القادر صمود، الذي احتُجز لأكثر من 42 يوماً، إن إحدى الغرف في المنشأة كانت تُعرف باسم "الديسكو".
وقال صمود لموقع ميدل إيست آي: "جرني
جندي على الأرض عارياً ومقيد اليدين، ووضعني على قطعة من السجاد. لقد رش الجنود عليّ ماءً شديد البرودة، ووضعوا مروحة أمامي. وتركوني لعدة أيام، بلا طعام أو ماء، أو حتى إمكانية النهوض والذهاب إلى الحمام. كنت أبول على نفسي وأتوسل إليهم، لكنهم لم يكترثوا.

وأضاف: "كان الجنود يركلونني في كل أجزاء جسدي. تخيل نفسك عارياً، مقيد اليدين على الأرض، وخمسة أو ستة جنود يركلونك بأحذيتهم، ويضربونك بالأسلحة والمضارب. ثم طلبوا مني الجلوس. كيف يمكنني الجلوس؟ وعندما لم أكن قادراً على اتباع أوامرهم، كانوا يضربونني بقوة أكبر. لقد سحقوني بالكامل. اعتقدت أن هذا الكابوس
لن ينتهي أبداً".

وبعد شهر، قال طبيب مجهول يعمل في نفس المركز إن أطرافاً لمعتقلين قد بُتِرَت بسبب إصابات الأصفاد، وقال: "نحن جميعاً متواطئون في خرق القانون".

ومع ذلك لم يتم اعتقال أي شخص، ولم يتم التحقيق في أي شيء. ولكن مع تصاعد الضغوط من جانب المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب في غزة، إلى جانب قضية الإبادة الجماعية الجارية في محكمة العدل الدولية في لاهاي، شعر المدعون العسكريون الإسرائيليون بأنهم ملزمون بالتحرك.
انهيار الدولة
ما حدث بعد ذلك كان انهياراً كاملاً للدولة، على غرار هجوم أنصار ترامب على الكونغرس في عام 2021.

قوبلت الاعتقالات بمظاهرات غاضبة عند بوابات سدي تيمان، حيث قام العديد من المتظاهرين باختراق البوابات مؤقتاً. وكان من بين المحتجين جنود احتياطيون، بالإضافة إلى نائبين من أقصى اليمين: تسفي سوكوت، عضو الحركة الصهيونية الدينية، ووزير التراث عميحاي إلياهو من حزب القوة اليهودية.
لقد استغرق وصول الشرطة إلى أماكن التظاهرات 3 ساعات. واضطر هيرتسي هاليفي، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، إلى قطع اجتماع دفاعي حول رد إسرائيل على الهجوم الأخير على مرتفعات الجولان للتعامل مع الأزمة. وتبادل الجيش والشرطة اللوم بشأن انهيار القانون والنظام.

ولفترة من الوقت، تحصن الجنود المتهمون في سدي تيمان واستخدموا رذاذ الفلفل للدفاع عن أنفسهم ضد الاعتقال، قبل أن يتم احتجازهم في النهاية.

إن من الخطأ الذي يرتكبه عادة أولئك الذين يصنفون أنفسهم كأصدقاء لإسرائيل أن يصوروا مثل هذه المشاهد على أنها معركة بين المعتدلين واليمين المسيحي المتطرف. وهذا وهم تماماً، لأن "المعتدلين" على استعداد تام لمواصلة الحملة القاتلة في غزة.
وقد صوت "المعتدلون" لصالح مشروع القانون الأخير في الكنيست الذي يرفض إنشاء دولة فلسطينية.

إن الاختلاف بينهما هو في الوسائل وليس الغايات.

إن الإسرائيليين الذين يتمسكون بهويتهم الغربية هم أساتذة ماهرون في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بمهارة وهدوء ودون ضجة كبيرة؛ ولكن بصبر، عقار واحد، شارع واحد، قضية واحدة في المحكمة العليا في كل مرة. إنهم يكترثون أكثر لصورتهم، وبأن يُطلق عليهم لقب المنبوذين عالمياً، وبأن تُلصق بهم شخصياً تهمة الفصل العنصري أو جرائم الحرب.
من ناحية أخرى، لا يكترث اليمين الصهيوني الديني بالرأي العام العالمي أو المحاكم الدولية. إنهم يريدون ضم الضفة الغربية الآن. وكلما حدث ذلك في أقرب وقت، كان ذلك أفضل.

يمكننا أن نطلق عليها صهيونية ذات وجهين، لكن الهدف واحد: حل الدولة الواحدة حيث تهيمن دولة إسرائيل الحديثة، إن لم تكن تتداخل، على أرض إسرائيل التوراتية، الأرض الممتدة من النهر إلى البحر.

ولكن من الخطأ أيضاً التقليل من شأن الانقسامات المتعمقة داخل إسرائيل، والتي تحدث في خضم حرب كبرى.
تصور إسرائيل نفسها للعالم الخارجي باعتبارها الدولة الوحيدة العاملة في جوار من الدول الفاشلة. لقد تفاخر نتنياهو ذات مرة أمام الساسة الأمريكيين في إحدى مرات ظهوره العديدة أمام الكونغرس بقوله: "لقد أسسنا دولة بالفعل في إسرائيل".

ولكن هذه الدولة تظهر علامات واضحة على الفشل أيضاً.

كان نابليون وهتلر في أوج قوتهما، وكانت جيوشهما قد روضت أوروبا تحت أحذيتهما العسكرية، عندما اعتقد كل ديكتاتور أن مهاجمة روسيا ستكون فكرة جيدة.

وعلى نحو مماثل، يعرّض نتنياهو كل ما حققته إسرائيل في إقامة دولة قوية للخطر من خلال تهيئة الظروف لحرب إقليمية بشكل علني.
يعرف الجيش الإسرائيلي الحقيقة: أن قتل هنية كان آخر شيء ينبغي له أن يفعله إذا كان يريد أن يرى أياً من رهائنه على قيد الحياة. وهم يعرفون أنهم غير مستعدين لمهاجمة جنوب لبنان، لأنهم لا يملكون ما يكفي من الدبابات أو الذخيرة.

إنهم يعرفون مدى تسليح حزب الله والحوثيين وجماعات المقاومة الأخرى، ومدى فعالية صواريخهم. وهم يعرفون الجغرافيا والمسافات، ومدى ضعف سكان إسرائيل واقتصادها في مواجهة الحرب على 5 جبهات في وقت واحد. وعندما يهدد حزب الله بإغلاق مطار بن غوريون، أو تعطيل الشبكة الكهربائية الإسرائيلية، فهذه ليست تهديدات فارغة.
إن المؤسسات الأمنية الإسرائيلية تدرك أيضاً أنها تتعرض لخطر فقدان القيادة والسيطرة على قواتها، وإذا أصدرت الأمر بالانسحاب، فقد لا تطيع وحدات عديدة الأمر.

إن إسرائيل تحت قيادة نتنياهو ترتكب الخطأ الكلاسيكي الذي ترتكبه كل القوى الاستعمارية. إنها تبالغ في الاعتقاد بأن اليهود هم حقاً شعب الله المختار؛ وأن الكتاب المقدس هو الذي أمر بكل ما يحدث الآن، وأن إسرائيل قادرة على تحقيق هدفها المتمثل في تحقيق النصر العسكري الكامل.
إنها في هذه اللحظة بالذات في أضعف حالاتها، وقد ينهار المشروع.
في السنوات الأخيرة من نظام الفصل العنصري، انطلق النظام في جنوب أفريقيا بأقصى سرعة ممكنة. فقرر الإطاحة بحكومة أنغولا، وتنصيب نظام دمية في ناميبيا، ومهاجمة زيمبابوي وبوتسوانا وزامبيا ــ وهي كلها مشاريع عقيمة لم تتمكن من منع انهيار النظام.  وإسرائيل في عهد نتنياهو تسير على نفس المسار.

ومن أجل الحفاظ على الذات، يتعين على أولئك الذين يدركون هذا أن يتحركوا قبل أن يورطهم نتنياهو في حرب لا يمكنهم إيقافها، ناهيك عن الفوز بها.