الأربعاء 22 تشرين الأول 2025

هل رائحة المطر تعمل على إفراز الدوبامين وتُحسّن المزاج....

النهار الاخباريه- صحتك

رائحة المطر، المعروفة علميًا باسم Petrichor، تُعد واحدة من أكثر الروائح الطبيعية التي تثير في الإنسان شعورًا فوريًا بالهدوء والحنين. هذه الرائحة التي تعبق في الهواء بعد أولى قطرات المطر على التراب الجاف ليست مجرد ظاهرة حسية عابرة، بل تجربة بيولوجية عميقة تتفاعل فيها الكيمياء مع الذاكرة والعاطفة، وتترك أثراً حقيقياً على الدماغ والمزاج.

يعود أصل كلمة Petrichor إلى كلمتين يونانيتين: "Petra” وتعني الحجر، و”ichor” التي تشير إلى السائل الأسطوري الذي يجري في عروق الآلهة بحسب الميثولوجيا القديمة. وقد أطلق العالمان الأستراليان إيزابيل بير وريتشارد توماس هذا المصطلح عام 1964 بعد أن اكتشفا أن سبب الرائحة المميزة هو مادة تُسمّى geosmin، تنتجها بكتيريا تعيش في التربة تُعرف باسم Actinobacteria.

عندما تلامس قطرات المطر سطح الأرض الجافة، تتسبب في إطلاق فقاعات صغيرة من الهواء الممزوج بجزيئات geosmin إلى الغلاف الجوي، فتنتشر تلك الرائحة الترابية الدافئة التي يستطيع الإنسان تمييزها حتى بتركيزات منخفضة جداً — إذ إن أنف الإنسان حساس للغاية لهذه المادة أكثر من حساسيته لبعض العطور الصناعية.

لكن ما يثير الاهتمام العلمي هو أن رائحة المطر لا تثير الحنين فقط، بل تُحدث تغييرات عصبية حقيقية داخل الدماغ. فقد كشفت دراسات حديثة أن استنشاق هذه الرائحة يُحفّز إفراز الدوبامين، وهو الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالسعادة والتحفيز. ويُعتقد أن الدماغ يربط هذه الرائحة بالراحة والأمان والخصوبة، نظراً لأن المطر كان عبر التاريخ إشارة إلى الحياة والنماء بعد فترات الجفاف. لذا، فإن استنشاقها يُفعّل مراكز المكافأة في الدماغ ويبعث على الشعور بالرضا والطمأنينة.
وفي بحث أجراه علماء من جامعة أكسفورد عام 2022، تبيّن أن رائحة المطر تُنشّط منطقة hippocampus المسؤولة عن الذاكرة طويلة الأمد، مما يفسّر سبب ارتباطها بالذكريات الطفولية أو بمشاهد من الماضي. فهي رائحة قادرة على استدعاء مشاعر الدفء والانتماء، وتجعل الإنسان يعيش لحظات من الصفاء النفسي حتى في أكثر الأيام ازدحاماً وضغوطاً.

كما أشارت دراسات بيئية إلى أن استنشاق رائحة المطر قد يُقلل من إفراز هرمونات التوتر، ويُبطئ معدل ضربات القلب، ويُحدث حالة من التوازن العصبي بين الجهازين السمبثاوي والباراسمبثاوي، أي بين حالة "التحفيز” وحالة "الراحة”. بمعنى آخر، المطر لا يروي الأرض فقط، بل يُعيد أيضاً توازن الإنسان الداخلي.

وفي السنوات الأخيرة، بدأ بعض شركات العلاج العطري (Aromatherapy) بإنتاج زيوت عطرية تحاكي رائحة المطر الطبيعي، تُستخدم في جلسات التأمل والاسترخاء النفسي. ومع ذلك، تبقى التجربة الأصلية — المشي تحت مطر خفيف أو الجلوس قرب نافذة مفتوحة وقت الهطول — أكثر نقاءً وتأثيراً من أي بديل صناعي.

رائحة المطر تُذكّر الإنسان بعلاقته الأولى مع الطبيعة، حين كان المطر رمزاً للخصوبة والبقاء، وتعيده إلى لحظة انسجام بين الأرض والسماء. لذا، ليست مصادفة أن يشعر كثيرون بالبهجة الغامرة عند أول رائحة للمطر بعد صيف طويل. فالمطر ليس مجرد ظاهرة جوية، بل حدث عاطفي وكيميائي في آنٍ واحد، يعيد شحن الدماغ بطاقة من الهدوء والجمال والحنين، ويجعل العالم يبدو للحظة أكثر صفاءً وإنسانية.​