يقف "نواب" في الطابق العلوي من معمل مهجور يطل على مرفأ باتراس في غربي اليونان. تغطي الندوب ساعده الأيسر وساقه فوق الركبة بقليل بلون زهري لامع يتناقض مع بشرته الداكنة. هي جروح اُصيب بها جراء إيذائه لنفسه عندما كان محتجزاً في مركز الاعتقال في مالاكاسا.
خلال الإقفال التام الأول الذي شهدته اليونان في شهر مارس (آذار) 2020 جراء جائحة كورونا، تم احتجاز آلاف المهاجرين ضمن مخيمات مغلقة في جزر بحر إيجه عقب فرض قيود تتعلق بكوفيد 19 على مستوى البلاد، الأمر الذي حال دون انتقال طالبي اللجوء إلى البر اليوناني الرئيسي.
واحتُجز المهاجرون وطالبو اللجوء الذين عانوا من الاكتظاظ وظروف غير صحية في المخيمات في ما يُطلق عليه تسمية "المأزق قانوني" أي أنهم أصبحوا طي النسيان قانوناً. "كنت أجلس طوال النهار من دون القيام بأي شيء،" يقول نواب. "كنت أنتظر وحسب. لم يكن هنالك ما أفعله سوى التفكير وتذكر ما حصل لي في بلدي الأم. عندما أذيت نفسي، ساعدني الألم الجسدي على نسيان الألم النفسي لبعض الوقت."
غادر "نواب" أفغانستان بعمر الرابعة عشر وسافر عبر إيران وتركيا قبل أن يتم تهريبه إلى اليونان بالزورق. ما إن وصل، تم اصطحابه على الفور إلى مركز احتجاز مالاكاسا حيث احتُجز برفقة صديقه حسام.
تضيء بعض حبيبات النمش المتناثر وجه حسام وملامحه الداكنة. يرينا صورة له قبل عامين، يبدو فيها فتى مفتول العضلات يكاد لا يشبه أبداً الشخص الهزيل الواقف أمامنا هنا. "هذا ما فعلته بي الرحلة إلى أوروبا"، يقول حسام. "بقيت في المستشفى لمدة شهر" يتابع شارحاً وقد رفع قميصه ليظهر الندوب العميقة التي غطت معدته وصدره. أصاب نفسه بجروح في محاولة يائسة للهروب من مالاكاسا. "لم يكن أمامي سوى هذه الطريقة للخروج من هنا. لا تذهب لرؤية طبيب إلا إذا كانت إصابتك بهذا الحجم."
بالفعل، كانت جروحه عميقة لدرجة أنه وجب تقطيبها معاً.
ليست هذه بالظاهرة الجديدة، إذ تحذر التقارير الواردة من العام 2017 بأن المهاجرين وطالبي اللجوء المحتجزين في مخيمات الجزيرة اليونانية كانوا يلجأون إلى إيذاء انفسهم في محاولة للهرب من الظروف الصعبة التي يعيشونها.
منذ بدء تطبيق الاتفاقية التي أُبرمت عام 2016 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لإغلاق ممرات الهجرة إلى وسط أوروبا، حوصر آلاف الأشخاص في بلدان البلقان بين اليونان ومناطق شنغن التابعة للاتحاد الاوروبي من دون أي قدرة على المضي قدماً أو العودة أدراجهم. وأتت الجائحة لتزيد الطين بلة وتفاقم الوضع أكثر.
علق المهاجرون وطالبو اللجوء الذين لا يملكون أي أوراق هوية في مأزق قانوني وأصبح وضعهم هشاً بشكل متزايد في اليونان. إذ إن الذين يحاولون ويجتازون الحدود إلى مقدونيا أو ألبانيا يواجهون خطر التعرض للإساءة أو الصد من قبل سلطات الحدود أو المهربين. أما الذين يختارون البقاء فيواجهون نقصاً حاداً في الخدمات الصحية الملائمة والرعاية الطبية في المخيمات ويعيشون التعذيب النفسي الناتج عن عملية بيروقراطية يبدو أن لا نهاية لها.
خلال هذه الفترة الطويلة، ومع غياب الدعم الرسمي وفي أقسى فترات الإقفال التام، تضاءلت أيضاً المساعدات الآتية من مبادرات التضامن الشعبي والمنظمات غير الحكومية ولم تتمكن سوى قلة قليلة من المنظمات من الاستمرار في تسيير أعمالها.
مخاطر التهريب
يُضطر العديد من القاصرين غير المصحوبين من ذويهم إلى العمل بالإكراه لصالح المهربين كمراقبين ومرشدين على الطرقات لتجنب دوريات الشرطة، كما أنهم يُجبرون على فتح الشاحنات وبيع الخدرات أو حتى العمل في الدعارة بهدف جمع المال لتسديد تكاليف المرحلة التالية من الرحلة. وفي هذا الإطار، يقول محام يوناني يتخذ من أثينا مقراً لهه ويتمتع بخبرة سابقة في العمل في جزيرة ليسبوس: "من المعروف والمعلوم بوضوح أن القاصرين غير المصحوبين بذويهم يُجندون للعمل في الدعارة. وغالباً ما يكون زبائنهم رجالاً يونانيين محليين مقابل 5 أو 10 يورو."
ويتراجع التمييز القانوني بين التهريب (الحركة عبر الحدود) والإتجار (الاستغلال الفردي) إلى أدنى المستويات. وبالتالي، تقر تقارير الاتحاد الأوروبي بأنه غالباً ما يقطع المتاجرون بالأشخاص وعوداً كاذبة بالترحيل بهدف جذب الضحايا للعمل معهم.
"قد يبدو الأمر غريباً بالنسبة إليك، ولكن أعز أصدقاء لنا هنا هم المهربون،" يكشف نواب. "لا أحد طيب معنا هنا لأن ما من أحد يكترث لأمرنا. جل ما بوسعك القيام به هو العثور على بعض الخير في الأشرار لأنهم على الأقل سيحمونك في وجه الأكثر سوءاً."
وليس الاستغلال والاتجار سوى أحد المخاطر التي يواجهها القاصرون في اليونان وعلى طول الطريق الممتد من البلقان إلى أوروبا. فقبل فرض قيود الإقفال التام عبر القارة، بدأت مبادرة شبكة مراقبة العنف على الحدود (BVMN) بجمع بيانات توثق تزايد العنف في عمليات الصد التي تمارسها الشرطة وعناصر ضبط الحدود في أوروبا الشرقية.
في المصنع المهجور نفسه في باتراس، وإلى جانب نواب وحسام، التقينا عشرات الفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عاماً والذين أتوا في معظمهم من باكستان أو أفغانستان أو بلدان شمال أفريقيا. يخبرنا جميعهم وتقريباً من دون أي استثناء قصص عن العنف وسوء المعاملة التي عانوا منها على أيدي شرطة الحدود سواء في تركيا أو اليونان أو بلدان البلقان على طول مسار رحلتهم.
تعرض منير، وهو شاب من أفغانستان، لصد عنيف خلال انتقاله من كرواتيا إلى البوسنة في أبريل (نيسان) 2021. "أُصبت بهذه الندوب من شظايا ناتجة عن انفجار لغم قرب منزلي في افغانستان،" أخبرنا وهو يشير إلى علامتين داكنتين على كتفه. "ولكن هذه العلامات هنا في الأسفل هي ما تبقى من الكدمات التي تلقيتها من الشرطة الكرواتية."
يُشار إلى أن العنف ضد القاصرين غير المصحوبين من ذويهم خلال عمليات الصد هي ممارسات متكررة وموثقة.
يكاد يكون مستحيلاً تخمين عمر منير. فهو طويل القامة وظهره محدودب قليلاً مع عينين لامعتين يغطيهما شعر أسود كثيف وطويل يبعده عن وجهه مراراً بحركة متكررة من رأسه.
تحمل راحتا يديه جروحاً وآثار جراء تسلق السياجات ومن ثم الشاحنات التي تنقلها السفن المسافرة من باتراس إلى أنكونا والبندقية في ايطاليا. يخبرنا منير بأن "الخدعة تقضي بالركض قرب تلك الشاحنات التي صُنعت أغطيتها من القماش المشمع وإحداث فتحة في الأعلى أو على جانب الشاحنة ومن ثم التسلل إلى داخلها. متى أصبح المرء في الداخل، يقوم بلصق غطاء الشاحنة من الداخل لكي لا يلاحظ عناصر شرطة الحدود الفتحة."
يتواصل غالبية الشبان في المعمل المهجور مع عائلاتهم. يعلم أهلهم بأنهم يقومون بتلك الرحلة ولكن قلة منهم يدركون فعلاً الظروف الحياتية التي ترافق هذه الرحلة. ويتابع منير قائلاً: "لا ينفك والدي يسألني متى سأبدأ بإرسال المال لهم. هو لا يعرف أنني أعيش هكذا منذ أكثر من سنة. لا أحد منا يود أن يعرف ذووه ما الذي يعانيه، فهذا سيفطر قلوبهم."
تتسبب الصدمة الناتجة عن العنف على الحدود وتدهور ظروف الرعاية الصحية فضلاً عن التعرض للاستغلال داخل المخيمات وخارجها في أزمة صحة ذهنية متفاقمة ومنتشرة. يُعتبر الفتيان غير المصحوبين من ذويهم الفئة السكانية الأكثر تأثراً جراء ذلك ومن الصعب توقع الأثر الذي ستسببه هذه المعاناة على مستقبلهم.
تبدو علامات العوز والفقر المدقع واضحة على وجوه وأجساد كافة الشبان الذين قابلناهم. وتنشر العديد من المنظمات الإنسانية تقارير عن ازدياد حالات الانتحار واضطرابات ما بعد الصدمة وتعاطي المخدرات والقلق في أوساط القاصرين غير المصحوبين من ذويهم، كما تم إجراء دراسات علمية تتناول تأثيرات الجائحة على اللاجئين الشبان بشكلٍ خاص. وفاقم تفشي وباء كورونا وضع القاصرين الصعب والقاسي أصلاً على خط رحلة البلقان.
وتعني الآثار المشتركة للوباء وتطبيق ضوابط حدودية أكثر صرامة وغياب أي خطة من الاتحاد الأوروبي لإعادة توطين القاصرين غير المصحوبين من ذويهم وجود خطر أن يصبح مئات الأطفال الضعفاء أكثر اعتماداً على المهربين والمتاجرين بالبشر أثناء رحلتهم لبلوغ أوروبا، الأمر الذي يتسبب بضرر دائم لجيل من الشبان المحاصرين على الحدود الأوروبية. "من الرهيب ما يحدث لنا،" يقول نواب. "ولكن تأكدوا بأنني سأبلغ أوروبا في نهاية المطاف." ولكن يبقى السؤال: بأي حالٍ سيبلغها؟