الأحد 24 تشرين الثاني 2024

هل تنجح دول البحيرات العظمى في حل مشكلاتها بالديمقراطية؟


تواجه الديمقراطية الناشئة في دول البحيرات العظمى تحديات معقدة، يفرضها واقع هذه الدول الخارجة لتوها من مجموعة من النزاعات المتشابكة والعابرة لحدودها، مع استمرار تهديدها بانفجار بؤر أخرى، إضافة إلى المشهد السياسي الناتج عن انعدام التنمية وانتشار الفساد. ومع انعقاد مؤتمر قمة البحيرات العظمى الأفريقية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ارتسمت صورة هذه الدول في مشهد اللاسلم واللاحرب.

وعلى الرغم من الإشادة بسعي هذه الدول إلى التحول الديمقراطي، مثل إشادة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالتداول السلمي للسلطة في بوروندي، فإن المنظومة الأمنية ظلت تشكل هاجساً لهذه الدول، نسبةً إلى نشاط العنف الذي تمارسه المجموعات المسلحة خصوصاً في أوقات الانتخابات.

تداخل القضايا

تتداخل القضايا في منطقة البحيرات العظمى التي تشترك في بحيرات كيفو وتنجانيقا وفيكتوريا وهي دول بوروندي ورواندا وأوغندا والكونغو الديمقراطية. ثم تمتد المنطقة حتى كينيا المشاطئة لبحيرة فكتوريا ثم بحيرة ملاوي التي تتقاسم شواطئها دول مالاوي وموزمبيق وتنزانيا. وهناك الدول المحيطة بهذه المنطقة مثل أنغولا وأفريقيا الوسطى والكونغو برازافيل والسودان وزامبيا، ويمتد تأثير قضايا هذه المنطقة كذلك إلى بلدان بعيدة نسبياً، لكنها ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً مثل بوتسوانا ومصر وإثيوبيا وناميبيا وزيمبابوي.

تواجه منطقة البحيرات مشكلات مشابهة، إذ تسود الصراعات الإثنية التي قادت إلى مذابح متبادلة بين أطرافها ونزاعات مسلحة وأزمات إنسانية، الأمر الذي فاقم من الصعوبات الاقتصادية وحالات النزوح، مما استلزم نشر قوات لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. على الرغم من السعي إلى إنهاء الحروب فعلياً في هذه الدول في أوقاتٍ متفاوتة، إلا أن آثارها ظلت تطغى على الإصلاحات السياسية التي يحاول قادتها الوصول إليها، كما حجبت ثراء المنطقة بالموارد الطبيعية من اليورانيوم والكوبالت والألماس والذهب وغيرها. إضافة إلى المياه التي إن اشتعلت الحرب بسببها فستتسع رقعتها أفقياً بين هذه الدول، ورأسياً من المنبع الرئيس لنهر النيل في بحيرة فيكتوريا بأوغندا باتجاه الشمال إلى دولة جنوب السودان ثم السودان ومصر، خصوصاً مع احتياجات القارة للطاقة الكهربائية المتزايدة مع خطط التنمية.

ديمقراطية شبيهة

ارتفع استخدام أدوات الديمقراطية المباشرة في دول البحيرات العظمى، إذ أُقيمت الانتخابات الرئاسية في رواندا في 4 أغسطس (آب) 2017، بإعادة انتخاب بول كاغامي لفترة رئاسية ثالثة مدتها سبع سنوات. أما في بوروندي فقد صاحبت الانتخابات التي أُجريت في مايو (أيار) من العام الماضي، وهي أول انتخابات رئاسية تنافسية منذ الحرب الأهلية في عام 1993، احتجاجات عنيفة وانتهاكات لحقوق الإنسان نددت بها منظمة الأمم المتحدة، لكن المحكمة الدستورية حسمت الأمر بتأييدها فوز المرشح إيفاريست ندايشيمي.

ولم تخرج أوغندا عما كانت تقوم به، إذ أعادت في 14 يناير (كانون الثاني) 2021 انتخاب يوري موسيفيني، كما أعيد انتخاب أعضاء البرلمان، وسط أحداث عنف ضد المعارضة وزعيمها بوبي واين الذي فاز عليه موسيفيني الحاكم للبلاد منذ عام 1986، بولاية سادسة.

وفي الكونغو الديمقراطية (كونغو كينشاسا) أعلنت المحكمة الدستورية فوز فليكس تشيسكيدى بانتخابات الرئاسة في 20 يناير (كانون الثاني) 2019 رافضة الطعن الذي قدمه زعيم المعارضة مارتن فيولو الذي اتهم تشيسكيدى بعقد صفقة مع الرئيس المنتهية ولايته جوزيف كابيلا. ولم يشفع للمعارضة طلب الاتحاد الأفريقي بتعليق الانتخابات بعد إثارة الشكوك حول تضارب الإحصاءات مع إحصاءات الكنيسة الكاثوليكية في الكونغو التي تحوز ثقة الشعب هناك.

ومع تمتع تنزانيا باستقرارٍ نسبي، إلا أنه يلازمها التضييق على الديمقراطية، إذ ساد تشكيك حول نزاهة الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وعلى الرغم من ذلك أُعلن فوز الرئيس المنتهية ولايته جون ماغوفولي، وبعد وفاته في 17 مارس (آذار) الماضي تولت نائبته سامية حسن صلوحي رئاسة البلاد.

سمة بارزة

يجمع بين هذه الدول الصراعات وخروجها من حروب إثنية وأهلية مدمرة، إلا أن تشبثها بالديمقراطية والتزامها شبه الرسمي بها لم يشفع لها عند معارضة بلدانها التي ظلت تتحدث عن مخالفات واسعة مصاحبة لقيام الانتخابات. إضافة إلى اتهامات باتفاقات سرية بين الحكومة القديمة والجديدة في حال تداول السلطة أو شبهات التزوير عند الرؤساء الذين يجددون ولاياتهم وكذلك تعديل الدستور من أجل أن يضمنوا الترشح لولاية جديدة. وقد رافقت انتخاباتها احتجاجات ضد السلطات القانونية التي تخوِّل لهم تولي فترات رئاسية جديدة، وزيادة المظالم السياسية وتردي الأوضاع الاقتصادية، وكذلك استخدام العنف والقوة المفرطة وفرض قيود على الحقوق خلال فترات الانتخابات وما بعدها. وهناك الحملات المشددة على قادة كيانات المجتمع المدني، وسجن الناشطين واختفائهم. امتدت آثار تلك العمليات إلى قتل المعارضين، وفي أفضل الأحوال تلجأ السلطات إلى استخدام المناورات السياسية بهدف الحيلولة دون فوز مرشحي المعارضة.

هذا التطبيق الشكلي للديمقراطية يحجب أعين المجتمع الدولي عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعات هذه الدول، وهي لا تزال تشكل تحدياً ملموساً للإيفاء بشروط الديمقراطية، كما أن قوة وسيطرة مؤسساتها السياسية ليست دليلاً على قوة الدولة وحكم القانون، إذ إن التجارب في هذه الدول تدل على أن حكوماتها بعيدة من المساءلة، ففي أحداث العنف التي صاحبت الانتخابات ظلت تتهرب من العدالة بصورة واضحة. كما أن هذه الدول فشلت في استخدام الوسائل الدبلوماسية والآليات الإقليمية لحل خلافاتها الحدودية ونزاعاتها الإثنية، إذ وقف الاتحاد الأفريقي عاجزاً إزاء عدد منها مثل النزاع الحدودي بين الكونغو الديمقراطية وزامبيا، وتطبيع العلاقات بين رواندا وأوغندا على خلفية اتهامات متبادلة بزعزعة الاستقرار الداخلي مع التزامهما بذلك.

سيناريو متجدد

تعيد بواعث النزاع سيناريو عدم الاستقرار الإقليمي، الذي مرت به المنطقة في العقد الماضي، إذ لم تفلح العلاقات الدبلوماسية والسياسية الدولية من إشاعة الأمن والسلام الشامل والنهوض بالنشاط الاقتصادي في هذه الدول. وربما لرسوخ أسباب النزاعات المسلحة والإثنية في هذه المنطقة، فإنها ستظل حقلاً لعدد من النُظم أقربها للاستمرار هي النظم الشبيهة بالديمقراطية، إذ إنها تجاوزت مرحلة النُظم العسكرية، كما أنها لا تملك إمكانيات إقامة نظم ديمقراطية كاملة.
وتحتوي منطقة البحيرات على مجموعات كبيرة من المتمردين والمعارضة المسلحة التي تنشط في حالة النظام الديكتاتوري أو في حالة التحول الديمقراطي، ويصعب الاتفاق معهم أو القضاء على أسباب تمردهم بسبب المظالم التاريخية والصراع السياسي. وبالإضافة إلى سهولة اختراق الحدود المنبسطة بين هذه الدول وهي حدود غير مستقرة، ومتداخلة قبلياً، فإنه من وقتٍ لآخر تظهر بوادر توتر جديدة سرعان ما تتحول إلى حركات مسلحة لأسباب مختلفة منها اكتشافات الثروات المعدنية. وهذه المجموعات التي تتمكن من استغلال الثروات تضمن استمراريتها وتكتسب قوة لمساومة الحكومة على السلطة أو الاستمرار في العنف، وعادةً ما تتآلف هذه الحركات مع الدول الجارة المعادية لبلادها كما حدث بين القوات المتمردة الأوغندية والرواندية وضلوع الأخيرة في انتهاكات في الكونغو الديمقراطية مما دعا إلى تدخل الجيش الكونغولي إلى جانب البعثة الأممية في الكونغو الديمقراطية.

ما بعد الحروب

يتضاعف تحدي التعامل مع هذه الجماعات المسلحة بنزع السلاح أو إعادة الدمج في القوات النظامية، أما دمجهم في الأحزاب السياسية فقد خلق مشكلات كثيرة، خصوصاً في فترات الانتخابات، إذ يُنسب العنف المصاحب لها إلى هؤلاء الأفراد الذين يكون دورهم هو فض الاحتجاجات ضد عملية سير الانتخابات والمطالبة بإعادة التصويت. ونسبة لهشاشة النُظم حديثة الديمقراطية وتأخر إيفائها باستحقاقات التحول الديمقراطي، تنظر مجتمعات هذه الدول إلى أنه بمجرد الانتقال إلى حكومة مدنية، فمعنى ذلك رفاهية الشعب وإشاعة الحقوق، وهذا لن يحدث في ظل السيطرة على الموارد سواء من قِبل النُظم الحاكمة أو المجموعات المسلحة، وهذا من شأنه إضعاف سيطرة الدولة.

كما تعمل عائدات الموارد على تمكينهم سياسياً وإعاقة المنافسين الذين لم يستطيعوا الوصول إلى هذه الموارد وعائداتها، ويكون عليهم تحمل تكاليف الوصول إلى الناخبين وإدارة عمليات ترشيحهم. كما أن هناك احتمالاً بانفجار بؤر صراع متجددة محيطة بهذه المنطقة، وقضايا أخرى مثل الإرهاب في وسط وغرب أفريقيا وأزمة سد النهضة وصراع التيغراي وغيرها من الأزمات.

لم تحصل هذه الدول على ما تطمح إليه بأن تكون "دول ما بعد الحروب الإثنية"، فبعد عقود من مواجهة بعضها ومواجهة مجتمعاتها بالعنف الداخلي، أصبحت النظم الشبيهة بالديمقراطية نسخةً أخرى من نظمها السلطوية السابقة. وما استجد هو التنافس على هذه السمعة الدولية من دون تطبيق حقيقي للديمقراطية. وبدلاً من فوضى المجازر العلنية، أصبح الخطر ممنهجاً يرتبط بفترات الانتخابات ثم يكمن لفترة محدثاً تدهوراً أمنياً يدفع ثمنه المواطنون، إزاء الصمت حيال هذه النُظم التي أخذت تفويضاً من المجتمع الدولي بممارسة الحكم. وهنا تكون الانتهاكات والتمييز وهضم الحقوق غير مرئية وتنخر في جسد مجتمعاتها إلى أن تنفجر مثلما حدث في إثيوبيا، فقد اطمأن العالم لسلوك آبي أحمد الديمقراطي ونال جائزة نوبل للسلام عام 2019 بعد توقيع اتفاقية السلام مع إريتريا لإنهاء حرب دامت عقدين من الزمان، كما تقبل المجتمع الدولي تفاديه إقامة الانتخابات بحجة تفشي كورونا، ولكن ما لبثت أن انفجرت الأوضاع في التيغراي لهذه الأسباب. وما يحدث الآن من اطمئنان عالمي لديمقراطية منطقة البحيرات ليس ببعيد من ذلك.
منى عبد الفتاح