بعد أن تصدَّت الطائرات الروسيّة، الأسبوع الماضي، للمدمرة البريطانية "Defender"، عندما اخترقت المياه الإقليمية لروسيا، وهو ما كاد يؤدّي إلى أزمة جدّية بين موسكو ولندن المدعومة من واشنطن، تعرَّضت مدمّرة هولندية هذه المرة للمعاملة نفسها، وهي جزء من المناورات الأطلسية في البحر الأسود.
يشارك في هذه المناورات، وهي الأكبر منذ العام 1997، أكثر من 5 آلاف عسكري و40 سفينة وعدد مماثل من السفن المزودة بأحدث الأسلحة. وتساهم في هذه المناورات التي سُميت "نسيم البحر" 32 دولة أطلسية وغربية، تُضاف إليها مصر والإمارات و"إسرائيل" والمغرب وباكستان وتونس، في محاولةٍ جديدة من واشنطن وحليفاتها لاستفزاز روسيا في عقر دارها.
ترى موسكو في هذه المناورات استفزازاً مباشراً لها، باعتبار أنَّ البحر الأسود قضيّة موت أو حياة بالنسبة إلى روسيا، التي لم تتأخّر في استعادة شبه جزيرة القرم في العام 2014، بعد الأحداث التي تعيشها أوكرانيا منذ ما يُسمى بـ"الثورة البرتقالية" (2004)، التي لا فرق بينها وبين ثورات ما يسمى بـ"الربيع العربي". كما لم تتأخّر موسكو في السيطرة على منطقة أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا (2008)، عندما حاولت جورجيا، وبتحريض أميركي وإسرائيلي، استفزازها بعد ما سُمي بـ"ثورة الورود" في العام 2003.
تكتسب هاتان الدّولتان الآن أهمية إضافية بالنسبة إلى روسيا، لأن واشنطن تسعى لضمهما إلى الحلف الأطلسي، ليساعدها ذلك في تحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية، باعتبار أنَّ تركيا (1700 كم) ورومانيا (256 كم) وبلغاريا (414 كم) أعضاء في الحلف الَّذي سيطلّ حينها على البحر المذكور بحوالى 4 آلاف كم، بعد ضمّ أوكرانيا (700 كم) وجورجيا التي تطلّ على الأسود بحوالى 320 كم.
تتحدَّث المعلومات منذ فترة عن مساعي واشنطن لإنشاء قاعدة بحرية قرب ميناء كونستنتا الرومانية، مع مساعٍ أميركية لإبعاد مولدافيا المجاورة لرومانيا عن روسيا، ومساعٍ أخرى لخلق المشاكل لروسيا البيضاء؛ حليفة موسكو.
والأهمّ من كلّ ذلك أنَّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هو العامل الأكثر تأثيراً في مجمل هذه الحسابات الأميركية، باعتبار أن تركيا تشرف على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر الأسود ببحر مرمرة، ومنها إلى بحر إيجة، ثم المياه الدافئة في الأبيض المتوسط. وكانت هذه المضائق سبباً رئيسياً لـ16 حرباً من الحروب الضارية بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية للفترة 1568-1917، والتي انتصرت روسيا في 13 منها.
قد تكون هذه الذكريات سبباً لسياسات الرئيس إردوغان التي تستهدف روسيا، رغم علاقته "الودّية" مع الرئيس بوتين، فقد طوَّرت أنقرة، وما زالت، علاقات استراتيجية، وخصوصاً في المجال العسكري والاستخباراتي، مع كل من أوكرانيا وجورجيا ولتوانيا وألبانيا وأذربيجان، وقريباً مع دول أخرى لها ذكريات سيّئة مع روسيا.
لم تخفِ موسكو عدم ارتياحها وقلقها من سياسات تركيا التي تصفها بـ"الاستفزازية"، والتي دفعت وزير الخارجية لافروف إلى زيارة أنقرة فجأة الأربعاء 30 حزيران/يونيو، بعد أن وضع الرئيس إردوغان الحجر الأساس لأول جسر في مشروع قناة إسطنبول التي ستربط البحر الأسود ببحر مرمرة.
وكان 104 أميرال متقاعد أصدروا في 4 نيسان/أبريل الماضي بياناً اعترضوا فيه على القناة، وقالوا عنها إنها استفزاز لروسيا، وهو ما سيشكّل خطراً على الحسابات والمصالح الاستراتيجية لتركيا في البحر الأسود. واعتبر الأميرالات القناة محاولة للالتفاف على اتفاقية "مونترو" للعام 1936، التي وضعت شروطاً محدودة لمرور السّفن الحربية التابعة لدول لا تطلّ على البحر الأسود، بدخول البحر من المضائق التركية والبقاء فيه أكثر من 20 يوماً.
لم يتأخّر الرئيس إردوغان آنذاك في الرد على بيان الأميرالات، وقال إنَّه سينفّذ المشروع، مهما اعترضت عليه المعارضة، فأمرت النيابة العامة باعتقال بعض الأميرالات، وفتحت المحكمة تحقيقاً شاملاً بحقّ الجميع، وما زالت محاكمتهم مستمرة.
ولم يمنع الموقف الروسي واعتراض المعارضة الرئيس إردوغان من مساعيه لإحياء وتفعيل علاقات التحالف التقليدية مع واشنطن خلال لقائه الرئيس بايدن في 14 حزيران/يونيو في بروكسل خلال القمة الأطلسية. وقد تحدّثت المعلومات آنذاك عن اتفاق تركي- أميركي جديد وشامل للعمل المشترك في جميع الساحات التي تزعج موسكو، بدليل أنَّ بايدن لم يقل أيّ شيء في موضوع "أس-400" التي قيل إنّها السبب الرئيسي في الغضب الأميركي على أنقرة.
ورشّحت المعلومات آنذاك سوريا وليبيا والعراق والصومال وشرق الأبيض المتوسط لأن تكون ساحات عمل مشتركة بين أنقرة وواشنطن، بهدف إعادة تركيا إلى الحضن الأطلسي. ويفسر ذلك الموقف الفرنسي والألماني بعد القمة الأوروبية الأسبوع الماضي، إذ نسي ماكرون أو تناسى كل ما قاله عن إردوغان، وأكد ومعه المستشارة ميركل "ضرورة التنسيق والتعاون مع تركيا".
ويبدو واضحاً أن سياسات الرئيس إردوغان ستستمر في آسيا الوسطى، وفيها الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي والقوقاز، حيث يسعى لإقامة قواعد عسكرية في أذربيجان المجاورة لجورجيا وأرمينيا، وإلى بيع طائراته المسيرة لأوكرانيا وبولندا، وقريباً لجورجيا وألبانيا وليتوانيا، "للدفاع عن نفسها ضد روسيا"... ويبدو أن هذا المسار سيستمر، مهما كان رد الفعل الروسي، فالجميع يعرف أن إردوغان، مع استمرار مناوراته التكتيكية على الجبهتين الروسية والأميركية معاً، لن يتراجع عن نهجه هذا، كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا والصومال وباقي دول المنطقة التي يتحرك فيها بأشكال مختلفة.
لا شكّ في أنَّ ذلك يزعج موسكو، ولكن من دون أن تفكّر، على الأقل حتى الآن، في الرد على هذا الموقف التركي، لأنَّها لا تريد أن تفتح المزيد من الجبهات مع أعدائها في الغرب. كما لا تريد أن تدفع تركيا من جديد إلى الحضن الأميركي، وهو ما قد يدفع إردوغان إلى مزيدٍ من التحركات المعادية لروسيا، كما فعل رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندرس للفترة 1950-1960، إذ سمح لأميركا ببناء العشرات من القواعد البحرية والجوية والبرية على الأراضي التركية، وزرع مليون لغم أرضي على الحدود مع سوريا، وتصدّى للوحدة بين مصر وسوريا والمد القومي الناصري المدعوم من الاتحاد السوفياتي، وكأن التاريخ يكرر نفسه في سوريا من جديد.
يفسّر ذلك سياسات الرئيس إردوغان منذ بداية الأحداث فيها في العام 2011 وحتى الآن، بعد أن بات واضحاً أنه لا يفكّر في الانسحاب منها. كما سيستمرّ في دعم الإسلاميين، السياسيين والمسلحين، بكلّ نماذجهم وأشكالهم، بما فيهم "النصرة" في إدلب، التي لا يسمح إردوغان للجيش السوري والروسي بالاقتراب منها.
وجاء قرار موسكو بإرسال أحدث طائراتها وصواريخها وغواصاتها إلى الشواطئ السورية لتشارك في مناورات بدأتها الجمعة الماضية كردّ على كلّ الاستفزازات الأطلسية في البحرين الأسود والأبيض المتوسط، حيث تتواجد قطع حربية بريطانية قرب جزيرة قبرص، وفيها قاعدتان بريطانيتان استراتيجيتان.
كما يتواجد الجيش التركي في الجزيرة منذ العام 1974، إذ أقامت أنقرة العام الماضي قاعدة جديدة لطائراتها المسيّرة التي تتجوّل بكثافة في المنطقة التي تبعد عدة دقائق عن طرطوس واللاذقية، حيث القواعد الروسيّة. كما يوجد مرفأ تقوم شركة إسرائيلية باستثماره في الشطر الشمالي التركي للجزيرة القريبة من لبنان وسوريا.
وفي جميع الحالات، ومهما كان حجم التطوّرات المحتملة في العلاقة بين موسكو وواشنطن وشكلها، فقد بات واضحاً من جديد أن إردوغان سيبقى العنصر الأهم الذي سيؤثر في سير هذه التطورات، من دون أن يكون واضحاً إذا كان الروس وعوا مخططاته العقائدية والتاريخية والاستراتيجية ومشاريعه، والتي بات واضحاً أنّه لن يتراجع عنها إلا إذا اتفقت روسيا وأميركا على إجباره على ذلك، وهو أمر يعرف إردوغان أنَّه من المستحيلات، ليعني كلّ ذلك أنه لم يعد بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي، بل أصبح مطرقة تزعج صديقه بوتين، ولو بصوت ضرباته في العديد من حدائق روسيا الخلفية، التي تمتدّ من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود عبر البوسفور والدردنيل، ومنها إلى البلطيق ثم البحر الأحمر، عبر التواجد في الصومال وقبالة اليمن قرب باب المندب