الأحد 24 تشرين الثاني 2024

"متلازمة هافانا" أو الطاقة الموجهة سلاح الرعب المقبل

هل بات العالم على موعد مع سلاح فتاك جديد، قاتل غير مرئي، قادر على إحداث خسائر رهيبة في الجنس البشري بنوع خاص، ويغني عن استخدام الترسانات العسكرية التقليدية، وربما لاحقاً يجعل من الأسلحة النووية غير ذات جدوى؟

الحقيقة المؤكدة هي أن علماء الفيزياء، ومنذ خمسة عقود خلت، يسابقون الرياح في طريقهم لابتكار أنظمة طاقة يمكن استخدامها في مجالات العمل العسكري، تكون على درجة من القوة كما نظيرتها  الكلاسيكية في الجيوش العالمية.

من هنا جاء الحديث عن أسلحة تستخدم الطاقة، وتقوم على توجيهها  لتحقيق أهدافها، والتي تسهم في إذكاء نيران الحروب المباشرة، ناهيك عن العمليات غير المباشرة التي تستخدم فيها تلك الطاقة للتأثير على الأعداء.

ما الداعي لفتح هذا الملف، وما قصة الطاقة الموجهة، أحدث أدوات الصراع العالمي الهامس، والبعيدة كل البعد عن جلبة وصخب صليل السيوف أو نيران المدافع؟

هجوم على البيت الأبيض 

قبل بضعة أيام، نقلت وكالات الأنباء أخباراً عن قيام السلطات الاتحادية الأميركية بالتحقيق في واقعتين على الأقل، تضمنتا هجومين بـ"الطاقة الموجهة"، على الأراضي الأميركية، واحد منها قرب البيت الأبيض في واشنطن، جرت به المقادير في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

الخبر المثير دعا مجلة "بوليتيكو" الشهيرة إلى أن تفتح نقاشاً واسعاً  حول الحدث، لا سيما أنه ليس الأول من نوعه، ذلك أنه منذ عام 2016، تعرض نحو 50 أميركياً لموجة غامضة من الهجوم، عرف باسم "متلازمة هافانا"، ذلك أن أول من تعرض لتلك الهجمات كان أعضاء السفارة الأميركية في كوبا.

لاحقاً، استهدف هجوم مماثل عشرات الجنود الأميركيين في سوريا، الأمر الذي دعا إلى أن تقوم وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، بفتح تحقيق مباشر، كما تم مناقشة التطورات لخطورتها أمام مشرعين أميركيين في لجنتي القوات المسلحة بمجلسي الشيوخ والنواب.

ما الذي يحدث للذين يتعرضون لمتلازمة هافانا؟

بداية تظهر على الذين تعرضوا لتلك الطاقة أعراض شبيهة بالأنفلونزا، وتشمل طنيناً حاداً وضغطاً في الأذنين، وكذلك فقداناً للسمع والتوازن، والتعب والصداع الحاد، فيما عانى البعض من تلف طويل الأمد في الدماغ.

ما سلاح الطاقة الموجهة بداية؟

من دون الإغراق في التحليلات العلمية، تشير غالبية موسوعات المعرفة، إلى أن سلاح الطاقة الموجهة (Directed-energy weapon) هو نوع من الأسلحة يقوم بتوجيه الطاقة نحو اتجاه معين من دون وجود قذيفة، لتحقيق التأثير المرغوب فيه.

وبحسب التعريف الموسع، يمكن تصنيف أسلحة الطاقة الموجهة تبعاً لنوع الطاقة المستخدم: الصوت والأشعة والضوء والجزيئات والبلازما. وتتراوح التأثيرات المرجوة على الهدف ما بين التدمير المادي والتداخل مع المجسات والتوجيه والارتباك وتعطيل الآلات وإعاقة الأشخاص.

ظهرت فكرة الطاقة الموجهة أول الأمر في أفلام الخيال العلمي، وها هي الآن تكاد تكون واقعاً معاشاً. والمثير أن الألمان هم أول من عرفوا طريق ذلك النوع من أنواع الطاقة، وعملوا عليه خلال العام الأخير من الحرب العالمية الثانية، بعد ما صمموا أسلحة لتعمية وتشتيت أو التداخل مع العين البشرية، أو المجسات الإلكترونية، ولم يقدر لهم المضي قدماً في تطوير تلك الطاقة لهزيمتهم، إلا أن ذلك لا ينفي أن آخرين قد بدأوا من حيث انتهوا هم.

أميركا وحيازة أسلحة الطاقة الموجهة

حكماً وضمن كثير من البرامج العسكرية الألمانية، ما ظهر منها وما خفي، ورث الأميركيون مجال أسلحة الطاقة الموجهة، والتي هي بحسب تعريف وزارة الدفاع الأميركية، عبارة عن مظلة تشمل تقنيات وأدوات تنتج شعاعاً من الطاقة الكهرومغناطيسية المركزة، أو الجسيمات الذرية أو دون الذرية.

فيما يعرف موقع تابع للبحرية الأميركية الطاقة الموجهة على أنها أنظمة كهرومغناطيسية، قادرة على تحويل الطاقة الكيماوية أو الكهربائية إلى طاقة مشعة، وتركيزها على الهدف، ما يؤدي إلى  إحداث ضرر مادي ينتج عنه تدهور أو تحييد أو هزيمة أو تدمير قوة العدو.

هل من علاقة خاصة بين شركة "لوكهيد مارتن" للصناعات العسكرية والواقعة في ولاية ماريلاند الأميركية، وأسلحة الطاقة الموجهة؟

في غالب الأمر، نعم. فعلى مدى 40 عاماً عملت الشركة على  تطوير جوانب مختلفة من تقنيات الطاقة الموجهة، تقول إنها تشتمل على أنواع تعمل باستخدام ترددات الراديو، وأخرى تعمل باستخدام أشعة الليزر، وتتميز بسرعتها ومرونتها ودقتها وانخفاض تكلفتها.

وتصف "لوكهيد مارتن" سلاح الطاقة الموجهة بأنه "غير مرئي"،  ويساعد في خوض "اشتباكات مفاجئة"، جواً وبراً وبحراً.

وتمتلك الولايات المتحدة مجموعة مختلفة من أسلحة الطاقة الموجهة، أهمها مركبة يطلق عليها "HEL MD" والتي تطلق أشعة طاقة بقوة 50 كيلوواط، وبإمكانها تدمير قذائف هاون ومسيرات عادية  ومروحية.

دول أخرى تمتلك أسلحة الطاقة الموجهة 

هل هناك من يستخدم هذه الأسلحة اليوم ضد الأميركيين أنفسهم؟

لم تعد هناك دائرة أسرار عسكرية سرية حول العالم، فما سيتم الكشف عنه أو اختراعه هنا، سوف يماط اللثام عنه هناك من دون أدنى شك، وهذا ما جعل أسلحة الطاقة الموجهة تنتشر فوق سطح الكرة الأرضية.

هل روسيا، بعيدة عن حيازة تلك الأسلحة؟

يقتضي الحديث عن علاقة الروس بذلك النوع من أنواع الأسلحة جزئية خاصة في القراءة، مع الإشارة إلى أن الصين القطب المقبل غير بعيد عن تلك الدائرة الجهنمية من الأسلحة المستحدثة، ذلك أنها تمتلك مدافع طاقة موجهة مثبتة على عربات، بإمكانها إحداث إصابات لدى الأشخاص على الجلد وأنسجة الجسم، ويمكنها أيضاً إسقاط مسيرة صغيرة في الجو أو إضرام النار في ملابس الجنود، والعهدة هنا على الراوي، موقع "ديفنس نيوز".

بدورها، الهند لم تكن بعيدة عن السعي إلى حيازة أسلحة طاقة موجهة، فوفقاً لما أعلنته في أواخر عام 2020، من المفترض أن يركب السلاح على عربات، ومهمته إحداث ضرر في أجهزة اتصالات العدو والتشويش على راداراته.

ولأن أستراليا هي أقرب موقع وموضع ممكن للمواجهة مع الصين، لهذا رأيناها تسعى جاهدة للعمل على تطوير سلاح لإسقاط مسيرات الخصم بأشعة طاقة موجهة تبلغ قوتها نحو 26 كيلوواط، ويتوقع أن يدخل السلاح الخدمة في وقت لاحق من هذا العام.

روسيا وثورة طاقة موجهة عسكرية 

من الطبيعي جداً لدولة مثل روسيا، والمعروفة بقدرات علمائها الفائقة في مجال الفيزياء، أن تكون في مقدمة صفوف من يمتلكون أسلحة في هذا المجال.

قبل خمس سنوات تقريباً، أعلن المتحدث الرسمي باسم "المؤسسة الموحدة للأجهزة الدقيقة"، قيامها بتصنيع سلاح إلكتروني حديث قائم على مبادئ فيزيائية جديدة لتدمير آليات العدو، ومن بينها الأسلحة الذكية فائقة الدقة، من دون استخدام قذائف كلاسيكية.

السلاح الإلكتروني الروسي الجديد والمثير، تم الكشف عنه لأول مرة في المعرض السري التابع لوزارة الدفاع، والذي أقيم في سبتمبر (أيلول) على هامش منتدى "الجيش 2016" العسكري التقني في ضواحي موسكو.

ما خصائص ومواصفات هذا السلاح؟

مما نشر عنه يمكن القول، إنه سلاح خطير قادر على إبطال فعل آليات العدو من دون اللجوء إلى استخدام مقذوفات كلاسيكية، وذلك باستخدام الطاقة الموجهة، ويعني ذلك أن السلاح يؤثر تأثيراً فيزيائياً غير مباشر على أجهزة الطائرات، والطائرات بلا طيار، ويبطل عمل الأسلحة الذكية فائقة الدقة.

الكرملين في موضع شك الأميركيين    

منذ عام 2016، أي وقت التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بحسب الادعاء الأميركي، وهناك حرب خفية دائرة في كواليس موسكو – واشنطن والعكس، ومنها من غير أدنى شك، استخدام أسلحة الطاقة الموجهة.

يقول الأميركيون، إن الشكوك كانت دائماً تحلق من حول الكرملين، لا سيما بالنظر إلى تاريخ روسيا في استخدام الموجات الدقيقة ضد المسؤولين الأميركيين ومصلحتها في إبقاء العلاقات الأميركية مع الصين وكوبا في حالة من الفتور.

ولعل المتابع لتصريحات أميركية متعددة، سواء من قبل وزارة الدفاع أو الخارجية، أو تلك الصادرة عن الأجهزة الاستخبارية المختلفة،  يدرك أن لدى الأميركيين هاجساً يتمثل في ملاحقة موسكو لأعدائها في الغرب، ومن بين ما نقول به التقارير التي روجت في الأعوام الماضية عن عرض الروس على مقاتلي طالبان مكافآت مجزية لقتل جنود أميركيين في أفغانستان، على الرغم من نفي وزارة الخارجية الروسية لهذا الأمر.

هل خلص الأميركيون إلى أن الروس هم من يقفون وراء تعرضهم لأسلحة الطاقة الموجهة؟

في تقرير نشرته مجلة "GQ" الأميركية، نجد حديثاً عن تحقيق أجرته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يشير إلى أن ثمة مؤشرات تثبت تورط روسيا في هذا الأمر، لا سيما تعقب الهواتف النقالة، حيث رصد أكثر من مرة وجود أفراد يعملون لحساب جهاز الأمن الروسي في المكان والزمان نفسيهما اللذين وجد فيهما مسؤولون أميركيون عانوا من الأعراض المرضية السابق الإشارة إليها، وإن كانت صحيفة "نيويورك تايمز" تقول إن مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى يرغبون في رؤية المزيد من الأدلة قبل توجيه أصابع الاتهام إلى موسكو بشكل واضح وصريح.

الروس بين سوريا ومتلازمة هافانا 

في تقرير مجلة "بوليتيكو" المثير والأخير، نقرأ عن وجه آخر من أوجه الصراع على مربعات النفوذ في سوريا، ذلك القائم بين الروس والأميركيين بنوع خاص.

المجلة تكشف عن تقارير استخبارية سابقة تدعي تعرض العشرات من الجنود الأميركيين هناك إلى اعتداء بنوع من أسلحة الطاقة الموجهة بمدافع الطاقة الروسية المصنعة سراً.

"بوليتيكو" تنقل كذلك عن مسؤولين أميركيين في وكالة الأمن القومي قولهم، إن أعراضاً تشبه أعراض الإصابة بالإنفلونزا ظهرت على عدد من أفراد القوات الأميركية المتمركزة في سوريا في خريف عام 2020، وعزا المسؤولون الأعراض إلى حزم طاقة موجهة لهم من قبل عملاء روس.

ما جرى في سوريا سبقه حدث مشابه جرت به المقادير في كوبا عام 2016، وقبل أن ترتفع في سماوات الأحداث حادثة البيت الأبيض الأخيرة، والتي لا يزال الغموض مخيماً عليها، سواء كان غموضاً طبيعياً أو مقصوداً، والاحتمال الأخير غالباً هو الأرجح.

ففي عام 2016، تعرض جنود أميركيون وموظفون تابعون لوزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية في كوبا إلى اعتداءات مماثلة بالطاقة الموجهة، وذلك بعد ما جرت فحوص طبية على عدد منهم، بعضهم أصيب بشكل بالغ في الدماغ مباشرة.

التقرير أيضاً يلفت إلى أن الأعراض المرضية الظاهرة سواء على  جنود أميركيين في سوريا، أو نظرائهم في كوبا، تنوعت بين فقدان السمع والذاكرة والصداع والغثيان، وربطت ذلك بتقرير طبي صادر عن الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب، جميعها تشير إلى أن هذه الأعراض تتوافق مع تأثيرات طاقة الترددات الراديوية النبضية الموجهة، أي هجوم الميكرويف، العبارة المكافئة لقوة وفاعلية الطاقة الموجهة.

ولأن الأميركيين يعرفون جيداً أن الاتحاد السوفياتي كان قد أجرى أبحاثاً في تأثيرات طاقة الترددات الراديوية النبضية، أي الطاقة الموجهة، قبل 50 عاماً، لذا فقد كان الكرملين عند أجهزة الأمن القومي الأميركية، هو المسؤول مسؤولية كاملة عما حصل، أخيراً، وما يمكن أن يستجد من هجومات، وإن كان الموقف الرسمي الأميركي فيه شيء من الغرابة... فماذا عن ذلك؟

هل يتكتم البنتاغون أم ينكر الهجمات؟

تبدو الأخبار في واشنطن متضاربة، ففي حين يقر البعض بأن الهجمات بالطاقة الموجهة قد حدثت بالفعل في سوريا، نجد فريقاً آخر من داخل وزارة الدفاع الأميركية ينفي.

في الأسبوع الثالث من أبريل (نيسان) الماضي، كان قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال كينيث ماكنزي يؤكد أنه لا يوجد حتى اللحظة أي دليل على حصول هجمات بـ"الطاقة الموجهة"، ضد الجنود الأميركيين في المنطقة.

تصريحات الجنرال ماكنزي، جاءت خلال جلسة استماع في الكونغرس، بحسب قناة "الحرة" الأميركية.

غير أن الأكثر إثارة في موقف الجنرال الأميركي رفيع المستوى، هو رغبته التي أبداها في الحديث عن هذا الأمر في جلسة مغلقة، وذلك بحسب طلبه الذي توجه به إلى عضو اللجنة، السيناتور الديمقراطي، ريتشارد بلومنتال... فما الذي يخشاه الرجل إذن؟

الثابت أنه في مثل هذه الأوقات، وحيث يخيم الضباب الأحمر فوق أميركا، يمكن لجماعة المحللين السياسيين، المحققين المدققين في شأن الصراع الروسي – الأميركي، والذي لم يتوقف، ولن يتوقف يوماً، أن يعمدوا إلى القدرة على التحليل، وبخاصة بالقياس على عمليات سابقة ومواجهات ساخنة وباردة.

هنا يمكن أن يكون العالم على عتبات مواجهة تغير شكل ومضمون الصراع حول العالم، وتنقل الحرب الكونية إلى مستويات مختلفة، فمن يستطع الوصول إلى أدمغة المسؤولين على أي جانب، يمكنه أن يشكل قراراتهم وتوجهاتهم، ما يعني أننا بلغنا معركة المواجهات العقلية.

ولعل طلب الجنرال ماكنزي الحديث في جلسة مغلقة، يؤكد أن واشنطن لديها في جعبتها الكثير الذي لا تريد الكشف عنه، وربما ردود الفعل المقبلة عليها، والتي تحتاج إلى أطر من السرية لتكون أكثر فاعلية.

على أن علامة الاستفهام الأخيرة هي: هل سيغير حادث البيت الأبيض الأخير موقف البنتاغون، ومجمع الاستخبارات الأميركية من حالة الغموض التي تحيط بالمشهد، بالضبط نفس الحالة التي خيمت ولا تزال على واشنطن بعد الهجوم السيبراني الذي تعرضت له العاصمة الأميركية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي؟

شيء ما يجري بسرية مخيفة ما بين واشنطن وموسكو، فقبل حادث الطاقة الموجهة نحو البيت الأبيض ببضعة أيام، اعترفت شرطة العاصمة واشنطن بأن اختراقاً سيبرانياً كبيراً جداً تعرضت له من قبل قراصنة مجهولين، استطاعوا الحصول على بيانات هائلة عن شبكة الشرطة والمتعاملين معها وأهدافها وحلفائها والكثير الكثير جداً مما يمكن أن يضر بالأمن الداخلي لواشنطن.

هل سيقوم الإعلام الأميركي بإماطة اللثام عما يجري هناك، أم أن اعتبارات أمن قومي فائقة السرية سوف تقف عائقاً في الطريق؟
غداً لناظره قريب.
اميل امين