السبت 23 تشرين الثاني 2024

ما وراء عجز أميركا عن تأسيس جيوش حليفة؟

النهار الاخباريه وكالات 

وصلت الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة في سبيل تعزيز ودعم القوات الأمنية الأفغانية إلى نهاية مخزية. كرست المؤسسة العسكرية الأميركية 20 عاماً، وأنفقت 83 مليار دولار في بناء قوة تبخرت في غضون أسابيع فقط، وسلمت البلاد في تلك الفترة إلى حركة "طالبان" من دون قتال يذكر تقريباً.
ولا يعد الانهيار السريع للقوات الأمنية الأفغانية حالة شاذة عن المألوف، بل هو أقرب إلى الوضع الاعتيادي بالنسبة للقوات الأمنية المحلية التي تتشكل بدعم عسكري من الولايات المتحدة. فقد فشلت أهم ثلاث محاولات قامت بها الولايات المتحدة من أجل بناء جيوش حليفة - في فيتنام وفي العراق، والآن في أفغانستان - فشلاً ذريعاً. ومن المنطقي إذاً أن تعيد صور كابول التذكير بأحداث سايغون في عام 1975 والموصل في عام 2014.
وتشكل العمليات التي يسميها الجيش "دعم القوات الأمنية" و"بناء قدرات الشركاء" أو "عمليات التدريب والتجهيز" مدماكاً أساسياً في الاستراتيجية الدفاعية الأميركية. ولو وضعنا أفغانستان والعراق جانباً بالكامل، تنفق الولايات المتحدة مليارات الدولارات سنوياً، وتنشر آلاف العناصر في سبيل تدريب ودعم القوات العسكرية الأجنبية التابعة لدول من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من اختلاف الدوافع وراء هذه المساعدات، يبقى الهدف الأساسي منها زيادة قدرات القوات العسكرية الشريكة لتصبح قادرةً على النهوض بالأعباء الأمنية المحلية، لكي تستطيع الولايات المتحدة تحويل مواردها الخاصة باتجاه أولويات أهم.
ولكن المشكلة تكمن في أن شركاء الولايات المتحدة لا يكترثون في أغلب الأحيان ببناء قوات عسكرية لديها قدرات قتالية فعلية. وكما أوضحت الأستاذة في جامعة جورج تاون، كايتلين تالمادج، على الزعماء السياسيين والعسكريين أن يعززوا ترقية الضباط من أصحاب الكفاءات، ويؤسسوا تراتبية قيادية، ويشجعوا على التدريب الجدي، ويقمعوا الفساد في سبيل بناء قوة فعالة. إنما في الدول الضعيفة، أو الفاشلة، حيث تركز واشنطن مساعداتها الأمنية، غالباً ما يعطي الزعماء الأولوية لاستمراريتهم الشخصية والسياسية بدل تعزيز القدرات العسكرية لقوات بلادهم. ويصبو هؤلاء الزعماء في أكثر الأوقات إلى استغلال جيشهم كمصدر للمحاباة والمحسوبية أو كسلاح يشهرونه ضد خصومهم السياسيين المحليين. وقد يرحبون بالهبة العسكرية الأميركية، لكنهم يخشون أن يهدد بناء قوة محترفة نفوذهم الشخصي. ويتجاهلون بالتالي مناشدات المستشارين العسكريين الأميركيين ويطبقون سياسات تبقي جيوشهم ضعيفة.
وتجلت هذه التحديات في أوضح صورها في أفغانستان. وطوال مدة المهمة الاستشارية الأميركية، أثبت الضباط الأفغان أنهم غير مهتمين بالقتال لصالح الحكومة الفاسدة في كابول بقدر اهتمامهم بزيادة ثروتهم الشخصية، وسحب الدولارات الأميركية لتوزيعها على شبكات المحسوبية من خلال عملية منح العقود، وابتزاز الشعب الأفغاني في كل تعاملاتهم معه. أما الجنود الذين أدركوا تماماً فساد ضباطهم، فلم يكونوا مهتمين كثيراً بالمخاطرة بحياتهم تحت حكمهم. لا عجب إذاً في أن الوحدات الأفغانية كانت غير منضبطة وضعيفة من ناحية التخطيط قبل انسحاب الولايات المتحدة بكثير - وأنه مع الانسحاب الأميركي، قرر الكثير منهم أن يشرعوا الأبواب أمام حركة "طالبان".  

في أفغانستان كما في المهمات الاستشارية حول العالم، تعتمد الولايات المتحدة على استراتيجيات غير ناجحة في تحفيز شركائها. فالجيش الأميركي يعطي الأولوية لبناء العلاقات مع الجيوش الأجنبية على فرض أي نوع من الشروط على مساعدته الأمنية، والمسؤولون المدنيون في واشنطن يرضخون لهذه المقاربة. ثم يصدر الجيش الأميركي تقارير وردية للشعب الأميركي عن التقدم الذي أحرزه شريكه المحلي، تتواصل إلى أن يحل اليوم المشؤوم حين يطلب من القوة أن تعمل بمفردها. ثم يحدث ما حدث في سايغون، والموصل. والآن كابول.
لا أحد مقتنع
يتحمل الجيش الأميركي مسؤولة تصميم وتنفيذ برامج الدعم الأمني الأميركي بالكامل تقريباً. وغالباً ما تحيل الفروع الأخرى في الحكومة الأميركية مسؤولية القرارات في هذا الشأن إليه: ففي النهاية، ما الذي قد يقع ضمن نطاق صلاحياته أكثر من بناء جيوش أخرى؟ وعملياً، الجيش الأميركي هو من يتعامل مع القادة السياسيين والعسكريين المحليين في شأن القضايا المرتبطة بتطوير قواتهم الأمنية، كما أن الجيش الأميركي هو من يضع الاستراتيجيات اللازمة لمعالجة مشاكل تحفيز الشركاء.
تمنع العقيدة التي تسترشد بها البعثات الاستشارية العسكرية الأميركية المستشارين من استخدام نهج الترغيب والترهيب لإقناع القادة المحليين بإرساء ممارسات ومعايير تستند إلى مبدأ الجدارة، واتباع تراتبية قيادية والتدريب بصرامة وكبح الفساد. ويثني أحد كتيبات الإرشادات في الجيش الأميركي المستشارين بصراحة مثلاً عن استخدام "الرشوة أو الإكراه، لأن النتائج التي تسفر عنها هذه الخطوات مؤقتة". وعوضاً عن ذلك، ترسم العقيدة والتدريب استراتيجية قائمة على الإقناع الذي يستند إلى العلاقات الشخصية. ويتدرب المستشارون العسكريون الأميركيون على إعطاء الأولوية لعلاقاتهم مع نظرائهم، نظراً لأن "الثقة تحدد مدى نجاح المستشار في التأثير على القوة الأمنية الأجنبية".
ويتبنى عديد من المستشارين العسكريين الأميركيين الرأي القائل إن العلاقات الشخصية مع الشركاء - التي كانت في يوم من الأيام أداة يعتقد أنها تضاعف النفوذ وتؤثر على سلوك الشركاء - هي الهدف الأساسي من العمل الاستشاري. وحين يفشل أسلوب الإقناع، يلزم المستشارون بتفادي الإقدام على أي خطوات من شأنها تهديد العلاقة.
استمرت استراتيجية الإقناع المستند إلى العلاقات الودية على الرغم من أن الولايات المتحدة قادرة تماماً على استخدام الحوافز من أجل التأثير على شركائها في القوات الأمنية. فغالباً ما يعتمد زعماء الدول المستفيدة بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة من أجل توفير الأمن لنظامهم، وفي حالات كثيرة، من أجل ضمان أمنهم الجسدي الشخصي - وهم يدركون هذا. أعرب الرئيس الفيتنامي الجنوبي نغو دينه ديم كما رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وهما زعيمان استفاد بلداهما من برامج مساعدات عسكرية أميركية ضخمة، عن مخاوفهما من أن الولايات المتحدة على وشك خلعهما من منصبيهما (وكان قلقهما في محله: فقد اغتيل ديم في عام 1963 في انقلاب أعطت إدارة كينيدي موافقتها السرية عليه، فيما استقال المالكي في عام 2014 بعد خسارته دعم إدارة أوباما). وإن كان الخوف من احتمال أن تخرجهم واشنطن من مواقع السلطة في أي لحظة لا يعطي واشنطن سلطة على طاولة المفاوضات، فمن الصعب أن نتخيل ما الذي قد يعطيها مثل هذا النفوذ.
البيروقراطية تأخذ مجراها
ما السبب الذي يدفع الجيش الأميركي لمواصلة تبني استراتيجية استشارية غير ناجحة؟ مثل معظم الأنظمة البيروقراطية، تميل الولايات المتحدة إلى مأسسة [إرساء أسس مؤسساتية] طرق العمل التي تخدم مصالحها - وذلك يعني بالنسبة لها الاستقلالية والمكانة وقدرة الوصول إلى الموارد. يضع الجيش إجراءات العمل الموحدة التي تخدم مصالحه البيروقراطية، وغالباً ما يستمر تطبيق هذه الإجراءات إلى أن يضغط القادة المدنيون بقوة باتجاه تغييرها.
ربما لا تنفع وسائل الإقناع المستند إلى العلاقات الودية كثيراً في تحفيز الزعماء المحليين على بناء جيوش أقوى، لكنها تصب في خانة المصالح البيروقراطية للجيش الأميركي. فهذه المقاربة اللطيفة تحافظ على الكياسة الدبلوماسية مع الشركاء المحليين كما تعزز رواية الشراكة التعاونية التي تسبغ غطاء المشروعية على العمل الاستشاري برمته. وفي المقابل، يمكن أن يعطل تهديد الزعماء المحليين إما بتخفيض الدعم أو العدول عنه، عمليات الجيش الأميركي الخاصة كما علاقاته. وقد تشعل مقاربة المهمة الاستشارية بمزيد من الحزم صراعات بشعة تجذب انتباه واشنطن إلى العمل الاستشاري، ما يزيد من خطر تدخل الشق المدني فيه.
من منظار النظرية التنظيمية - أي المدرسة الفكرية التي تركز على طريقة تشكيل السياسة الخارجية من خلال المشاحنات بين الأنظمة والعمليات البيروقراطية - يظهر أن عديداً من المشاكل التي تشوب الدعم الأمني هي أعراض للعلة نفسها. على سبيل المثال، يشير عدة معلقين إلى قصر فترات خدمة المستشارين العسكريين باعتبارها أحد أسباب فشل بعثات التدريب والتجهيز. والنقاد محقون في إشارتهم إلى أن فترات الخدمة القصيرة تتنافى ونظرية الجيش الخاصة في شأن تقديم المشورة بطريقة فعالة، والتي تعتمد على إقامة علاقات شخصية، لكن أفضل طريقة لفهم فترات الخدمة القصيرة هي باعتبارها نتاج المنطق التنظيمي: يتفادى الجيش، بجعل فترات انتشار المستشارين موجزة [قصيرة]، المعارضة الداخلية التي ستثيرها إطالة فترات الخدمة بلا أدنى شك. ويصبو الجيش إلى تخفيف الإزعاج البيروقراطي وتطبيق إجراءات عمل موحدة يمكنه الحفاظ عليها، حتى ولو كانت تلك الإجراءات بعيدة عن نظريته الخاصة في شأن النجاح والنصر.

لا يكترث شركاء الولايات المتحدة في أغلب الأحيان ببناء قوات عسكرية لديها قدرات قتالية فعلية

كما أن توجه الجيش الأميركي نحو رفع تقارير دورية يفيد فيها عن حصول تقدم في البعثات الاستشارية، على الرغم من الخلل الواضح فيها، يصب في خدمة أهداف بيروقراطية مماثلة. من خلال طرح رواية التقدم البطيء، إنما المستمر، يحمي الجيش نفسه من النقد والتدخل في شؤونه وتعطيل عمله. في تقييمه للوضع، قال جون سوبكو، المفتش الأميركي العام المتخصص بإعادة الإعمار في أفغانستان إن الجيش "كان يعلم مدى سوء حال الجيش الأفغاني"، لكنه ظل "يغير الأهداف" في تقاريره المرحلية لكي يقدم صورة نجاح - وعندما فشل هذا الأسلوب حتى، صنف أدوات التقييم على أنها معلومات سرية... "لو كان لديك تصريح أمني، كنت لتعلم (في شأن سوء وضع الجيش الأفغاني)، لكن المواطن الأميركي العادي، ودافع الضرائب العادي، وعضو الكونغرس العادي، والشخص العادي الذي يعمل في السفارة لا يمكنه أن يعرف مدى سوء الوضع".
لا يشكل تحريف التقييمات في شأن الجهود الاستشارية في أفغانستان استثناءً، بل قاعدة عامة في العمل الاستشاري الأميركي. ففي العراق، ركزت التقييمات العسكرية الأميركية على مقاييس مثل حيازة القوات الأمنية الأجهزة والعتاد والعناصر المرخص لها بأن تجندها. وفرت هذه التقارير للجيش نظاماً يدعم إصداره المنتظم للتقارير المرحلية المتفائلة، لكن قلة من المستشارين الموجودين على الأرض في العراق كانوا يحسبون أن هذه التقييمات عكست واقع القوات العراقية. وبحسب ما قال أحد المستشارين السابقين، "كانت مقاييس الفعالية تأتي من التحالف، من القوة الموجودة في بغداد، وكانت أمور لا صلة لها بالواقع. ومنها مثلاً "هل القوات الأمنية العراقية مكتملة العناصر"؟، وكان جوابي، نعم، مكتملة العناصر، عناصر الميليشيات".
أما أوجه الشبه مع فيتنام فمدهشة. كان الجنرال ويليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام، يشتكي باستمرار من انعدام كفاءة ضباط السلك الفيتناميين الجنوبيين - ولكنه اعتمد مع ذلك على نظام تقييم استخدم مقاييس مثل وصول بنادق أم 16 باعتبارها مؤشرات على التقدم. كما منع بصراحة المستشارين الأميركيين من اللجوء إلى التهديد بسحب فرقهم الاستشارية من أجل تحفيز الضباط الفيتناميين غير المتعاونين بعد أن أدت محاولات التهديد المماثلة إلى تغطية صحافية سلبية في واشنطن. وقد حمى الجيش نفسه من الانتقادات الخارجية، ثم كما قال مسؤول الدفاع الأميركي روبرت كومر في تقرير راند الذي وضعه في عام 1972 حول الحرب، أخذت البيروقراطية مجراها وفعلت فعلها.  
في الأخير، يتحمل القادة المدنيون مسؤولية توجيه الاستراتيجية الاستشارية الأميركية والإشراف على تصميمها وتنفيذها، لكن ما تعنيه المعايير الحالية في العلاقات بين الشقين المدني والعسكري في الولايات المتحدة، هو أن بعثات التدريب والتجهيز تسير وفق نمط محزن ومألوف. أولاً، يكلف القادة المدنيون البنتاغون بالمهمة الصعبة - وربما المستحيلة في بعض الأحيان - القاضية بتأسيس قوات أمنية لأمم بلا دول، ثم يوكلون مهمة تطبيق برنامج المساعدة إلى الجيش الأميركي. ومع تراكم الإثباتات على فشل القوات العسكرية المحلية، يزداد التشكيك والقلق في صفوف القادة المدنيين، لكنهم يحجمون عادة عن التدخل في ما يعتبرونه تفاصيل عسكرية. وعوضاً عن ذلك، يرددون بشكل عام تقييمات الجيش الأميركي المتفائلة حول القوة المتنامية للشريك المحلي - إلى أن ينهار الوضع كلياً.
هل الولايات المتحدة قادرة على استقاء الدروس؟
ربما انتهت جهود المساعدة العسكرية في أفغانستان، لكن جهود بناء قدرات الشركاء الأمنيين المحليين تظل مدماكاً أساسياً في الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة. وإن لم تتعلم الولايات المتحدة أي دروس من الفشل المتكرر لبعثاتها الاستشارية، عليها ألا تتوقع نتيجة مختلفة لجهودها المتواصلة.
طرح الباحثون والمختصون وصفات متنوعة لا يسعها فعل الكثير من أجل حل المشاكل والعلل الأساسية التي تشوب مساعدة القوات الأمنية. لا ينفع استثمار المزيد من المال والموارد في البعثات الاستشارية طالما القادة المحليون لا يأبهون ببناء جيوش فعالة.
أما العمل على تقليص اعتماد الشركاء المحليين على دعم سلاح الجو الأميركي وغيره من العناصر المساعدة، فيعالج جزءاً صغيراً من المشكلة فحسب، فيما تظل القضية الجوهرية التي تدور حول العزم المحلي عالقة على حالها ولا تجد حلاً. ولن تحرز إطالة فترات خدمة المستشارين واستقطاب موظفين رفيعي المستوى فرقاً كبيراً إن استمر هؤلاء المستشارون بالاعتماد على قدراتهم في الإقناع فحسب من أجل التملق إلى القادة المحليين ودفعهم إلى تعزيز قواتهم العسكرية.
وعوضاً عن ذلك، على الولايات المتحدة أن تعيد تقييم هدف برامج التدريب العسكري. فقياساً إلى طبيعة الخطر وموقعه ضمن السياسة الخارجية الأميركية الأوسع، قد لا يكون بناء جيش كبير ومحترف أمراً ممكناً أو ضرورياً. وفي بعض الحالات، قد يكون من المنطقي أكثر بالنسبة للولايات المتحدة أن تركز على تأسيس وحدات قليلة وفعالة تعمل بدعم أميركي.
وبالنسبة للبعثات الاستشارية التي تقرر الولايات المتحدة أن تنفذها في المستقبل، عليها التخلي عن استراتيجيتها التي تغالي في الاعتماد على دفء العلاقات وتجمع بدلاً عن ذلك بين الإقناع وتطبيق الحوافز المنهجية. وإن احتاج المسؤولون إلى مثال يلهمهم، ما عليهم سوى النظر إلى أحد أفضل نماذج هذه المقاربة: عمل الجيش الأميركي الثامن على تدريب جيش كوريا الجنوبية بين عامي 1948 و1953.

إن لم تتعلم الولايات المتحدة من فشلها المتكرر، فعليها ألا تتوقع الحصول على نتائج مختلفة

حتى بعد اجتياح كوريا الشمالية في عام 1950، كان المسؤولون السياسيون والعسكريون في كوريا الجنوبية يمرون بحالة من النزاع بين الحوافز الوطنية والفردية بطريقة أضعفت قوتهم العسكرية، لكن خلافاً للجيش الأميركي اليوم، اعتمد الجنرالات والمستشارون التكتيكيون في ذلك الوقت مقاربة صارمة: تولى الجنرال جيمس فإن فليت، قائد الجيش الأميركي الثامن، زمام القيادة المباشرة لجيش الجمهورية الكورية، وهدد بخفض المساعدات في محاولة لضمان ترقية الضباط الأكفاء إلى مناصب قيادية أساسية وإبقاء الجيش بعيداً عن التسييس. وعلى المستوى التكتيكي، سعى المستشارون العسكريون الأميركيون في الفريق الاستشاري العسكري الكوري إلى إلهام نظرائهم الكوريين الجنوبيين وإقناعهم، لكن عندما فشلت مساعي الإقناع، لوحوا بقطع الإمدادات الأميركية عن الوحدات الكورية الجنوبية في سبيل تحفيز الضباط على اتباع توجيهاتهم. ومع قدوم عام 1952، لم يحصل أي ضابط في جيش كوريا الجنوبية تقريباً على ترقية من دون موافقة الجيش الأميركي الثامن عليها، وبحلول منتصف عام 1953، تحول الشريك المحلي إلى قوة قتالية فعالة.
تواجه مسألة المقارنة والوقوف على أوجه الشبه بين الحالات دائماً عوامل تعقدها وتحدها. فقد بنى الجيش الأميركي جيش جمهورية كوريا في زمان ومكان مختلفين، وقد صمم بشكل يسمح له بالتصدي لخطر مختلف عن ذلك الذي واجهته الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. ومن الأرجح أن ما أثر على المقاربة الحازمة التي اعتمدها الجيش الأميركي في كوريا هو أن انهيار جيش جمهورية كوريا كان ليقضي على وحدات أميركية كاملة موجودة على الجبهة الأمامية - وهو خطر حسي ومباشر على الأرواح الأميركية لم يتكرر في الحروب التالية. ومع أن خيار تسلم القيادة المباشرة لجيوش شريكة بأكملها قد يكون غير وارد بالنسبة للولايات المتحدة الآن، ما زال بإمكان الجيش الأميركي تعلم الكثير من خبرته الاستشارية في كوريا. ويمكنه تحديداً اختيار الدرس الذي يظهر أن ما غير جيش جمهورية كوريا لم يكن الإقناع المستند إلى العلاقات الودية وحده، بل تطبيق الحوافز المنهجية كذلك.
قد تزيد هذه المقاربة فاعلية بعض مشاريع دعم القوات الأمنية، لكن أمام الولايات المتحدة خياراً آخر كذلك: يمكنها تخفيف جهود التدريب والتجهيز كاملةً. وبدل استخدام البعثات الاستشارية باعتبارها الخيار المفضل لمعالجة المخاطر الأمنية المحلية، يمكنها تخصيص هذا النوع من البرامج للدول التي تمتلك بالفعل مؤسسات وطنية قوية ولديها اهتمام واضح ومثبت ببناء قوات عسكرية أفضل. وسيؤدي هذا المسار إلى إنهاء معظم برامج الدعم الأمني الأميركي، ومنها الجهود القائمة لبناء القوات الأمنية العراقية.
في أغلب الأحيان، كان وراء جهود الولايات المتحدة الرامية إلى تدريب وتجهيز القوات العسكرية الأجنبية المنطق البيروقراطي عوض الاستراتيجية السليمة. وقد عرّى سقوط كابول أكثر من فساد الجيوش التي تشيدها الولايات المتحدة، إذ فضح العفن [مواضع الخلل] في المقاربة التي تعتمدها الولايات المتحدة في سبيل بنائها.
* تشغل رايتشل تيكوت منصب مساعدة أستاذ في الكلية الحربية البحرية الأميركية. والآراء الواردة في المقالة هي آراؤها الشخصية، ولا تعبر عن المواقف الرسمية للكلية الحربية البحرية أو وزارة البحرية أو وزارة الدفاع.
مترجم من "فورين أفيرز"