السبت 23 تشرين الثاني 2024

سر عودة داعش بهذا العنف لسوريا والعراق، وهل يستعيد خلافته المزعومة؟


النهار الاخباريه وكالات

أثار هجوم تنظيم داعش العنيف على سجن الحسكة مخاوف من عودة داعش مجدداً، وإمكانية سيطرته على شرق سوريا وشمال غرب العراق مجدداً، بعد أن أذهل حجم وضراوة الهجوم القدرات التي مازال داعش يمتلكها. 
وبعد أسبوع من هجوم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على سجن في شمال شرق سوريا، ثم صمودهم في مواجهة الهجوم العنيف الذي قادته ميليشيات تقودها قوات كردية مدعومة من الولايات المتحدة، نشرَ التنظيم روايته لما حدث.
وسخر التنظيم في مجلته الرسمية من المرات العديدة التي أعلن فيها أعداؤه هزيمته النهائية، وتبجح بأن هجومه المفاجئ على سجن الحسكة جعل أعداءه "يصرخون في خيبة: لقد عادوا مرة أخرى!".
وتقول صحيفة The New York Post الأمريكية في تقرير لها، إن هذا الوصف لا يخلو في واقع الأمر من بعض الحقائق. فقد قُتل في معركة الحسكة مئات الأشخاص واحتشدت لها القوات الأمريكية، وكانت المعركة تنبيهاً صارخاً بأن التنظيم لا يزال، بعد 3 سنوات من إعلان انهياره، قادراً على بث العنف والفوضى. وقال خبراء يوم السبت 29 يناير/كانون الثاني إن مقاتلي التنظيم ما زالوا حتى الآن يسيطرون على جزء من السجن.


في العراق قطع رأس ضابط أمام الكاميرات

وفي العراق، قتل التنظيم في الفترة الأخيرة 10 جنود وضابطاً في موقع للجيش العراقي، وقطعوا رأس ضابط شرطة أمام الكاميرات. أما في سوريا فقد اغتال التنظيم عشرات من الوجهاء المحليين، وابتز الشركات لتمويل عملياته.
ومع أن التنظيم لم يعد قوياً كما كان في السابق، فإن خبراء يقولون إنه قد يعوِّل على الانتظار لبعض الوقت حتى تتوفر له الظروف في بعض البلدان غير المستقرة التي ما زال له حضور فيها وينتهز أي فرص جديدة للعودة والتوسع.


أمريكا ليست لديها استراتيجية للقضاء عليه

يقول كريغ وايتسايد، وهو أستاذ مساعد في كلية الحرب البحرية الأمريكية ومتخصص في دراسة التنظيم، إن "الولايات المتحدة ليس لديها خطوة نهائية لحسم مسألة القضاء على التنظيم في سوريا أو العراق، والهجوم على السجن ليس إلا مثالاً واحداً على هذا الفشل في العمل من أجل حل طويل الأمد. إنها حقاً مسألة وقت ينتظرها التنظيم حتى تلوح له فرصة أخرى، وكل ما عليه لبلوغ ذلك هو الصمود حتى ذلك الحين".
كانت الولايات المتحدة أنشأت تحالفاً عسكرياً قادته وشاركت من خلاله قوات محلية في سوريا والعراق لدحر تنظيم الدولة، إلى أن أعلنت ميليشيات يقودها تنظيم "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يقودها الأكراد، طردَ تنظيم داعش من آخر معاقله في أوائل عام 2019.

ما هدف التنظيم من هجوم سجن الحسكة؟

ومع ذلك، فقد ذهب خبراء في مكافحة الإرهاب ومسؤولون أمنيون أمريكيون إلى أن تنظيم الدولة انصرف في أعقاب ذلك عن الهيكلية الهرمية القائمة على نمط التدرج العسكري للقيادة من أعلى إلى أسفل، وازداد اعتماده على نمط الحركات المتمردة ذات الانتشار الواسع واللامركزية.
ولفت الخبير العسكري وايتسايد إلى أن الاحتشاد الذي أعدَّه التنظيم لاقتحام السجن الأسبوع الماضي يشير إلى أن "القيادات العليا" في التنظيم كانت تعوَّل تعويلاً كبيراً على هذه العملية لتكون عودة جديدة للتنظيم.


كما أن قدرة التنظيم على حشد عشرات المقاتلين واقتحام السجن الذي تحرسه قوات أمريكية وميليشيات قسد منذ فترة طويلة تتوافق مع شكوك سابقة لمسؤولين أمنيين أمريكيين في أن التنظيم قد يُقدم على ذلك لتكون العملية إنجازاً وانقلاباً دعائياً على مزاعم الخصوم بالقضاء عليه.
وفي الوقت نفسه، نقلت صحيفة The New York Post عن مسؤول أمريكي بارز، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن الهدف المرجح لعملية سجن الحسكة هو تحرير بعض قادة التنظيم ومقاتليه من الفئات العليا والمتوسطة، ولا سيما أصحاب المهارات الخاصة، مثل صنع القنابل. وتشير تقديرات المسؤول الأمريكي إلى أن نحو 200 سجين قد فروا، إلا أن مسؤولين بقوات قسد، التي تتولى تأمين السجن، قالوا إنهم لا يستطيعون تأكيد هذا الرقم أو نفيه، لأن آثار العملية ما زالت قيد التقييم.

تصاعد للهجمات ثم خفوت

من جهة أخرى، كشف تحليل أجراه الباحثان مايكل نايتس وأليكس ألميدا للبيانات المتوفرة عن هجمات التنظيم ونُشر هذا الشهر، أن التنظيم زاد من وتيرة عملياته في عامي 2019 و2020، لكن هذه العمليات تراجعت حدَّتها بعد ذلك كمياً ونوعياً.
وكتب الباحثان: "أما في الوقت الحالي، في بداية عام 2022، فإن عمليات التنظيم في العراق شهدت تراجعاً حاداً، وباتت تضاهي أقل عدد مسجِّل لهجمات التنظيم هناك".
ويُرجع الباحثان هذا التراجع إلى عدة عوامل، أبرزها: الانتشار الأمني الكبير في المناطق الريفية، والاستعانة بالكاميرات الحرارية التي يمكنها الكشف عن المسلحين الذين يتحركون ليلاً، وعمليات التمشيط الأمني المتكررة، وعمليات الاغتيال لقادة التنظيم.

فهل يحاول إدخار موارده؟

ومع ذلك، لا يخلص الباحثان إلى استنتاج حاسم حول مستقبل التنظيم، غير أنهما يشيران إلى أن التنظيم ربما يحاول في الوقت الحالي أن يحافظ على موارده، حتى تمنحه الظروف فرصة للعودة مرة أخرى.
ولفت الباحثان إلى أن التنظيم سبق أن شهد فترات من التراجع، لكن ذلك لم يمنعه من التعافي والعودة إلى شن هجماته بكثافة، وهو الذي يجعل من احتمال عودة داعش تهديداً قائماً
وتشير الهجمات الجريئة إلى أن المسلحين قد تم تنشيطهم بعد الحفاظ على مستوى منخفض من التمرد في العراق وسوريا على مدى السنوات القليلة الماضية. تم القضاء على سيطرة الجماعة على الأراضي في العراق وسوريا من خلال حملة استمرت لسنوات بدعم أمريكي، لكن مقاتليها استمروا بخلايا نائمة قتلت بشكل متزايد عشرات العراقيين والسوريين في الأشهر الماضية، حسبما ورد في تقرير لموقع ABC News  الأمريكي.

إنهم يتوارون في الصحراء

وأشار خبراء وسكان محليون إلى أن الحصة الأكبر من عمليات التنظيم خلال الفترة السابقة على عملية مهاجمته لسجن الحسكة الأسبوع الماضي كانت في شرق سوريا ذي الكثافة السكانية المنخفضة.
فقد لجأ مقاتلو التنظيم إلى الصحراء للتخطيط لهجمات على قوات النظام السوري وقوات قسد.
وكشفت دراسة أجرتها شبكة "دير الزور 24" الإخبارية أن التنظيم زاد بين عامي 2018 و2021 من وتيرة هجماته التي اغتال فيها زعماء محليين ووجهاء من عشائر المنطقة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص.

يحصدون الأموال عبر ابتزاز الشركات

وفي الفترة الأخيرة، عمل التنظيم على ابتزاز شركات محلية من أجل الحصول على أموال منها، ووزَّع منشورات دعائية تهاجم تنظيم "قسد" المدعوم من الولايات المتحدة.
وتقول دارين خليفة، وهي محللة بارزة للشؤون السورية في مجموعة الأزمات الدولية، إن التنظيم شنَّ عدداً من الهجمات على نقاط تفتيش معزولة ليقطع طرق التواصل بينها.
وأضافت خليفة: "حقيقة الأمر أن الأوضاع اشتدت سوءاً في عام 2021، وليس بسبب كثرة الهجمات على نقاط التفتيش، ولكن لأن الهجمات كانت من الكثافة بحيث جعلت قوات الأمن الداخلي تخشى إقامة نقاط التفتيش مرة أخرى".

أسباب عودة داعش

وبينما تلقي بعض الدوائر الغربية اللوم على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لسحبه القوات الأمريكية من سوريا، علماً بأنها فعلياً لم تنسحب، يجرى تجاهل أن المشكلة الحقيقية هي إبقاء آلاف من سجناء داعش من بينهم أعداد كبيرة من المقاتلين الأوروبيين في يد قوة غير نظامية مثل سوريا الديمقراطية.
وتفيد بعض التقديرات بأنه قد انضم لداعش أكثر من 40 ألف مقاتل، بينهم 5 آلاف من أوروبا، قُتل 10% منهم في ساحات القتال، وعاد منهم نحو 30%، فضلاً عن بقاء 1000 أوروبي من عائلات داعش داخل سجون ومخيمات سوريا والعراق.
ويُعتقد أن المقاتلين الأجانب لهم دور كبير في هجوم سجن الحسكة.

سياسات الأكراد تغضب السكان المحليين

كما أشارت دارين خليفة إلى عوامل أخرى أسهمت في صمود داعش، أبرزها عجز قوات قسد عن إقامة روابط من الثقة مع السكان المحليين في المناطق ذات الغالبية العربية الساحقة، والثغرات الأمنية المنتشرة على الحدود، والفقر المدقع الذي يسهِّل على الجهاديين تهريب الأسلحة وتجنيد المقاتلين، علاوة على الغياب العام للاستقرار في المنطقة.
ويدعم الغرب ما يعرف بالإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر على شرق سوريا (كل ما هو شرق الفرات تقريباً) وهي منطقة شاسعة أغلب سكانها من العرب وليسوا من الأكراد، وكثير منهم سلالة قبائل عربية عريقة وثيقة الصلة بالعراق والجزيرة العربية والأردن.
والتركيبة الاجتماعية لسكان المنطقة لا تقبل الخضوع لحكم الأقلية الكردية التي بنت دولة تهمِّش العرب ويسيطر على مقدراتها الأكراد بطريقة لا تختلف كثيراً عن النموذج العنصري الإسرائيلي والجنوب إفريقي السابق.
وتبنّت الإدارة الذاتية الكردية خطاب الحكم الذاتي القائم على "أخوة الشعوب"، وفي الوقت نفسه، أبدت رفضها التخلّي عن أي سلطة فعلية في مجال صناعة القرار، وتسليمها إلى  
الجماعات الكردية المحلية أو إلى القيادة السياسية والعسكرية الاسمية للمشاركين العرب في الإدارة الذاتية و"قسد"، حسبما ورد في ورقة بحثية أعدها الباحثان إليزابيث تسوركوف، وعصام الحسن، ونُشرت في موقع مركز كارنيغي.
 يقول السكان المحليون في المدن ذات الأكثرية العربية الخاضعة لسيطرة "قسد" إنَّ تهميش العرب من آلية الحكم في مناطقهم يولِّد مشاعرَ استياء لدى العرب المثقَّفين والمتمرِّسين، الذين يعتبرون أنفسَهم غير معنيين بإدارة مناطقهم.

وفي حين عُيِّن العرب في مناصب عسكرية ومدنية قيادية في جميع المناطق ذات الأكثرية العربية، يتّخذ الكوادر الحزبية الكردية الذين يوصَفون بأنهم "مستشارو" القادة العرب المحليين، معظمَ القرارات، ويتجاوزون أحياناً العرب المكلَّفين رسمياً بالمسؤوليات والمهام.
ويصف أحد النشطاء في دير الزور الكوادر الأكراد في الهيئات التي يتولى العرب رسمياً قيادتها، بأنهم "العلويون الجدد"، في إشارة إلى الطائفة التي ينتمي إليها آل الأسد، الذين يشغلون معظم المناصب النافذة في سوريا.
ومن المعروف أن داعش نشأ في العراق بسبب تهميش السنة العرب، وكثير من مناطق سنة العراق متاخمة لشمال شرق سوريا وهم متشابهون في الطباع.
وقد ينبعث التنظيم مجدداً من سوريا، بسبب تهميش العرب السنة في شمالي شرق البلاد.
وقبل عدة سنوات حذَّر الرئيس المشترك لأحد المجالس المدنية في شرقي سوريا في حديثه مع معدي بحث كارنيغي من أن ظهور داعش في العراق مردّه إلى حرمان السنّة من حقوقهم، ومن أن السيناريو نفسه قد يتكرر في شرقي سوريا، بسبب حرمان العرب السنّة من حقوقهم.

هل يعود التنظيم لنفس قوته السابقة؟

في ضوء الأوضاع المقلقة الحالية، تقول دارين خليفة إن أية اضطرابات طارئة، مثل المشكلات المالية التي تواجهها قسد والإدارة التابعة لها، أو أي توغل عسكري جديد لتركيا في المنطقة، أو انسحاب متسرع للقوات الأمريكية منها، يمكن أن يمنح تنظيم الدولة فرصة سانحة للعودة.
ومع ذلك، يذهب خبراء إلى أنه ما لم يتمكن التنظيم من تحقيق ما بلغه قبل عام 2019، أي السيطرة على مناطق كبيرة، فإن نجاحه في عمليات كبيرة مثل اقتحام سجن الحسكة، أو فشله، لا يغير الوضع القائم.
ويقول وايتسايد: "على خلاف السائد، فأنا أعتقد أن ما حدث لن يحدث تغييراً ذا بال، ولا يجعل التنظيم أقرب إلى إعادة السيطرة على سكان المنطقة. وذلك رغم أن هذا النوع من السيطرة هو سبب وجودهم من الأصل، وإلا لما أطلقوا على أنفسهم اسم (الدولة)".
وغطت الخلافة المزعومة لتنظيم داعش في أوجها نحو ثلث مساحة كل من العراق وسوريا. استمرت الحرب التي أعقبت ذلك ضد التنظيم عدة سنوات، وتسببت في قتل الآلاف، وتركت أجزاء كبيرة من البلدين المتجاورين في حالة خراب. 
وكان المستفيد الأكبر من هذه الحرب النظام السوري، بعد أن قضى داعش على المعارضة السورية المعتدلة التي كادت تهزمه، وأكراد سوريا الذين استفادوا من الفراغ الذي خلفه سحق داعش للمعارضة السورية والدعم الغربي، وأخيراً الحشد الشعبي الموالي لإيران الذي أسس في العراق من أجل محاربة داعش، وأصبح قوة عسكرية رسمية رغم عدم طاعته لأوامر حكومة بغداد.
ونتيجة الحرب على داعش سيطر المسلحون الأكراد الذي لم يكن لهم وزن كبير في بداية الثورة السورية على شرق وشمال شرق سوريا، مع وجود محدود لمئات من القوات الأمريكية التي لا تزال منتشرة هناك.
ويرى تقرير صحيفة The New York Post أن الهجوم على السجن كان من أبرز الهجمات التي شنها تنظيم الدولة منذ عام 2018 وأبعدها طموحاً، إلا أنه لا ينبغي أن يكون مفاجأة كبيرة، لا سيما أن التنظيمات من هذا النوع لطالما اعتمدت تاريخياً على تهريب مقاتليها المأسورين من السجون لإعادة الحياة إلى صفوفها واستئناف عملياتها.