استعمل رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، إصبعيه رمزياً، للدلالة على تلك الإشارة التي توضع في ميادين الرماية على شكل صليب مائل، وهو يستعيد ذكريات مرحلة صعبة لعلاقات بلاده الأردن مع الولايات المتحدة، والتي وصلت خشونتها إلى الذروة عام 2018 في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب.
تقاطع إصبعا رئيس وزراء المملكة الأردنية الهاشمية وهو يقول، "للأسف، كنا هدفاً للطاقم العامل مع الرئيس ترمب في تلك المرحلة".
السبب بطبيعة الحال هو مواقف الملك عبد الله الثاني التي "عاكست اتجاهات طاقم ترمب وحكومة بنيامين نتنياهو، في محاولة يصفها الأردن الرسمي بـ"الجاهلة" لفرض "اتفاقات إبراهيم"، والتي يعتبرها الخصاونة، أنها "انتهت، ولم تعد على الطاولة على الأقل بالصيغة التي كانت تقترحها أو تقترفها أطقم ترمب".
مواجهة صعبة ومعقدة
يصف الخصاونة تلك المواجهة السياسية الخلفية مع طاقم ترمب وصهره، جاريد كوشنر، بأنها كانت صعبة ومعقدة، لا بل استُهدفت بلاده من قبل ذلك الطاقم تحديداً، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، حتى وصل الأمر إلى محاولات لعزل الأردن، بل تحوله إلى هدف وفقاً لإشارة رئيس الوزراء الأردني التي تعني الكثير.
وفي شرح التفاصيل، يمكن القول إن رئيس وزراء الأردن يفسرها بانتظام وبشكل واضح ودون الغرق في الجزئيات.
وقال، "في ذلك الوقت حُوصر الأردن اقتصادياً ومالياً بالتأكيد، ولمست حكومته ذلك من خلال تضرر بعض علاقاتها مع دول عدة في بعض الأحيان، وكانت تعتقد طوال الوقت أن إدارة ترمب باقية وتتمدد، وستعود إلى الواجهة في الانتخابات الرئاسية".
ويحرص الخصاونة هنا على عدم توجيه اللوم إلى "أي شقيق أو صديق أو حليف"، فالمصالح هي الأساس لجميع الدول، لكن التقدير الأردني اختلف نسبياً عن غيره عندما تعلق الأمر ببناء استراتيجيات سياسية على أساس بقاء أو عودة ترمب.
"كانت مرحلة صعبة واختباراً قاسياً"، يضيف الخصاونة، مشيراً إلى أن "عناصر الخلاف والتجاذب أردنياً كانت فقط مع طاقم ترمب، وليس مع مؤسسات الدولة الأميركية التي تعرف الأردن جيداً وتقدّر خبرته العميقة في ملفات المنطقة"، وليس سراً أن بلاده في تلك المرحلة "صبرت على الأذى"، ولجأت أحياناً إلى تمرير الوقت واحتواء الضغط.
وفي استرجاع للذاكرة، عرض المستشارون التابعون لترمب على الأردن قرارات مكتوبة تضمن الوصاية الهاشمية على القدس، ويبدو أن مَن فكّر بذلك من الأميركيين لم يكن مدركاً لكيفية فهم العقل الأردني للمسألة، فالوصاية الهاشمية ببعدها التاريخي لا تحتاج إلى أوراق، وهي أهم بكثير من أي مذكرات أو ضمانات مكتوبة، ومسألة القدس بالنسبة للقيادة والشعب في الأردن مسألة مبدأ غير خاضع لأي تسييس، بالتالي فإن "الإغراء" المشار إليه لا يبدو مقنعاً، ولا مفيداً، بالنسبة لعقل المؤسسة الأردنية بقدر ما لاحظت المؤسسة في ذلك الوقت بأن صفة الاستعجال والتسرع ترافق طاقم ترمب، وبأن الجهل الحقيقي الملموس في قضايا المنطقة ومواقف الأردن الثابتة كان محفزاً لاجتهادات خاطئة لا يمكنها بحال من الأحوال أن تشكل رافعة لصناعة أو إدامة أي سلام حقيقي، أو حتى أي استقرار في المنطقة برمتها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، والتي لا يزايد الأردن فيها، ولا يخضعها لأي نقاش، أو حتى عروض دبلوماسية، أو سياسية.
صفحة طُويت
من جهة أخرى، يعتبر الخصاونة أن مرحلة "اتفاقات إبراهيم" طوتها "المؤسسة الأردنية، والتي يصعب تجاوزها أو تجاهلها عندما يتعلق الأمر بقضية الشعب الأردني المركزية، وهي القضية الفلسطينية بلا منازع، ناهيك بأنها قضية الأمة".
ويعرج الخصاونة هنا على ما يسميه حقيقة ووجدان "الضمير الأردني"، ويعتبر أن ترمب وطاقمه تورطا في القراءة خارج السياق عندما حاول ترمب فرض وقائع لخدمة أجندة يمينية إسرائيلية متطرفة كان على رأسها نتنياهو الذي يناصب الأردن ومصالحه وشعبه وقيادته العداء علناً في المرحلة التي حكم فيها الأمور، وبنفس المقدار الذي يعادي فيه شعبنا الفلسطيني وحقوقه. منسوب عداء نتنياهو للأردن وصل إلى حد تحريضه على المملكة، أخيراً، بعد قيام الحكومة الأردنية بشراء كمية مياه من الجانب الإسرائيلي، عبر الإيحاء بأن الأمر يخدم إيران، وبحسب الخصاونة، "على الجميع
تخيل هذا التشدد والعداء".
في التفصيل، يلفت الخصاونة نظر القارئ والمتابع إلى أن "نصف الشعب الأردني تقريباً فلسطيني التكوين، وأكبر كتلة من اللاجئين الفلسطينيين في عمق التكوين الاجتماعي الأردني، وأبناؤها لهم حقوق ترعاها واجبات الدولة الأردنية. أما النصف الثاني فهو مصاهر للأول واختلط الدم في عروقه، إذ إن لأبناء شرق الأردن تاريخاً من الصراع مع إسرائيل، ولديهم شهداء ودماء على أسوار القدس وفي ثرى فلسطين والضفة الغربية". وأضاف، "بالتالي، ليس من الحكمة تجاهل مثل هذه المعطيات في عمق الشعب الأردني الذي لا يزايد عليه أحد، ولا على مؤسساته وقيادته في السهر والنضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني المؤكدة وهوية القدس الشرقية العربية الإسلامية هي المحور الأساسي هنا".
وهذه حقائق برأي الخصاونة "من المجازفة والجهل إنكارها".
القدس أكبر خطوطنا الحمراء
أما نقطة الخلاف التي تفجّرت مع ما يُسمى مشروع "اتفاقات إبراهيم"، فقد ظهرت عندما تعلق الأمر بملف القدس، حيث "لا يعرف الطرف الآخر هنا أن الأردني لا يتحدث بلهجتين في مسألة القدس، وأن هوية القدس والوصاية الهاشمية علها بوصلة لا تبحث أصلاً عن شرعيات سياسية من أي صنف، وفي أي وقت، فالقدس كانت، ولا تزال، وستبقى أكبر الخطوط الحمراء الأردنية، وعلى الجميع أن يعرف ذلك، وجلالة الملك أوضح لنا جميعاً في الخارج والداخل، وهو يقول ذلك إيماناً، وليس احتساباً".
قال: "منعت إدارة ترمب الأردن من الاستمرار في التصدير إلى سوريا، لا سيما تصدير الكهرباء، وحاربت الاستثمارات في الأردن، واستخدمت العزل الاقتصادي لإزعاج عمان" رداً على الموقف الأردني في الملف الفلسطيني وفي ملف القدس.
لذلك، فإن تلك المواجهة مع إدارة ترمب كانت صعبة بتقدير الخصاونة الذي أوفده القصر الملكي لمحاورة ذلك الطاقم مباشرةً.
يؤمن الأردن، حسب الخصاونة، بأن أي ترتيبات سلام لها علاقة بالأرض الفلسطينية المحتلة ينبغي أن تفهم مسبقاً أن المطلوب عملية سلام يقبلها الشعب الفلسطيني وأجياله، بمعنى أن تكون قابلة للصمود، والحد الأدنى هو قرارات الشرعية الدولية وما اتُفق عليه في الإطار الدولي من نسبة تحكم بما لا يقل عن 22 في المئة من الأرض المحتلة، حيث "لا فائدة من أي ترتيبات لا تنتهي بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قابلة للحياة، وعاصمتها القدس الشرقية من دون منازع، ودون ذلك تبقى مجرد بهلوانيات بالنسبة لليمين الإسرائيلي، أو غيره".
ويتفهّم الخصاونة أن ما يسميه "نسبة إدارة المخاطر" بالنسبة إلى دول عربية في المسألة الفلسطينية، تختلف من دولة إلى أخرى، فتقدير الشعب الأردني هنا ودول الطوق، التي تستضيف ديموغرافياً قسماً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين، "يختلف بالطبيعة والضرورة عن تقدير شعوب ودول أخرى أبعد عن الجوار الفلسطيني."
بالنسبة إلى رئيس الوزراء الأردني، ومن باب التحليل الشخصي، وليس الرسمي، فإن الأردن ولبنان بحكم "الجغرافيا والديموغرافيا" تأثرا أكثر من باقي الدول العربية مضيفا:" الشعب الفلسطيني في الجوار والشتات موجود في مصر والعراق وسوريا ولبنان، لكن ثقله الديموغرافي في الأردن، ويُفهم من ذلك عملياً أن القضية الفلسطينية برمتها تمتلك من التأثير في قرار دولة عربية شقيقة سياسياً بحجم ما تمثله في واقعها الاجتماعي".
"وهنا، حصلت تحولات من الصعب تجاهلها أيضاً، فمَن وُلِد من الفلسطينيين في دول الخليج قبل عقود، اندمج في هوية المجتمع الخليجي، وهو وضع يؤخذ بالاعتبار عند الدراسة والتحليل، كما تؤخذ العناصر الديموغرافية والجغرافية، بالتالي لا تتعلق المسألة بمزايدات في المواقف السياسية بقدر ما تتعلق بوقائع على الأرض وشبكة مصالح قد تؤدي إلى ظهور بعض التباينات وإلى وجود القضية الفلسطينية أحياناً، وعلى الأقل في هوامش التكتيك، وليس الاستراتيجية بنظام أولويات متباين، لكن الجميع مع الحق الشرعي ومع الشعب الفلسطيني، ونفترض أن الحقوق الأساسية لشعبنا الفلسطيني بالنسبة لجميع الدول الشقيقة خارج حسابات أو نطاقات الاختلاف والتباين".
ويشرح الخصاونة أن "الأردن لديه المرونة الكافية لفهم وتفهّم مصالح الدول الأخرى، ما يعني ضمناً أن على الدول الصديقة والشقيقة أو الجارة في الإقليم والمنطقة والعالم، أن تتفهّم بدورها مصالح الأردن الحيوية، ومع حصول خلافات لا تفسد الود يمكن القول بإمكانية التوافق على الملامح المفصلية والأساسية التي لا نُخضعها نحن كأردنيين للنقاش، وعلى رأسها هوية القدس ووصايتنا وحقوق الشعب الفلسطيني".
رسائل بايدن للإسرائيليين
لكن، ما فهمه الأردنيون من إدارة بايدن هو أن الرسالة وصلت للإسرائيليين بوضوح، وبعنوان رفض مؤكد لسياسة التصعيد العسكري، والسعي إلى عدم حصول صدامات عسكرية، يمكن أن تنتج عنها توترات أمنية في الأرض المحتلة. وتلك رسالة وجهها البيت الأبيض إلى الإسرائيليين بشكل واضح، والأردن على علم بها، وإن كان سيبقى في إطار الدعوة إلى السلام بالتنسيق مع جمهورية مصر العربية والأشقاء جميعاً.
كما أن الأميركيين مهتمون أيضاً بالتنمية الاقتصادية والاستقرار الأمني في قطاع غزة والضفة الغربية، ورسالتهم إلى الإسرائيليين والفلسطينيين تقول بالعودة إلى التفاوض والتفاهم، وفي حال التوصل إلى أي اتفاق فإن إدارة بايدن ستدعمه، وبقوة، ودون ذلك لا أوهام بفرض مشاريع أو تسويات محددة. وهو وضع ليس نموذجياً، لكن عمان تعتبره قابلاً للتطوير وأفضل من الأعوام السابقة.