الأحد 24 تشرين الثاني 2024

تعارض السياسات أكبر مهدد لأمن الطاقة ويهدد سلسلة الإمدادات

استهدفت الإدارات الأميركية المتعاقبة استقلال الطاقة على مدى عقود، ولم تنجح، لماذا؟ 
استهدفت هذه الإدارات نفسها وقف الاعتماد على واردات النفط من الشرق الأوسط، ولم تنجح حتى اليوم، على الرغم من ثورة النفط الصخري، لماذا؟
استهدفت إدارة باراك أوباما استخدام نسبة معينة من السيارات الكهربائية في أسطول سيارات الحكومة الفيدرالية، والآن، بعد حوالى 13 عاماً، لم تنجح، لماذا؟
أقر الرئيس جو بايدن تغيير أسطول سيارات الحكومة الفيدرالية، التي تملك غالبيتها مؤسسة البريد، بسيارات كهربائية، إلا أن مؤسسة البريد في خطتها الأخيرة، وبعد صدور قرار بايدن، أقرت أن تكون السيارات الكهربائية جزءاً من مشترياتها، والباقي سيارات بنزين وديزل، لماذا؟

الأمر نفسه ينطبق على الدول الأوروبية، التي ما زالت تعتمد بشكل رئيس على الوقود الأحفوري، على الرغم من إنفاق مئات المليارات من الدولارات على الطاقة البديلة، لماذا؟

للمعلومية فقط، نسبة اعتماد ألمانيا، ملكة الطاقة الخضراء عالمياً، على الوقود الأحفوري بلغت أكثر من 70 في المئة من إجمالي الطاقة المستهلكة فيها!

تعارض السياسات

الأجوبة عن هذه الأسئلة عديدة، ولكن أهمها التعارض بين السياسات المختلفة. مثلاً، تاريخياً، هدفت سياسة الطاقة الأميركية إلى زيادة إنتاج النفط العالمي وتنويع مصادر واردات النفط، ولكنها، بسبب سياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية، فرضت عقوبات على دول نفطية عدة، في الوقت الذي هددت فيه بفرض عقوبات على دول أخرى. الأمر الذي نتج منه عدم زيادة إنتاج النفط العالمي بالشكل المطلوب، وتركيز واردات الولايات المتحدة في دول معينة.

تاريخياً، أنشأت حكومة ريتشارد نيكسون في بداية السبعينيات من القرن الماضي وكالة حماية البيئة، وأقرت قوانين بيئية عديدة أثرت سلباً في إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة. وبعد المقاطعة النفطية في عام 1973، ثم فوز جيمي كارتر الديمقراطي بالرئاسة في 1976، قررت الحكومة تبني الفحم كأحد المصادر البديلة للنفط في توليد الكهرباء، وهو المصدر الذي يعد أكثر تلويثاً للبيئة. وهو المصدر الذي يحاربه الديمقراطيون اليوم حماية للبيئة!

هنا، نرى أن التعارض في السياسات لم يؤد إلى نتائج عكسية فحسب، ولكن أوضح أن سياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية أهم من سياسات الطاقة والبيئة.

تعلم الأميركيون من هذه التناقضات والنتائح العكسية، لهذا دمجوا الأهداف البيئية مع سياسات الأمن القومي، إذ أعلن الرئيس بايدن مرات عدة أنه سيتم دمج سياسات التغير المناخي في السياسات الخارجية للولايات المتحدة. الأمر الذي سيمكن واشنطن من الضغط على الدول الأخرى من جهة، والتحكم بالتجارة الدولية من جهة أخرى. إن فرض ضرائب كربون على الواردات عن طريق تقويم كمية الكربون فيها، لا يسمح للحكومة الأميركية بالتحكم بالتجارة الخارجية فحسب، ولكن يسمح لها أيضاً باستهداف دول معينة، لأن كيفية حساب الكربون في أي منتج ضبابية ومطاطة. ورأينا سابقاً كيف تلاعبت الجمارك الأميركية بالحسابات عندما تم فرض ضرائب جمركية عالية جداً على سيارات الغولف المستوردة من بولندا بتهمة الإغراق. فقد كانت هذه السيارات مميزة من حيث النوعية، والأرخص في العالم. والإغراق يتطلب أن يكون السعر في الولايات المتحدة أعلى من التكلفة في بولندا.

المشكلة أن السيارة رخيصة، وتحقق أرباحاً للبولنديين، لهذا لا يمكن أن تكون التكلفة في بولندا أعلى من السعر في الوايات المتحدة، إلا أن صناع القرار استنتجوا أن بولندا تغرق الأسواق الأميركية بسيارات الغولف لأن التكلفة في بولندا أعلى من السعر في الولايات المتحدة، كيف؟

قالوا إن أجور العمال في بولندا الشيوعية منخفضة جداً مقارنة مع لو لم تكن بولندا شيوعية، ومن ثم  فلو كانت بولندا حرة، لكانت أجور العمال فيها مماثلة لأجور العمال في إسبانيا. وهذا يجعل تكلفة سيارات الغولف أعلى من السعر داخل الولايات المتحدة.

الفكرة هنا أن ربط سياسات المناخ (ومن ثم سياسات الطاقة) بسياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية له انعاكسات كثيرة، أولها تناسق هذه السياسات وعدم تعارضها. وهذا يتلافى أخطاء الماضي. طبعاً، هناك أهداف أخرى من هذا الربط لا مجال لذكرها هنا، أهمها استخدام التغير المناخي كسلاح في وجه الدول التي لا ترضى عنها الولايات المتحدة والدول الأووربية، ومعاقبتها تحت غطاء التغير المناخي، لأن ذلك يهدد الأمن القومي!

بذور التناقض موجودة

إلا أنه على الرغم من هذا التناسق بين سياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية وسياسات المناخ وسياسات الطاقة، ما زالت بذور التناقض موجودة، وسيأتي وقت ستضطر فيه الإدارة الأميركية إلى إعادة ترتيب الأولويات، والتاريخ الطويل للولايات المتحدة يعلمنا أنه إذا ما تعارضت سياسات الأمن القومي مع سياسات الطاقة، فإنها ستتم التضحية بسياسات الطاقة، وإذا تعارضت مع السياسات البيئية، فستتم التضحية بهذه السياسات البيئية. ويدل هذا على أن موضوع التغير المناخي ما هو إلا أداة سياسية، على الرغم من نبل الهدف، وعلى الرغم من وجود عدد كبير من المسؤولين وغيرهم ممن يؤمنون بهذا الهدف وضرورة تحقيقه.

من مظاهر التعارض بين سياسات الأمن القومي وسياسات التغير المناخي الحرب التجارية مع الصين. الصين تسيطر على معادن الأرض النادرة التي تتطلبها بطاريات السيارات الكهربائية وعنفات الرياح. والصين أكبر منتج لبطاريات السيارات الكهربائية، أكبر مصدر لألواح الطاقة الشمسية الرخيصة.

وما العجز في إمدادات شرائح الكمبيوتر التي عرقلت عمليات الإنتاج في مصانع السيارات، بما في ذلك السيارات الكهربائية، إلا أحد مظاهر هذا التناقض بسبب تركيز الواردات من دول معينة، بدلاً من الاعتماد على الاستيراد من دول متعددة.
ومن مظاهر التعارض، أن السياسات الخارجية تتطلب منع إيران من تطوير سلاح نووي، ومن ثم فكرة العودة إلى الاتفاق الذي وقعه الرئيس أوباما وألغاه دونالد ترمب. هذا الاتفاق يعني زيادة إيران إنتاج النفط، ربما بشكل كبير خلال السنوات المقبلة. وهذا قد يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط، ولانخفاض أسعار النفط آثار عديدة منها تعثر صناعة النفط الأميركية، والتأثير سلباً على السيارات الكهربائية التي هي جزء من سيارات التغير المناخي "البايدنية"! وانخفاض أسعار النفط بشكل كبير سيمنع الدول النفطية من تبني الطاقة المتجددة وتحقيق تحول الطاقة، وهذا على عكس ما تطمح إليه حكومة بايدن.
ومن مظاهر التعارض في السياسات حاجة المصافي الأميركية إلى النفط الثقيل، الذي تستورده الولايات المتحدة تاريخياً من فنزويلا وكندا. وقد فرضت الولايات المتحدة حظراً على واردات النفط من فنزويلا، إلا أن الحكومة الكندية فرضت ضرائب عالية على الكربون. ما يعني معاناة صناعة النفط الكندية، وعدم قدرتها على إنتاج الكميات الكافية التي تطلبها الولايات المتحدة. ولكن، قبل ذلك، ولأسباب بيئية، وقّع بايدن في اليوم الأول له في البيت الأبيض على قرار رئاسي يقضي بوقف إتمام خط أنابيب "كي ستون"، الذي كان من المفروض أن ينقل كميات كبيرة من النفط الثقيل إلى المصافي الأميركية. وهناك مشكلات عديدة في أنابيب أخرى. المشكلة أن كل هذه الأمور ترفع أسعار البنزين والديزل داخل الولايات المتحدة، وهو أمر لا ترغب فيه حكومة بايدن!
خلاصة القول، إن من أهم العراقيل في وجه تطبيق سياسات محاربة التغير المناخي هو تناقض السياسات، خصوصاً في الولايات المتحدة.
انس بن فيصل الحجي