النهارالاخباريه وكالات
بحكومة وبلا حكومة في لبنان، يطغى الصراع الأميركي الإيراني وتداعياته الإقليمية على الوضع الداخلي المأزوم، وبات يتحكم بوضوح أكثر بمصير الأزمة اللبنانية من دون التفات أي من أطرافه إلى الحاجة الملحة لحلول لمعاناة اللبنانيين غير المسبوقة بفعل صعوبة حصولهم على أساسيات حياتهم اليومية من كهرباء ومياه ومحروقات وأدوية واستشفاء ومواد غذائية.
أطلق إعلان الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله عن إبحار باخرة محملة بالمازوت من إيران مرحلة جديدة من هذا الصراع على النفوذ في لبنان صباح 19 أغسطس (آب) بحجة تأمين الطاقة لمولدات الكهرباء في المستشفيات والمخابز ومصانع الأدوية والأمصال... ثم ردة فعل السفيرة الأميركية دوروثي شيا بعد ظهر اليوم نفسه باتصالها برئيس الجمهورية ميشال عون لتنبئه بمساعدة لبنان على استجرار الكهرباء من الأردن، عبر سوريا وكذلك الغاز المصري بالطريقة نفسها، تنافساً على تأمين المساعدات للبنان. إلا أن هذا التنافس الذي يفترض أن يستفيد منه لبنان، عكس تصاعد الصراع في البلد الصغير الواقع بين سندان الهيمنة الإيرانية على السلطة السياسية فيه من طريق حليف الحزب الرئيس عون ومطرقة الشروط الدولية والأميركية بوجوب تنفيذ ملموس لإصلاحات اقتصادية تحد من الفساد، والنأي به عن صراعات المنطقة التي أقحمه فيها الحزب. وهو ما يحتاج إلى قيام حكومة ينتظرها اللبنانيون والمجتمع الدولي منذ 10 أغسطس 2020.
بصرف النظر عن التفاصيل للتناحر على الحصص في تشكيل الحكومة الجديدة، الذي استهلك رئيسين للحكومة جرى تكليفهما من الأكثرية في البرلمان ثم اعتذرا (السفير مصطفى أديب وزعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري) نتيجة خلافهما مع الرئيس عون، فإن الحيثيات المحلية الضيقة المتعلقة بالسيطرة على القرار الحكومي باتت غطاء لتحوّل لبنان إلى ساحة رئيسة من الصراع الإقليمي، كشف عنه الاندفاع الإيراني نحو تحدي العقوبات الأميركية على بيع النفط بإرسال باخرة المازوت، بحجة المساعدة الإنسانية، ثم بإعلان نصر الله يوم الأحد 22 أغسطس، أن باخرة ثانية محملة بالمحروقات ستبحر خلال أيام من إيران.
بات إرسال إيران للباخرة موضوعاً يتعدى بأهميته أولوية تشكيل الحكومة، نظراً إلى ما يرتبه ذلك من مخاطر خارجية وانقسامات داخلية، وسط صمت رسمي حيال تولي "حزب الله" استيراد المازوت، على الرغم من إعلان نصر الله أن المازوت سيوزع على كل لبنان. فالأخير هدد أميركا وإسرائيل إذا تعرضتا للباخرة أو التي ستتبعها. وجاءت تهديداته في الخطابين الأخيرين، في سياق هجوم عنيف على الوجود الأميركي في المنطقة تحت شعار إخراج القوات الأميركية منها بدءاً بالعراق. وشمل هجوم الحزب السفيرة الأميركية شيا متهماً إياها بالتحريض على "المقاومة"، وركز للمرة الثالثة على التوالي على اتهام منظمات المجتمع المدني غير الحكومية بأن بعضها يحصل على التمويل منها، ولم يوفر من سماهم حلفاء أميركا من اللبنانيين بشبهة التآمر ومواكبة الحصار الأميركي على لبنان للتسبب بانهيار الدولة... وقال نصر الله، "وبعد ذلك يأتون هم (الأميركيون) المنقذ وتحت ضغط الجوع وضغط البنزين والمازوت والدواء وانهيار العملة والفوضى وغياب الأمن الاجتماعي، يأتون ليفرضوا حكومتهم وشكل الانتخاب الذي يناسبهم والرئيس الذي يناسبهم". وتجاوز بهذا الكلام الاتهامات الموجهة إلى الحزب بأن سياساته الداخلة وتحالفاته الإقليمية سبب أساس في تدهور الاقتصاد والمالية العامة.
وإذ كشف نصر الله بمطالعته ضد أميركا أن معاكسته للسياسة الأميركية تشمل الاستحقاقات الدستورية التي على لبنان مواجهتها، وصولاً إلى آخر عهد الرئيس عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فإنه بدا في هذا الموقف متماهياً مع حجج عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل العلنية والضمنية، بأن هناك مؤامرة لتقويض الحكم الحالي، الأمر الذي يملي فرض شروط الفريق الرئاسي على التركيبة الحكومية. في المقابل يعطي تصنيف نصر الله الأهداف الأميركية في خانة السعي لتغيير الحكم في المؤسسات وتغيير الأكثرية الحاكمة، صدقية للقوى السياسية المعارضة التي تعتقد أن "حزب الله" يقف وراء شروط عون- باسيل، تاركاً لهما السعي لفرضها، بالتالي التسبب بامتداد الفراغ الحكومي إلى أن يتحقق للحليفين السيطرة على الحكومة المقبلة، في مواجهة سعي أميركا لإضعاف الحزب، وصولاً للإبقاء على الأرجحة لهما في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، النيابية والرئاسية.
إلا أن إقحام لبنان في الذروة الجديدة من الصراع الإيراني الأميركي له أبعاد تتعدى ما هو ظاهر من المواقف. وفضلاً عن أن الجانب الإيراني يربط البلد بخطته الإقليمية ضد الولايات المتحدة من العراق إلى اليمن، مروراً بسوريا وغزة حيث عاد التوتر يخيم على القطاع بين "حماس" والجيش الإسرائيلي، فإن استقدام باخرة المازوت الإيراني قد تكون شرارة مواجهة عسكرية بعد أن اعتبرها نصرالله أرضاً لبنانية، منذراً بأنه سيرد على أي استهداف لها. وفي المقابل إذا بلغت الباخرة البحر الأبيض المتوسط وتوجهت نحو مرفأ بانياس السوري بدل تفريغها في أحد المرافئ اللبنانية، فإن ذلك كسر علني لقانون "قيصر" للعقوبات على سوريا وتحدٍ للعقوبات الأميركية على تصدير إيران لنفطها.
وهناك من يعتقد بأن الجانب الإيراني نجح، في استدراج الجانب الأميركي إلى كسر قانون "قيصر" حيال سوريا أيضاً، بعرضه إعفاء لبنان من العقوبات إذا جرى نقل التيار الكهربائي من الأردن عبر الأراضي السورية إليه، أو لنقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا أيضاً، وفق إعلان السفيرة الأميركية أن حكومتها تسعى للمساعدة في هذا الإطار. ولا تستبعد بعض الأوساط السياسية أن يشجع وصول الباخرة رجال أعمال لبنانيين على التعامل الاقتصادي مع سوريا في حال نجح وصول الباخرة إلى الشاطئ السوري ونُقلت حمولتها بالصهاريج إلى لبنان. فوزير الطاقة اللبناني ريمون غجر المقرب من "التيار الحر" قال، إنه لم يتقدم أي أحد بطلب إذن لرسو باخرة المازوت الإيراني في أحد الموانئ اللبنانية، معتبراً أن إعطاء هذا الأذن "صعب".
اعتبر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع تعليقاً على خطوة نصر الله استقدام المازوت الإيراني، أن "أزمة سوريا في المحروقات هي التي ضاعفت أزمة لبنان من خلال التهريب الممنهج الحاصل" ودعا إلى أن تحل إيران مشكلة سوريا بالمحروقات فتحل نصف مشكلة لبنان. لكن بعض العاملين في قطاع تجارة النفط أشاروا إلى أن ما جرى هدفه كسر الحصار على إيران قبل ما سماه نصر الله "كسر الحصار على لبنان". فالمازوت الإيراني اشتراه رجال أعمال لبنانيون لا تهمهم العقوبات "وهم جاهزون أن يضحوا" كما قال نصر الله، أي أنهم من المقربين من الحزب، ودفعوا ثمنه بالدولار الأميركي وبسعر السوق العالمية، أي بالسعر الذي تشتريه الشركات اللبنانية التي لها علاقات مع زعامات سياسية، تستفيد من مغانم تلك الشركات ومنها تلك التي يملكها مقربون من الفريق الحاكم الحالي. واستقدام المازوت بهذا الشكل خدمة مالية لطهران قبل أن تكون للبنان ولتلبية احتياجاته. والذين مولوا استقدام المحروقات من إيران باتوا مؤهلين ليكونوا جزءاً من قطاع تجارة النفط في البلد، وأسهموا عملياً في إدخال طهران إلى هذا القطاع. فنصر الله ذهب إلى حد القول إنه "إذا كانت هناك شركات لا تجرؤ على الحفر للتنقيب عن الغاز والنفط في البحر وخائفة من إسرائيل ومن العقوبات الأميركية، نحن جاهزون أن نأتي بشركة إيرانية عندها خبرة عظيمة جداً بالحفر لتبحث عن النفط والغاز وليضربها الإسرائيلي".
وعلى الرغم من تأكيد "حزب الله" أنه "ليس المطلوب منا أن نأتي بكامل كمية البنزين التي يحتاجها الشعب اللبناني، ولا كامل كمية المازوت، ونحن لسنا بديلاً عن الدولة لا في هذا الأمر ولا في غيره"، فإن عرض التنقيب عن النفط والغاز من قبل الحزب، مقدمة لطرح مسألة شراكته في هذا القطاع الذي يدر مالاً وفيراً، بات يحتاجه لتمويل نشاطاته في ظل تناقص مداخيل إيران، بفعل استمرار العقوبات عليها.