الأحد 24 تشرين الثاني 2024

المحكمة الجنائية الدولية علّقت رخصة إسرائيل للقتل

النهار الاخباريه مقالات ديفيد هيرست

على مدار 76 عاماً، كانت لدى إسرائيل رواية تعمل كدرع وقائية أقوى من أي قبة حديدية. 
بالنسبة لضحايا المحرقة، والتي تعد من أسوأ حالات القتل الجماعي في التاريخ الحديث، لم يكن تقرير المصير ليهود ما بعد المحرقة مهماً فحسب، كما روّجت هذه الرواية، بل كان ضرورة أخلاقية. لكن ذهبت الرواية إلى أن أي دولة كانت ستنشأ فهي محصنة ضد القانون، وبذلك أصبحت إسرائيل فوق القانون الدولي. 
وصارت إسرائيل واحدة من أكبر الاستثناءات في النظام الدولي؛ إذ سُمح لها بألا تكون لها حدود إقليمية محددة ولا تلتزم بالأعراف والقواعد الدولية، وسُمح لها بالاحتلال وبالاستيطان في المناطق التي احتلتها. وقد سُمح لها بمهاجمة جيرانها بشكل استباقي بوتيرة منتظمة. بل وسُمح لها باستخدام الأسلحة النووية خارج سيطرة أي سلطة تنظيمية.
بالإضافة لذلك، لا تعترف بالمواطنة التي هي أساس الدولة القومية الحديثة، فتقوم بشكل ممنهج بممارسة التمييز العنيف ضد المواطنين غير اليهود، ومع ذلك لا يزال يتم قبولها في ركب الدول الديمقراطية. ولم تقف إسرائيل عند تلك الاختراقات، بل سُمح لها بفرض حصار على غزة وتجويع سكان القطاع لمدة 16 عاماً فحسب، بمساعدة ومباركة المجتمع الدولي.
وبذلك أصبحت إسرائيل استثناء في النظام الدولي، وصار كل من يرفض عقيدة هذه الدولة العنيفة يواجه النفي السياسي. وضمن هذه الرواية أيضاً، روّجت إسرائيل نفسها "قارب نجاة" لليهود الذين يواجهون معاداة السامية في الغرب على حساب الفلسطينيين وأرضهم.
لمدة 76 عاماً، حصلت إسرائيل حرفياً على رخصة للقتل حتى يوم الإثنين الماضي.
فلقد فعل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، ما هو أكثر بكثير من مجرد التقدم بطلب لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت؛ إذ تمكن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من دحض الأسطورة القائلة بأن أي زعيم أو مسؤول أو جندي إسرائيلي يقع خارج نطاق القانون الدولي.
فتح صندوق باندورا
أعتقد أن بنيامين نتنياهو كان محقاً في قلقه بشأن العواقب، التي هي في واقع الأمر بعيدة المدى. فلقد فُتح "صندوق باندورا" ( تعود العبارة لأسطورة يونانية، والتي باتت استعارة ترمز إلى سيل المفاجآت غير السارة التي تأتينا من المجهول)، الحقيقي بواسطة هذا الطلب. 
نعم، في الوقت الحالي، إنه مجرد طلب أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية. وقد شهدنا حالات سابقة رُفض فيها مثل هذا الطلب في البداية، كما حدث مع زعيم ميليشيا رواندي مطلوب على خلفية جرائم ارتكبت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو مع عمر البشير، الرئيس السوداني السابق.
لكن الدائرة التمهيدية المؤلفة من ثلاثة قضاة يجب أن تقنع نفسها فقط بنقطتين؛ النقطة الأولي أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن جريمة واحدة على الأقل تدخل في نطاق اختصاص المحكمة قد ارتُكبت، وأن اعتقال الأشخاص المذكورين "يبدو ضرورياً" لضمان مثولهم أمام المحكمة، ولضمان عدم تعريضهم التحقيق للخطر أثناء المحاكمة، ولضمان عدم تمكنهم من الاستمرار في ارتكاب نفس الجريمة.
ونظراً للترهيب والهجوم الذي تعرضت له المحكمة ذاتها، مع تهديد الولايات المتحدة لأعضائها بالعقوبات، فإن أمراً ثالثاً غير مكتوب سوف يلوح في أذهانهم، وهو الحاجة إلى دعم استقلال المحكمة الجنائية الدولية.
وإذا أذعنوا لهذه الضغوط فإن شرعية المحكمة الجنائية الدولية سوف تنتهي، علاوة على ذلك فإن الأدلة التي تثبت الاتهامات السبعة هي أدلة دامغة.
إذا صدرت أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فإن كل عضو آخر في مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي والآلة العسكرية، وصولاً إلى جندي الاحتياط المتواضع الذي يقوم بتحميل مقاطع الفيديو الملتقطة على جهاز آيفون الخاص به، يمكن أن يواجه نفس الاتهامات.
النقطة الثانية التي يجب أخذها في الاعتبار هي أن الاتهامات تتعلق فقط بما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول أو بعده. وقد استند خان في طلبه إلى تقرير أعدته لجنة من خبراء القانون الدولي، الذين ركزوا على سياسة التجويع والحصار التي تنتهجها إسرائيل، وتقييد الوسائل اللازمة لبقاء السكان ككل على قيد الحياة. ولم يدرس الخبراء الآثار القانونية المترتبة على القتل الجماعي للمدنيين.
إذا تمت الموافقة على هذا الطلب، أو حتى إذا تم رفضه مؤقتاً، فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يعود إلى لحظة قبول فلسطين عضواً في عام 2015. وفي عام 2021، وقد فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في مزاعم جرائم الحرب المرتكبة منذ يونيو/حزيران 2014 في فلسطين المحتلة.
إن طلب المدعي العام، الذي صدر يوم الاثنين الماضي، يتعلق بما يجري في الوقت الحاضر. وبالتالي ينتظرنا طابور متزايد من الطلبات حول كل ما فعلته إسرائيل في الأراضي المحتلة خلال العقد الماضي.
تاريخ طويل
إن تلك الذراع الطويلة لقانون المحكمة الجنائية الدولية لها تاريخ مرير؛ إذ لم يكن طلب خان نتيجة عمل لحظة واحدة، أو في الواقع عمل رجل واحد ربما كان يعتقد أن أوكرانيا ستكون إرثه الرئيسي بعد أن أصبح المدعي العام في عام 2021.
فلقد كان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي المحتلة محل نزاع شديد، وكان يتعين التغلب على سلسلة من العقبات قبل أن يتم إصدار هذا الطلب. حيث لم يتم الاعتراف بفلسطين في البداية كدولة، لذلك لم يُسمح لها بأن تكون جزءاً من المحكمة الجنائية الدولية. ثم مورست ضغوط هائلة، بما في ذلك التهديد بفرض عقوبات أمريكية على السلطة الفلسطينية حتى لا تستخدم عضويتها لملاحقة إسرائيل.
فيما بعد، كان على المحكمة الجنائية الدولية أن تناقش ما إذا كانت تتمتع بالولاية القضائية على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلتين، وكان قرار المدعية العامة السابقة، فاتو بنسودا، هو الوحيد الذي سمح بالمضي قدماً في الإجراءات الحالية. لكن تلك المناقشة استغرقت 6 سنوات من عام 2015 إلى عام 2021.
وكانت الحاجة إلى تدخل المحكمة الجنائية الدولية واضحة للغاية. وشهدنا عدداً من المحاولات القانونية الفاشلة لحمل المسؤولين الإسرائيليين على المثول أمام القضاء في الخارج بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.
فقد واجه رئيس الوزراء السابق أرييل شارون ووزير الدفاع السابق شاؤول موفاز ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني احتمالية الاعتقال إذا زاروا لندن. لكن رئيس الوزراء السابق جوردون براون دافع عن ليفني قائلاً إنه "يعارض تماماً" مذكرة الاعتقال التي أصدرتها محكمة بريطانية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، واتصل وزير الخارجية السابق ديفيد ميليباند هاتفياً بنظيره الإسرائيلي لتقديم اعتذار.
وحينها قال ميليباند، تحديداً في عام 2009، إن القانون البريطاني الذي يسمح للقضاة بإصدار أوامر اعتقال ضد شخصيات أجنبية "دون أي معرفة مسبقة أو مشورة من المدعي العام" يجب تغييره، وقد حدث ذلك بالفعل. وتحتاج كل هذه المحاولات الآن إلى موافقة المدعي العام قبل إصدار مذكرة التوقيف.
الولايات المتحدة تورط نفسها في المتاعب
إن رد الفعل الحالي من جانب الولايات المتحدة إزاء توصية المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر الاعتقال يشكل مؤشراً آخر على ما هو على المحك، إذ تتراوح هذه الردود بين التهديدات الصريحة لأعضاء المحكمة ومحاولات وقف تمويل السلطة الفلسطينية إذا استمرت في دعم قضية المحكمة الجنائية الدولية.
فأعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن غضبه من حقيقة أن المحكمة الجنائية الدولية كانت تساوي بين إسرائيل وحماس من خلال السعي أيضاً إلى إصدار أوامر اعتقال بحق ثلاثة من قادة حماس. وقال بايدن: "دعوني أكن واضحاً: مهما كان ما قد يعنيه المدعي العام، لا يوجد تكافؤ بين إسرائيل وحماس، سنقف دائماً إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات لأمنها".
بينما ذهب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر إلى أبعد من ذلك بقوله إن النتيجتين المفضلتين لواشنطن بالنسبة لقادة حماس هما الاغتيال أو المحاكمة أمام محكمة إسرائيلية. وقال ميلر: "نحن بالتأكيد نعتقد أنه ينبغي محاسبة حماس، إما أن يكون هذا بواسطة مواصلة الحرب أو من خلال قتلهم، أو تقديمهم للعدالة في محكمة إسرائيلية".
ويبدو أن إدارة بايدن تصر على أن تتورط وتضع نفسها في المتاعب. ففي حال اتبعت الولايات المتحدة نهجها الخاص بمعاقبة السلطة الفلسطينية، أو سحب التمويل، أو تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية من خلال فرض عقوبات على قضاتها ومدعيها العام، فسوف تطلق النار على قدمها. 
فإذا اتفق بايدن مع ما قاله وزير الخارجية السابق مايك بومبيو بأن المحكمة الجنائية الدولية هي "محكمة صورية"، وحاول تقويضها، فماذا سيحل بالمحاكمة التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره مجرم حرب لغزوه أوكرانيا، وهي محاكمة تدعمها الولايات المتحدة؟ ماذا سيحدث لجميع أعمال المحكمة الجنائية الدولية المهمة الأخرى؟ 
والأهم من ذلك، ماذا سيكون مصير المحاولات الأمريكية لإنشاء سلطة مدنية للسيطرة على غزة بدلاً من حماس، إذا أوقفت واشنطن تمويل الذراع الأخرى للحكومة الفلسطينية؟ 
يدعي بايدن أنه يريد إعادة بناء الدولة الفلسطينية بعد انتهاء هذه الحرب، لكنه بدلاً من تنفيذ ذلك ينخرط بشكل كامل مع الإسرائيليين في تفكيكها.
لحظة فاصلة
أما بالنسبة لحماس، فإن احتمال توجيه الاتهامات إلى قادتها لا يشكل مشكلة كبيرة. فبعد أن رحبت حماس بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، أدانت قرار المحكمة بطلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، وزعيمها في داخل غزة يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، بحجة أن المقاومة المسلحة ضد الاحتلال منصوص عليها في قرارات الأمم المتحدة.
ولكن بما أن حماس مدرجة كمنظمة إرهابية في معظم أنحاء الدول الغربية، فلن يتغير الكثير، باستثناء حقيقة أن هنية قد لا يثق في القيام بزيارة إلى مصر في ظل المناخ الحالي.
أياً كانت الطريقة التي ينظر بها إلى الأمر، فإن هذه اللحظة فاصلة، إذ تخرق هذه اللحظة حصانة إسرائيل وتحرج مؤيديها بشدة. وتكشف، كما لم يحدث من قبل، الطبيعة الاستعمارية للموقف القائل بأن العدالة الدولية تنطبق على الآخرين فقط.
إذ على لسان خان نفسه نقل عن زعيم غربي، لم يذكر اسمه، ما قاله بأن "هذه المحكمة بُنيت من أجل أفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين". وكما لاحظ خان، كانت هذه إدانة مؤسفة لمحكمة تم إنشاؤها كإرث لمحاكمات نورمبرغ. 
لذلك فقد كانت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية ( أيباك) محقة في تحذير الولايات المتحدة من أنه إذا صدرت أوامر المحكمة الجنائية الدولية، فإن الأمر نفسه قد ينطبق على القوات الأمريكية. وقالت "أيباك" في بيان: "إن هذه الإجراءات التي اتخذتها المحكمة تشكل تهديداً خطيراً: قد يواجه المسؤولون والمواطنون الأمريكيون والإسرائيليون السابقون والحاليون مذكرات اعتقال سرية أو أوامر استدعاء صادرة عن المحكمة والتي تلتزم الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بتنفيذها".
التوقف عن دعم إسرائيل
إنها حرب بلا نهاية، حيث لم يتم وضع خطة ذات مصداقية لمستقبل غزة. إنها حرب حيث يُساق مئات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء في غزة مثل الماشية من خيمة إلى أخرى، بينما تواصل إسرائيل قطع جميع المساعدات. وكل هذا يحدث تحت مظلة الإفلات من العقاب.
بينما يعجز بايدن عن أن يدرك مدى الضرر الذي يلحقه ببلاده داخلياً وحارجياً من خلال التمسك بعادة دعم إسرائيل مدى الحياة.
لقد أدى تحرك المحكمة الجنائية الدولية إلى انقسام الدول التي دعمت الهجوم الإسرائيلي المستمر منذ سبعة أشهر. وأصبحت المملكة المتحدة معزولة عن أوروبا بسبب إصرارها على أن المحكمة ليس لها اختصاص قضائي في فلسطين. وأعربت فرنسا وبلجيكا ودول أخرى عن دعمها لتحقيق المحكمة الجنائية الدولية.
وكذلك فعل جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الذي ذكّر الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بضرورة تنفيذ أحكام المحكمة. 
لكن بالنسبة لهؤلاء القادة، مثل بايدن، الذين يجدون صعوبة في التخلص من عادة دعم إسرائيل، فيصبح هذا الدعم يوماً بعد يوم مكلفاً. فقد بات هذا الدعم يعني إنكار أشياء من المستحيل إنكارها، كالفصل العنصري، وإنكار الإبادة الجماعية، وإنكار جرائم الحرب مثل المجاعة الجماعية. وتتزايد لائحة الاتهام بل وتزداد استحالة الدفاع عنها. 
لم تمزق الحرب سمعة إسرائيل الدولية فحسب، بل دمرت المكانة العالمية لأولئك الذين يواصلون دعمها. ومؤشرات ذلك باتت واضحة بالنسبة لهؤلاء الداعمين؛ وإن كانت قد أتت متأخرة.