لم يكد يمضي يوم واحد على الإفراج عن الأسير المقدسي مجد بربر (45 عاماً)، بعد اعتقال دام 20 عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حتى أعيدَ اعتقاله مجدداً لفترة محدودة، قبل أن تفرج عنه سلطات الاحتلال من جديد في اليوم التالي، لكن بشروط. إجراء بات يتكرر مع الكثيرين من الأسرى المقدسيين.
أفرجت سلطات الاحتلال عن بربر أواخر الشهر الماضي، وتحديداً في التاسع والعشرين منه، ليعاد اعتقاله مساء اليوم التالي بعد مداهمة منزله في منطقة رأس العمود في القدس، بذريعة خرقه شروط الإفراج عنه وإقامة حفلات استقبال.
اعتُقِل بربر بعد أن داهم عدد كبير من أفراد شرطة الاحتلال خيمة أقيمت أمام منزله، حيث كان يُفترض تنظيم حفل استقبال له، وبعد إطلاق كثيف لقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق مئات المهنئين بالإفراج عنه.
وعمدت سلطات الاحتلال إلى الإفراج عن بربر في اليوم التالي (31-3)، بشرط عدم رفع الأعلام الفلسطينية أو رايات الفصائل، ومنع المسيرات وإطلاق الألعاب النارية والمفرقعات في محيط منزله، والحفاظ على القيود المرتبطة بجائحة "كورونا"، ومنع أي خطابات في المنزل يُذكَر فيها الشهداء.
وبحسب بربر، حاولت سلطات الاحتلال تبرير إعادة اعتقاله بإقامة حفل استقبال له، لكنه يعتقد أن السبب هو منعه من المشاركة في حفل استقبال كان يُفترض أن يضم عدداً كبيراً من المواطنين من مختلف محافظات الضفة الغربية.
ويضيف: أعتقد أن السبب الكامن وراء إعادة اعتقالي يتعلق بمنعي من التحرك والوصول إلى الضفة، إذ كان يُفترض أن يقام حفل استقبال لي بمشاركة أهلي وأحبائي مساء اليوم الذي أعيدَ فيه اعتقالي.
ولم يستغرب بربر ما حدث معه، باعتبار أنه جرت محاولات لمساومته وفرض شروط معينة عليه قبيل الإفراج عنه.
يقول بربر عن ذلك: في اللحظة التي كان يُفترض الإفراج عني بعد عشرين عاماً من الاعتقال، أُعيدَ اعتقالي من بوابة السجن الذي كانت عائلتي تنتظرني عند مدخله، حيث اقتُدتَ إلى مركز التحقيق في "المسكوبية"، وحاولوا فرض شروط عليّ، أبرزها الالتزام بالاعتقال المنزلي مدة خمسة أيام، علاوة على فرض إبعاد عن الضفة مدة 10 أيام، وهو ما رفضته بالمطلق.
ويتابع: من الواضح أن الاحتلال لا يريد لنا الفرح، ويسعى لتنغيص سعادة الأسرى المقدسيين بالذات، لكن لا يمكن لأي فلسطيني قبول ذلك، من هنا، في إمكان الاحتلال أن يفعل ما يريد، لكنه لن ينجح في النيل من إرادة الصمود والتحدي والنضال الراسخة في داخلنا.
وتقول زوجته فاطمة: كانت لحظة إعادة اعتقال مجد صعبة جداً، وبصورة خاصة بعد هذا الفراق الذي دام طويلاً. وتردف: الاحتلال لا يريد لنا أن نكون سعداء، ولا سيما أننا من القدس، بيْد أننا كمقدسيين لا يمكن أن نقبل إجراءات الاحتلال، أو أن نخضع لرغباته وتطلعاته.
ولا تُعتبر قصة عائلة بربر فريدة في نوعها، إذ واجهت عائلة الأسير المقدسي مالك بكيرات (42 عاماً) وضعاً لا يقل قساوة. تقول والدته فدوى بكيرات: قضى إبني حكماً بالسجن 19 عاماً، وأُفرج عنه نهاية العام الماضي، لكن بمجرد تحرُّره من سجن النقب، تم نقله مباشرة إلى مركز التحقيق في "المسكوبية".
وتضيف: لم تقتصر الأمور على إعادة اعتقال مالك، إذ اعتُقل أيضاً والده ناجح بكيرات (63 عاماً)، ولم يفرَج عنهما إلّا بعد فرض سجن منزلي مدة أسبوع وغرامة مالية بقيمة 5000 شيكل.
وتتابع بكيرات: كان اعتقال الأب والابن حدثاً كبيراً وصعباً بالنسبة إلينا. وهي تعزو ما أقدم عليه الاحتلال إلى "رغبته في ألّا يرى الفرحة مرسومة على وجوه المقدسيين." وتقول: يستعمل الاحتلال هذه الوسيلة كأداة ضغط على المقدسيين. لقد طلبوا منا بعيْد الإفراج عن زوجي وابني عدم إقامة تجمعات احتفالية كبيرة أو رفع أعلام ورايات لأي فصيل.
يوجد في سجون الاحتلال الإسرائيلي نحو 570 أسيراً مقدسياً من ضمن العدد الكلي للأسرى، البالغ نحو 4000 أسير، بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين.
ويرى الأسير المقدسي المحرَّر بلال عودة (43 عاماً) أن ما يقوم به الاحتلال بحق الأسرى المقدسيين يندرج في إطار السياق الاستعماري الذي يمارَس بحق أبناء الشعب الفلسطيني.
ويتابع عودة الذي أُفرج عنه في سنة 2019 بعد اعتقال دام 18 عاماً: إعادة الاعتقال هي إجراء انتقامي، ومحاولة لردع وثني الأسرى وذويهم وأحبتهم عن ممارسة الدور الوطني، وخصوصاً أن المجتمع ينظر إلى الأسير على أنه شخصية اعتبارية ومناضلة، وبالتالي يريد الاحتلال تبهيت هذه الصورة وإضعافها.
يرى عودة أن الاحتلال يرمي من وراء فعلته هذه إلى تجسيد سيطرته وسيادته على القدس، ومن هنا يقوم بفرض قيود، ليس على الأسرى المحرَّرين فحسب، بل على جثامين الشهداء التي يتحفظ عنها لفترات طويلة، ويحدد موعد مراسم الدفن وعدد المشاركين فيها.
ويضيف: من الواضح أن هناك بعداً سياسياً لعملية إعادة الاعتقال عبر محاولة طمس الهوية الوطنية والثقافية للقدس، فقضية الأسرى تُعتبر حساسة بالنسبة إلى الاحتلال الذي يرى أنها تمتاز ببُعد تحريضي كون الأسير يعدُّ بطلاً، ومن هنا يتطلع إلى عدم وجود دور وطني فلسطيني في القدس.
وبحسب عودة، تعود عملية إعادة اعتقال الأسرى المقدسيين أساساً إلى 7 سنوات خلت، ويتابع قائلاً: "قبل ذلك كان هناك بعض القيود، لكن في حالات نادرة جداً، بيْد أن الصورة اختلفت بحلول سنة 2014 لأن الاحتلال أراد ألّا يبدو الأسرى المحرَّرون منتصرين، وبالتالي بدأت هذه الإجراءات بالتفاقم شيئاً فشيئاً، وتحديداً بحق الأسرى ممن أمضوا محكوميات طويلة."
ويقول: تشمل القيود منع التنقل إلى الضفة، وأحياناً الإبعاد إليها، ومنع أي مظاهر احتفالية، أو رفع الأعلام الفلسطينية، أو المشاركة في تجمعات تضم أكثر من 5 أشخاص، وغير ذلك.
ولا يزال يذكر، كيف أقدمت سلطات الاحتلال في صبيحة يوم الإفراج عنه، على مطالبته بتوقيع وثائق تنص على عدم إقامة أي احتفالات بمناسبة تحرّره من السجن، لكنه رفض ذلك.
ويضيف: أتذكر أنني كنت وأشقائي في طريقنا إلى منزلنا في منطقة التلة الفرنسية، بينما كان أفراد من شرطة الاحتلال هناك، حيث قاموا بالتهديد باتخاذ إجراءات عقابية بحقنا في حال القيام بأي مظهر احتفالي.
من ناحيته، يحدد المتحدث باسم هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين حسن عبد ربه إجراءات إعادة اعتقال الأسرى المقدسيين بشكلين، الأول يستهدف بالذات الأسرى الذين أمضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال عبر الاعتقال فترة وجيزة، كما حدث مع بربر.
ويقول: هذا الشكل من إعادة الاعتقال يأتي كإجراء تحذيري، لمنع إقامة أي مظاهر احتفالية بتحرّر الأسير بعد غيابه القسري الطويل.
ويشير عبد ربه إلى أن عملية الاعتقال تدوم عدة ساعات، وأحياناً فترة 24 ساعة، مبيناً أن ذلك يرتبط أحياناً بفرض قيود على الأسير، مثل إبعاده إلى خارج القدس.
أمّا الشكل الثاني وفق عبد ربه، فإنه أشبه ما يكون بـ "الاعتقال الاحترازي التحذيري"، لمنع الأسير من القيام بأية أنشطة، أو المشاركة في تظاهرات وأعمال مقاومة شعبية.
ويقول عبد ربه: بهذا الشكل العقابي تعمد سلطات الاحتلال إلى إعادة اعتقال الأسير وهو على مدخل السجن، وفرض عقوبات عليه، مثل الإبعاد عن القدس لفترة.
ويضيف: الهدف في الحالتين هو الحد من تحركات الأسير ودوره في النشاط الاجتماعي والمؤسساتي.
ويبين أن الشكلين يستهدفان أسرى أمضوا في سجون الاحتلال فترات تتراوح عادة ما بين 10 و15 عاماً، أو تتجاوزها لتصل إلى 20 عاماً في بعض الحالات.
ويوضح أن هذه الإجراءات تعود إلى سنوات خلت، لكن ذلك لا يعني عدم وجود استثناءات.
ويقول عبد ربه: عادة يجري استهداف الأسرى ممن أمضوا فترات طويلة بإعادة اعتقالهم، لكن حتى مَن أمضوا فترات تصل إلى خمسة أعوام، يتم أحياناً فرض نوع من المضايقات عليهم.
مدير عام مؤسسة "الحق" شعوان جبارين يعتبر أن إعادة اعتقال الأسرى المقدسيين هي أحد أشكال الاضطهاد الذي تمارسه سلطات الاحتلال.
ويقول جبارين: لا يوجد أي منطق باستثناء الاضطهاد يمكن أن يفسر هذا الوضع، فنحن نتحدث عن اعتقال تعسفي حتى لو لم تزِد مدة الاعتقال عن دقيقة واحدة.
ويتابع قائلاً: ما نراه عبارة عن أحد أشكال الضغط الذي يمارَس بحق الأسرى المقدسيين، بعيداً عن أية معايير قانونية.
ويضيف جبارين: على الرغم من أن إعادة الاعتقال أقل وطاة من الاعتقال الإداري الذي يطال حالياً نحو 450 أسيراً، بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، إلاّ إنها تمثل حالة من الاستهداف للأسرى.
ويردف: يهدف الاحتلال عبر مثل هذه الإجراءات إلى المسّ بالأسرى وكسر إرادتهم، وفي هذه الحالة التي نتحدث عنها لا ننسى أيضاً أن الموضوع مرتبط بمدينة القدس.
ويتابع: لا يريد الاحتلال أن يرى أي مظاهر وطنية فلسطينية في القدس، حتى لو كانت عبر رفع العلم الفلسطيني، لذا نراه يستهدف الأسرى المقدسيين بالذات بعيْد الإفراج عنهم.
وهو يقرّ بأن هناك قصوراً من الهيئات الحقوقية الدولية في التعامل مع هذه الظاهرة، ويوضح أن المشهد الفلسطيني بات مفتوحاً أمام عدد كبير من أشكال الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية، سواء المرتكَبة من قوات الاحتلال أو من المستوطنين.
ويقول جبارين: لو لم يُقَم حفل استقبال شعبي للأسير بربر في القدس، لما أُعيدَ اعتقاله مجدداً، لكن من الجليّ أن فرحة الفلسطيني في القدس مزعجة للاحتلال.
سائد أبو فرحة: صحافي فلسطيني.