الأحد 24 تشرين الثاني 2024

حرب الغاز واختبار القوة بين روسيا والاتحاد الأوروبي


النهار الاخباريه. وكالات

في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 تعرض العالم للأزمة النفطية الأولى التي استخدم فيها العرب النفط كسلاح سياسي صريح. وفي الشهر ذاته من العام الحالي يشهد العالم أزمة حادة في سوق الغاز، قفزت فيها الأسعار خلال ساعات المعاملات أمس الأول بنسبة 40 ٪. وعلى الرغم من أن السوق هدأت قليلا بعد تطمينات أصدرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن الأسعار عادت للارتفاع في اليوم التالي، لتتجاوز حاجز 40 دولار للمليون وحدة حرارية، وهو ما يقترب من 10 أمثال السعر في الوقت نفسه من العام الماضي. سوق الغاز الاوروبية المعتمدة على الإمدادات من روسيا هي الأكثر تأثرا، لكن سوق الشرق الأقصى هي الأخرى تشهد اختناقات حادة أدت لارتفاع الأسعار إلى أكثر من 36 دولار. ولا تبدو في الأفق حتى الآن مؤشرات على تراجع حدة الأزمة، على الرغم من التطمينات الروسية، وقدرة «غازبروم» على إمداد السوق فعلا باحتياجاتها عبر خطوط الأنابيب، وتقليل الاعتماد على الغاز المسال.

الغاز كسلاح سياسي

أزمة الغاز العالمية، أو حرب الغاز الحالية، تطرح أسئلة مهمة تحتاج إلى إجابات واضحة، بخصوص أسبابها الحقيقية، وتداعياتها المباشرة، ونتائجها المحتملة وتأثير كل ذلك على حالة الاقتصاد العالمي الجريح الذي يحاول الشفاء من نزيف جائحة كورونا.
السؤال الأهم يتعلق بموقف روسيا، وهل استخدمت الغاز كسلاح سياسي للضغط على أوروبا، وهو ما يتردد في أروقة البيت الأبيض وعواصم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. ومن الطبيعي في مناخ الحرب الباردة الجديدة أن تتردد مثل كل هذه الاتهامات. لكن الرئيس الروسي، وإدارة شركة (غازبروم) المورد الرئيسي للغاز الطبيعي إلى أوروبا ينفون تماما ذلك، وقد أكدت الشركة ثم الرئيس على استعداد روسيا لتلبية كل احتياجات أوروبا من الطاقة. فمن أين جاءت الازمة إذن؟

استمرار الأزمة قد يدخل الاقتصاد العالمي في «ركود تضخمي»

ويوضح التقرير الفصلي لوكالة الطاقة العالمية عن حالة السوق في الربع الاخير من العام الحالي، الذي صدر منذ أيام، أن السنة الجديدة لسوق الغاز التي تبدأ في أول أكتوبر، بدأت في ظروف استثنائية تميزت بارتفاع الطلب ووجود اختناقات في العرض لأسباب مختلفة، ومستوى مرتفع للأسعار عن العام الماضي، وهو ما يمكن أن يقود إلى ارتفاع مستوى الأسعار بشكل عام خلال فصل الشتاء الذي يمتد حتى نهاية مارس/ آذار.
وتبين احصاءات بيوت تجارة الغاز العالمية مثل شركة «أرغوس»، وبيانات شبكات الغاز في الاتحاد الأوروبي، أن مستوى المخزون في بداية الشهر الحالي هو الأقل منذ عشر سنوات. وتبلغ نسبة مخزون الغاز المسال لدى الشركات الاوروبية حوالي 72 ٪ مقارنة ب 94 ٪ في بداية أكتوبر من العام الماضي. ويعود انخفاض المخزون إلى انخفاض التعاقدات المبكرة في العام الحالي بنسبة 30 ٪ عما كانت عليه منذ عام، وبنسبة 45 ٪ مقارنة بعام 2018. هذا يعني أن شركات الغاز والطاقة الاوروبية شريك في المسؤولية عن اختناقات العرض. وربما كان ذلك حيلة من جانب الشركات لرفع الأسعار التي تبيع بها الطاقة للمستهلكين، وزيادة الأرباح في سوق استثنائية، على الرغم من المرونة التي تتمتع بها سوق الغاز المسال.
ولا يوجد دليل على أن «غازبروم» قد اتخذت قرار بتخفيض إمداداتها من خلال خط نورد ستريم الأول، إلا ما قد يكون قد حدث خلال أعمال الصيانة السنوية. وليس من مصلحة روسيا أن تفرض عقوبات على نفسها، بينما هي في حاجة إلى إيرادات التصدير. لكن زيادة الإمدادات ترتبط بتشغيل خط نورد ستريم الثاني الذي انتهي العمل فيه، وينتظر اشارة التشغيل التجريبي، حسب الجدول المقرر. ومع ذلك فإن الجماعات السياسية الأوروبية التي تريد المشاركة في الحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة ضد الصين وروسيا، تحاول استخدام كل الأسلحة الممكنة لعرقلة تشغيل خط الغاز» نورد ستريم -2» دون أي اعتبار للأضرار التي تتعرض لها امدادات الطاقة.
وقد أثارت القوى المعارضة لخط الغاز الروسي عراقيل إدارية وقانونية، استنادا إلى قانون تنظيم سوق الغاز الأوروبي، وذلك على الرغم من أن الوكالة الفيدرالية للغاز في ألمانيا كانت قد أصدرت في عام 2019 قرارا باستثناء خط غاز الشمال الروسي – الأوروبي من ذلك القانون. وقالت في تبرير القرار أن الخط يضمن أمان إمدادات الطاقة إلى أوروبا، كما أنه لا يسبب ضررا لقواعد المنافسة في سوق الطاقة الأوروبية في ألمانيا أو في أوروبا بشكل عام.
وجدير بالذكر أن المستشار الألماني الأسبق جيهارد شرودر هو رئيس مجلس إدارة الشركة المالكة لخط نورد ستريم للغاز التي يقع مقرها الرئيسي في سويسرا. كما أن شركات من ثلاث دول أوروبية رئيسية هي ألمانيا وهولندا وفرنسا، تستحوذ وحدها على 40 ٪ من الغاز، تشارك في ملكية خط الأنابيب بنسبة 49 ٪، في حين تملك «غازبروم» الروسية نسبة 51 ٪. وقد أسهمت البنوك الأوروبية في تمويل إنشاء الخط بنسبة الثلث تقريبا، وشاركت شركات من إيطاليا والنمسا مع دول أخرى في أعمال تنفيذ الخط.
ومن الممكن عمليا حل أزمة الغاز الحالية في أوروبا خلال أيام قليلة مع بدء التشغيل التجاري لخط الغاز الروسي الثاني، لكن الجدل الحالي بشأن تعارض الخط مع قواعد المنافسة في الاتحاد الأوروبي، وتسلط فكرة أن روسيا تستخدم الغاز كسلاح سياسي، يعطل تشغيل خط الأنابيب الذي يمثل أهم شرايين الطاقة في أوروبا. هذا يعني عمليا أن أوروبا بتعطيل تشغيل نورد ستريم-2 إنما تستخدم الغاز كسلاح سياسي ضد نفسها وليس ضد روسيا.
هذا التوجه يمكن أن يوقع أوروبا في أزمة خطيرة طويلة المدى، لأن الولايات المتحدة تملك مخزونات كافية من النفط والغاز، بينما لا تملكها أوروبا، لكن تلك المخزونات المتاحة للولايات المتحدة لا تكفيها هي وأوروبا معا، كما أن تكلفة وصول الغاز الأمريكي إلى أوروبا تزيد عن ضعف تكلفة الغاز الروسي، وهو ما يعني انخفاض مستوى المنافسة، وزيادة أعباء الطاقة على المستهلكين الأوروبيين.

من يدفع الثمن؟

تداعيات أزمة الغاز العالمية ظهرت بسرعة، ولم يحتاج العالم للانتظار طويلا حتى يدرك خطورتها، ففي بريطانيا أفلست شركات الطاقة الصغيرة وخرجت من السوق، ويدفع المستهلكون أسعارا أعلى للوقود بشكل عام، وزادت تكاليف الإنتاج مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم خارج حدود التوقعات في الشهر الماضي، ومن المتوقع استمرار ذلك في الشهر الحالي. وإذا استمرت الأزمة دون حل، فإن ذلك يمكن أن يلقي الاقتصاد العالمي من جديد في هوة «ركود تضخمي»، وإذا حدث ذلك بينما الاقتصاد العالمي لم يتعاف بعد، فإن المصيبة ستكون أكبر. ومن المعروف أن «الركود التصخمي» يكون مصحوبا بمعدلات عالية من البطالة والتضخم، كما حدث في سبعينات القرن الماضي، وأسفر عن حالة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية سقطت على أثرها حكومات في أوروبا وتسببت في تغيرات في الادارة الحكومية في الولايات المتحدة.
لقد أرادت الشركات الاحتكارية العاملة في قطاع الطاقة أن تخلق أزمة في السوق، تستخدمها كمبرر في رفع الأسعار وتحقيق أكبر قدر من الأرباح، دون تحمل أي تكاليف. وقد بدأت ذلك بسياسة متعمدة لتخفيض التعاقدات الجديدة، على الرغم من توقعات التعافي الاقتصادي، وهو ما أدى إلى انخفاض المخزون من الغاز المسال، وارتفاع الأسعار في أسواق الطاقة المختلفة للمستهلكين، سواء اسعار الكهرباء او الغاز او وقود السيارات، بما يسهم في زيادة أرباح شركات الطاقة، التي تقوم في العادة بنقل عبء زيادة التكاليف إلى المستهلك النهائي.

هل هناك مخرج؟

نعم. من السهل جدا أن يتم حل الإشكال القانوني بشأن تشغيل خط نورد ستريم الثاني، على أساس قرار الوكالة الفيدرالية الألمانية لشبكات الطاقة بإعفاء شركة الأنابيب من قانون تنظيم سوق الغاز الأوروبي لمدة 20 عاما. بمجرد صدور إشارة واحدة في هذا الاتجاه فإن السوق ستعود للتوازن عند مستوى قريب من السعر في هذا الوقت من العام. وتستطيع «غازبروم» الروسية ضخ إمدادات إضافية من خلال الخط لسد الاحتياجات العاجلة حتى تتمكن شركات الطاقة من زيادة نسبة المخزون من طاقة صهاريج الغاز المسال إلى 95 ٪ حتى نهاية فصل الشتاء الحالي.
لكن شركات الطاقة الاوروبية يجب أن تعمل أيضا على توقيع اتفاقيات شراء غاز مسال جديدة من مصادر مختلفة، مما يسهم في زيادة العرض، والقضاء على الاختناقات الحالية في جانب العرض. وربما يحتاج هذا إلى مزيد من الاستثمارات في قطاع التخزين ومحطات استقبال الغاز المسال. ببساطة، الأزمة الحالية في سوق الغاز العالمية أزمة مفتعلة، تسببت فيها توجهات لتقييد واردات الغاز من روسيا، في إطار الحرب الباردة، وخطة من جانب شركات الطاقة التي تتمتع بمكانة احتكارية، تهدف إلى تحقيق أرباح استثنائية بتخفيض المخزون والامتناع عن توقيع عقود شراء كميات كافية لتلبية زيادة احتياجات الاستهلاك في فصل الشتاء.