النهار الاخبارية - وكالات
عند كل الأزمات الكبيرة ستضطر الحكومات للعودة إلى الثلاثي الأساسي تأمين الطاقة والماء والغذاء
طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أسبوع، من مواطنيه "شد الأحزمة"، لأن زمن الوفرة اللاحق على الحرب العالمية الثانية في أوروبا قد ولى، أو في طريقه إلى الأفول، بسبب نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا، وبسبب التضخم المالي العالمي وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل كبير وغير مسبوق.
وهو ما طلبه أيضاً رؤساء حكومات سائر الدول الأوروبية، ومن بينهم المستشار الألماني أولاف شولتز من مواطنيه، على الرغم من أن الاقتصاد الألماني هو الأقوى حتى اليوم بين اقتصادات الاتحاد الأوروبي.
لا يقصد هنا شد الأحزمة التي نضعها حين نركب الطائرة إقلاعاً وهبوطاً، أو أثناء قيادة السيارة من أجل تحقيق نسبة من الأمان في حال وقوع حادثة مفاجئة، بل الأحزمة المقصودة هي تلك التي نرفع ونشد بها السراويل، وشدها يعني الضغط على المعدة عند الشعور بالجوع من أجل إسكاتها.
وتقال هذه العبارة في المراحل الصعبة التي يتخللها التقشف وتطال المصاريف الحكومية أو الفردية على الأساسيات والتوقف عن شراء أي نوع من أنواع الكماليات والحاجات غير الضرورية. وهذا ما يعني تبدلاً في نمط حياة المواطنين، الذين سيتلقون مساعدات حكومية أقل، والذين سيضطرون إلى التقشف والادخار بعد فترات طويلة ومديدة من العيش في الرفاه.
وباعتبار أن الحاجات الأساسية الضرورية، أي الطاقة والغذاء والماء والمسكن والصحة والتعليم والنقل، مؤمنة بطبيعة الحال من قبل الحكومات في مقابل الضرائب التي يدفعها المواطنون، فإن شد الأحزمة هذه المرة يعني انتهاء زمن الوفرة والرفاه والكماليات في أوروبا.
وقد اتخذت جميع دول الاتحاد الأوروبي قرارات حازمة في خفض استهلاك المياه بسبب الجفاف، الذي يضرب القارة بدرجات لم تشهدها منذ 500 عام بحسب علماء المناخ.
وكذلك اتخاذ قرارات في تخفيض الإنارة والإضاءة العامة واستهلاك الطاقة المنزلية، وهذا كله على أبواب فصل الشتاء المقبل، الذي قد يحل مع كارثة على الأوروبيين حال لم تنته الحرب الأوكرانية إلى اتفاقات ما تعيد الغاز الروسي إلى الأنابيب الذاهبة إلى أوروبا، أو إلى حين يجد الأوروبيون مصادر أخرى لهذا الغاز.
ما مرحلة الوفرة؟
يعرف قاموس كامبريدج الترف أو الوفرة أو الرفاهية بأنها الشعور براحة كبيرة توفرها الممتلكات أو طعام باهظ الثمن أو أشياء جميلة أو القيام بأعمال ممتعة كالسفر، وغالباً ما يكون تحقيق الترف مكلفاً وغير ضروري.
أما في التفسير الاقتصادي، فإنه لا يوجد مقياس واحد لـ"الوفرة" في مجتمعات اليوم، لأن التعريف التقليدي لم يعد ينطبق عليها، وهو أن الوفرة هي نقيض الندرة، وكانت في ما مضى محددة بالطاقة والغذاء والماء، وامتلاك ما يكفي من المال أو الثروة لشراء الأصول الأساسية والموارد الأولية.
لكن هذا التعريف تطور بعد الحرب العالمية الثانية إلى توفير حاجات متقدمة عن الطاقة والغذاء والماء، أي قطاعات الصحة والتعليم والنقل والسكن والضمانات الاجتماعية والتقاعد، التي تطورت بدورها نحو البيئة النظيفة ومصادر الطاقة المتجددة ومجالات التكنولوجيا الكثيرة والمتطورة، التي فتحت الباب واسعاً أمام عالم الترفيه والكماليات والحاجات الثانوية.
ومهما تطور تعريف الوفرة أو الندرة، ففي النهاية عند كل الأزمات الكبيرة ستضطر الحكومات والمجتمعات والأفراد إلى العودة إلى الثلاثي الأساسي والأول، أي تأمين الطاقة والماء والغذاء.
لوصف الحالة الاقتصادية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية يمكن الاستعانة بكتاب "المؤسسات والنمو الاقتصادي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية" لباري إيتشنغرين، ونشرته على الإنترنت مطبعة جامعة كامبريدج، وجاء في مقدمته أن "ربع القرن الذي انتهى نحو عام 1973 كان بالنسبة إلى أوروبا الغربية عصراً ذهبياً للنمو الاقتصادي الأوروبي. ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بما يقرب من الضعف، مقارنة بأي فترة مماثلة قبل أو بعد ذلك".
وبحسب المفكر الاقتصادي، فإنه "في عام 1950 قام قسم من سكان القارة الأوروبية بتدفئة منازلهم بالفحم وتبريد طعامهم بالثلج، وافتقروا حتى إلى أشكال بدائية من السباكة الداخلية. اليوم أصبحت حياتهم أسهل وأكثر رفاهية من خلال أفران الغاز الطبيعي والثلاجات الكهربائية ومجموعة من الأدوات الإلكترونية والكهربائية التي لا يمكن حصر عددها".
كما "تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ثلاث مرات في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحسنت جودة الحياة أكثر من المتوقع، وانخفضت ساعات العمل بمقدار الثلث، مما وفر زيادة هائلة في وقت الفراغ، وزاد متوسط العمر المتوقع نتيجة تحسن التغذية والتقدم في العلوم الطبية، لكن لم يكن كل شيء زهري اللون ويدعو للتفاؤل، فقد ارتفعت نسبة البطالة وارتفعت الأعباء الضريبية، لكن وفقاً لأي معيار موضوعي، فإنه منذ نصف القرن الماضي صار الأوروبيون في وضع أفضل بشكل كبير مما كان عليه أجدادهم قبل خمسين عاماً".
النمو الاقتصادي السريع
تمكنت أوروبا من النمو بسرعة عن طريق إصلاح أضرار الحرب، وإعادة بناء مخزونها الرأسمالي وإعادة نشر الرجال الذين تم تجنيدهم في الحرب إلى الوظيفة العادية في زمن السلم.
وأمكن للقارة بعد ذلك الحفاظ على نموها السريع من خلال استغلال تراكم التقنيات الجديدة التي تم تطويرها بين الحربين العالميتين.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، فتحت الولايات المتحدة الباب الواسع أمام التقدم في مستويات الإنتاج والإنتاجية، واستغلال المعرفة التكنولوجية والتنظيمية الجاهزة للاستخدام التجاري في أوروبا.
ويعرف هذا الجانب من النمو في النصف الثاني من القرن العشرين باسم "التقارب"، وهو الاتجاه نحو مستويات دخل الفرد والإنتاجية نحو التقارب مع المستويات السائدة في الولايات المتحدة".
أما اليوم، فإن اقتصاديي أوروبا يعتبرون أن الحرب الروسية، التي طال أمدها لأوكرانيا خلقت صدمات كبيرة ضربت اقتصاد الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر وغير مباشر، مما وضع الاتحاد على طريق انخفاض النمو وارتفاع التضخم.
وتعمل الزيادة السريعة في أسعار الطاقة والسلع الغذائية على تغذية الضغوط التضخمية العالمية، مما يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للأسر.
والتضخم المرتفع يضر باستهلاك الأفراد والأسر ذات الدخل المنخفض. وبلغ التضخم في أسعار المواد الاستهلاكية في النصف الثاني من عام 2022 بأوروبا، 8.1 في المئة على أساس سنوي، وهذه أرقام قياسية منذ إنشاء اليورو في عام 1999.
وبحسب المحللين الاقتصاديين الأوروبيين فإن جزءاً كبيراً من هذا التضخم يرجع إلى صدمة أسعار الطاقة، وقد أدى ضعف اليورو مقابل الدولار خلال العام الماضي إلى زيادة الضغوط التضخمية، مما يرفع خطر تباطؤ النمو حين يشعر المنتجون أنه من غير المربح استمرار خطوط الإنتاج، وحين يقلل المستهلكون من الإنفاق مع تآكل قوتهم الشرائية.
وهذا المقطع يمكنه أن يكون الشرح الوافي لمطالب الحكومات الأوروبية من مواطنيها شد الأحزمة، أي إن دخل الأسر الذي سيتراجع بطبيعة الحال يجب أن يتم استخدامه من أجل الضرورات الأساسية لمساعدة الاقتصاد العام للدولة في مواجهة التضخم المالي الدولي وندرة الغاز المتوقعة لو طال أمد الحرب الروسية في أوكرانيا.