السبت 23 تشرين الثاني 2024

هل الرد على اغتيال هنية مسؤولية إيران فقط؟


عبد السلام فايز كاتب فلسطيني
النهار الاخباريه مقالات 
منذ اغتيال الرئيس الراحل للمكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والعالم يترقب رداً إيرانياً على الاحتلال الإسرائيلي، والاتصالات لاحتواء التصعيد تكاد تكون بالجملة، آخرها اتصالان هاتفيان أجراهما بنظيرهما الإيراني وزيرا خارجية بريطانيا ديفيد لامي، وفرنسا ستيفاني سيجوريه، إلى جانب منصات التواصل الاجتماعي التي حَمَلت في غالب الأحيان طابع السخرية والتهكم على التباطؤ الإيراني في الرد، وقد شارفنا على انقضاء الشهر الأول لعملية الاغتيال دون أن يحدث شيء.
وأمام هذا الزخم، أتساءل عن القاعدة المنطقية التي تم الاستناد عليها خلال الإجماع الواسع على أن الرد على اغتيال هنية هو اختصاص إيران فقط، وفي عهدتها دون غيرها على الإطلاق، بذريعة أن هنية اغتيل فوق أراضيها، ولا أحد سواها مُطالب بالرد.
ولتقريب وجهة نظري في الاعتراض على هذا الإجماع الخاطئ في معظمه، إنْ لم يكن في كُلّه جملةً وتفصيلاً، أستحضر المثال التالي: هَبْ مثلاً أنّ رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" دافيد برنياع، جرى استهدافه في الدوحة أثناء مشاركته في إحدى جولات التفاوض بشأن وقف إطلاق النار في غزة، وأدّى ذلك الاستهداف إلى مصرعه في الأراضي القطرية.. هل سوف تنتظر تل أبيب الرد من الدوحة التي جرى استهداف رئيس الموساد في أراضيها؟ أم أنها سوف تسارع وبشكل أكثر من عاجل، إلى الرد وبقوة على الدولة أو الجهة التي تبنت أو لمّحت لمسؤوليتها عن عملية الاستهداف، وستقلب المنطقة ربما، دون أن تترقب رداً قطرياً على الإطلاق على اعتبار أن المستهدف مسؤول إسرائيلي حتى لو جرى استهدافه خارج حدود فلسطين المحتلة، وهذا هو المنطق بطبيعة الحال، فالاحتلال الإسرائيلي لن يَتَكتّف مُرتقباً الرد القطري كما تَكتّفَت اليوم كل الدول العربية والإسلامية بعد اغتيال هنية في طهران نهاية تموز الماضي، منتظرةً الرد من إيران فقط، بذريعة أن هنية اغتيل في أراضيها، وبالتالي يُعفَى الجميع من مسؤولية الرد، ويبقى ذلك في عهدة إيران وحدها، فإنْ ردّت كان خيراً، وإنْ لم ترد فسوف تذهب دماء هنية بلا مقابل.
عجيبٌ هذا المنطق الأعوج، والأكثر غرابة أنّ المرتقبين للرد الإيراني والذين عفوا أنفسهم من المسؤولية وتَكتّفوا، راحوا يسخرون من تباطؤ إيران في ردها على اغتيال هنية، وكأن الشهيد هنية إيراني الأب والأم، وجَدّه السابع مدفون في أصفهان، وليس له أي جذور فلسطينية أو عربية أو إسلامية، ولهذا لا أحد في هذا الكوكب مطالب بالرد سوى إيران مسقط رأسه، ولكنّ المنطق يقول عكس ذلك تماماً، وما المثال الذي ضربته في طليعة هذا المقال إلا محاولة لوضع الأمور على نصابها الحقيقي، ولا يمكن أن تجد دولة في هذا العالم يتعرض مسؤول فيها لاغتيال وقح خارج حدود دولتها، فتنتظر الرد من تلك الدولة وتأخذ هي وضعية المزهرية، في محاولة يائسة للتخلص من أعباء ثقيلة قد تترتب عليها إذا ما تجرأت على الرد، وهذا ما يحدث اليوم مع أمتنا العربية والإسلامية في قضية اغتيال هنية، وبناء على ذلك فإنّ أولويات الرد على اغتيال الرجل تترتب ضمن التسلسل الآتي
أولاً: الرد مطلوب أولاً من إيران، ولا يختلف عاقلان على ذلك، لأن هنية اغتيل في أراضيها، أثناء مشاركته بمناسبة دبلوماسية علنية، شاركت فيها وفود إقليمية بشكل علني في حفل تنصيب الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان، خاصة أن هنية كان متواجدًا بين الوفود، ولم تكن زيارته بقصد إبرام صفقات أسلحة أو لغاية عسكرية، بل كانت الزيارة سياسية خالصة، ولهذا فإن عملية الاغتيال شكلت ضربة قاصمة لإيران هي الأقسى ربما منذ نشوء النظام الجمهوري في البلاد، ولكنّ السؤال المطروح الذي لن يجد جواباً واضحاً: ماذا لو لم ترد إيران؟ أو ماذا لو ردت كما هو متوقع بشكل محدود وضيق جداً حفظاً لماء الوجه، أو خشيةً من ترسانات الأسلحة الأمريكية المتدفقة للمنطقة، أو لأي سبب آخر.. ماذا لو حصل ذلك؟ هل ستضيع دماء هنية؟ وهل إيران هي المسؤولة الوحيدة واليتيمة عن الرد؟ أم أن تراجع إيران عن الرد يقودنا بطبيعة الحال إلى المسؤول الثاني إذا ما أردنا التدرج في السلسلة، لا سيما أن هنية لا يحمل الجنسية الإيرانية.
ثانياً: أرى أنه من المنطق القول إن مسؤولية الرد على اغتيال هنية في حال تراجعت إيران، تكون في عهدة الدول العربية والإسلامية، وفي مقدمتهم الفصائل والجهات الفلسطينية، فإسماعيل هنية ليس إيرانيًا يا جماعة الخير، بل هو فلسطيني بالدرجة الأولى، وعربي بالدرجة الأوسع، ومسلم بالدرجة الأكثر اتساعًا، و سنّي بالتسمية المذهبية، والحركة التي كان يترأسها حركة سنّيّة بامتياز كما تعرّف نفسها، وكما هو موجود في أبجدياتها، ولا يوجد فيها مقاتل واحد من الشيعة، بل كل الحركة بجناحيها السياسي والعسكري ومن أعلى هرمها إلى أصغر عنصر فيها هي من السنة، وبالتالي فإنّ السنة مطالبون بالرد على اغتيال هنية قبل الشيعة، والعرب مطالبون بذلك قبل إيران، وهذا هو التسلسل الحقيقي في مسؤولية الرد على اغتيال هنية، والذي لن يحظى بقبول المُتَكتّفين الذين يحاولون تبرئة أنفسهم من المسؤولية ووضع الكرة في ملعب إيران.
وعائلة هنية هي إحدى العائلات العربية العريقة في قطاع غزة، ومعروفة بكثرة عدد أفرادها، ومخزونها الثوري، ولها امتداد في الضفة الغربية، وخير دليل على صحة هذا القول استشهاد أكثر من 70 فردًا من هذه العائلة العربية السنيّة المُحافِظة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بينهم عدد من أبناء إسماعيل هنية وأحفاده، وهذا يعزز فكرة أن مسؤولية الرد تقع على عاتق الفلسطينيين قبل غيرهم.
وأتساءل هنا: ما الجُناح الذي ارتكبته لو طالبت دولتي، دولة فلسطين بالرد على اغتيال هنية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية؟ ألم يقل مسؤولو المنظمة وعلى مدار عقود مديدة أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟ حتى لو كانت حماس خارج مظلة هذه المنظمة، فإن هنية يبقى في نهاية المطاف فلسطينيًا ويحمل جواز سفر السلطة الفلسطينية.. ألم تَنْعَهُ القيادة الفلسطينية ووصفته بالقائد الوطني الفلسطيني الكبير؟ 
وما العيب أيضًا لو طالبنا الدول العربية والإسلامية بالرد على عملية الاغتيال؟ ألم يُؤدّ ملايين العرب والمسلمين حول العالم صلاة الغائب على روح هنية؟ ألم ينعه خطيب المسجد الأقصى المبارك عكرمة صبري من على منبر الأقصى؟ ألم تشارك وفود عربية وإسلامية في جنازته المهيبة بالدوحة؟ ألم يُؤخَذ هنية بالأحضان من قبل وفود عربية قبيل اغتياله بساعات؟ حتى مستشار العاهل السعودي منصور بن عبد العزيز الذي قطعت بلاده علاقاتها مع حركة حماس واعتقلت أعضاءً فيها ونفت آخرين، رأيناه خلال مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني وهو يتحيّن الفرصة لإلقاء السلام على هنية ومصافحته، ووقف على قدميه منتظرًا ذلك، ثم سارع هنية عندما رآه إلى الإقبال عليه ومصافحته ومعانقته وأخذه بالأحضان.
لا يا عزيزي.. ليست إيران هي المسؤولة الوحيدة على وجه الأرض عن الرد على اغتيال هنية، بل يشاطرها في ذلك الفلسطينيون والعرب والمسلمون بأكملهم، وإنّ نظرةً واقعيةً قصيرة المدى بعيدة عن الحب والكره لإيران، ستجعلك تدرك تماماً أنه لا يمكن لدولة في العالم تحترم نفسها وسيادتها، ويتم اغتيال مسؤول فيها خارج أراضيها، فتقف متفرجة مُترقّبة للرد من تلك الدولة التي زارها المسؤول، فيما تعفي هي نفسها من كل شيء، وتغطّ في نومٍ عميق.