مزيج التهدئة والصرامة.. لماذا تبدو السياسة التركية متناقضة؟
سوف تساعد المبادرات الدبلوماسية الأخيرة لتركيا على تجنب العقوبات المالية والتدابير العقابية الضارة للاقتصاد دون الاضطرار إلى تغيير حقيقي لسياستها الخارجية، الأمر الذي يكسب الحكومة التركية انتصارا سياسيا محليا تشتد الحاجة إليه خلال فترة اقتصادية صعبة.
وفي الأسابيع الأخيرة، عززت تركيا خطابها الدبلوماسي مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الدول العربية التي تربطها بها علاقات متوترة. وكان الوضع المالي الهش لتركيا قد ترك حكومة الرئيس "رجب طيب أردوغان" غير قادرة على تكرار المعجزة الاقتصادية التي حدثت في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، والتي عززت مكانة حزب العدالة والتنمية في السلطة. وقد أجبر ذلك "أردوغان" على اتباع سياسة خارجية توازن بين التصالح والاستقلالية من أجل الحفاظ على المركز السياسي المهيمن لحزبه الحاكم في البلاد قبل انتخابات عام 2023.
وساعد استئناف تركيا للمحادثات المباشرة مع اليونان في يناير/كانون الثاني على تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وتجنب عقوبات الاتحاد التي تم التلويح بها من قبل. وفي 25 مارس/آذار، أصدرت 27 حكومة من الاتحاد الأوروبي بيانا مفاده أن الكتلة "مستعدة للتعامل مع تركيا بطريقة مرحلية لتعزيز التعاون في عدد من المجالات ذات الاهتمام المشترك" في أعقاب التهدئة الأخيرة للتوترات بين أنقرة وأثينا بسبب نزاعهما البحري في شرق البحر المتوسط.
وأسفر اجتماع عقد مؤخرا بين كبار المسؤولين الأتراك والاتحاد الأوروبي عن اتفاق لتعميق التعاون الاقتصادي بين الجانبين.
وفي 24 مارس/آذار، قال "أردوغان" إن حكومته تسعى لإرساء السلام في منطقة الشرق الأوسط وزيادة عدد "أصدقاء تركيا" في جميع أنحاء العالم. وقبل أسبوعين، ورد أن السلطات التركية طلبت من جماعات المعارضة المصرية المتمركزة في تركيا تخفيف انتقاداتها للرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي".
وفي 12 مارس/آذار، قال وزير الخارجية التركي إن أنقرة أجرت اتصالات مع مصر على مستوى المخابرات والخارجية في أعقاب بيان صدر في 3 مارس/آذار بأن تركيا يمكن أن تعقد اتفاقا بحريا مع القاهرة، ما يشير إلى تحسن العلاقات بين البلدين. كما قال إن تركيا منفتحة على إعادة بناء العلاقات مع السعودية والإمارات.
وتسعى تركيا إلى تخفيف التصور العالمي السلبي عن سلوكياتها الإقليمية والمحلية لحماية اقتصادها وحكومتها من الإجراءات الاقتصادية العقابية والأضرار السياسية اللاحقة. وتخلق علاقات تركيا بروسيا، فضلا عن نشاطها في شرق البحر المتوسط، ودورها في مناطق الصراع الإقليمية مثل سوريا، نقاط خلاف اقتصادية وسياسية مع شركاء أنقرة الغربيين والإقليميين.
وتزيد هذه النقاط من مخاطر تعرض تركيا للعقوبات، وتحد من إمكانية تحقيق فائدة اقتصادية تجارية أكبر مع الدول الأخرى. وللحفاظ على موقعها السياسي المهيمن قبل انتخابات عام 2023، تريد حكومة "أردوغان" التي يقودها حزب العدالة والتنمية تقليل احتمالية تعرض تركيا لعقوبات اقتصادية أكثر إيلاما من الشركاء الغربيين مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي يمكن أن تعمق تقلب العملة المستمر في تركيا.
وربما يعني الحد من الاحتكاكات السياسية مع دول الخليج العربي الثرية وعدا بالفرص التجارية أيضا، مع تقديم تركيا لنفسها كقائد إقليمي على استعداد لتنحية الضغائن الشخصية جانبا من أجل الاستقرار في الشرق الأوسط.
وتواجه تركيا وضعا ماليا هشا منذ 2018، وأدى تعديل وزاري في البنك المركزي في مارس/آذار إلى دخول الليرة التركية مرحلة جديدة من التقلبات.
وكانت عقوبات الاتحاد الأوروبي على تركيا رمزية حتى الآن، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن التعاون التركي في بعض الملفات مثل قضية اللاجئين مفيد لبروكسل. وستسعى تركيا إلى الاستمرار على هذا النحو من أجل تجنب العقوبات الضارة.
وبالرغم من هذا الاستعداد الجديد لتعديل التصورات العالمية لسلوكها، فمن غير المرجح أن تغير تركيا استراتيجياتها العامة بشكل كبير، ما يعني أن علاقات أنقرة مع الدول الغربية والدول العربية المجاورة ستظل متوترة. ووسط حملتها الدبلوماسية الجديدة، أوضحت الحكومة التركية في الوقت نفسه أنها لن تخون مقتضيات الأمن القومي الخاصة بها، وقال "أردوغان" في 24 مارس/آذار إن بلاده "ليس لديها مشاكل لا يمكن حلها مع أي دولة تحترم مصالح تركيا الوطنية".
ويؤكد بيان "أردوغان" أن تركيا ستسير على خيط دقيق لتحقيق ما تحتاجه من الدول الأخرى وتجنب العقوبات دون التضحية بمطالبها واحتياجاتها المتعلقة بالأمن القومي. وتتطلب المصالحة الفعلية العميقة مع الاتحاد الأوروبي ومصر المزيد من الإجراءات من جانب أنقرة والتي من شأنها أن تتعارض مع حتميات الأمن القومي التركي.
وبالرغم من إمكانية التنسيق الأعمق مع بروكسل، فمن غير المرجح أن تتزحزح تركيا عن موقفها بخصوص قبرص حيث تعتبر أنقرة أن شمال قبرص أرض تركية كاملة. كما أنه من غير المرجح أن تسحب تركيا دعمها الدبلوماسي والاقتصادي بالكامل للجماعات الإسلامية السياسية في جميع أنحاء المنطقة، بالرغم أن ذلك يفتح مجالات مهمة للتعاون مع مصر ودول الخليج العربي.
وفي 2 مارس/آذار، أعلن "أردوغان" عن خطة عمل شاملة لحقوق الإنسان مدتها عامان لتعزيز سيادة القانون وزيادة الشفافية القضائية وتخصيص المزيد من الحريات للصحفيين الأتراك. ولكن بعد أسبوعين فقط، أعلن "أردوغان" في 20 مارس/آذار انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول المتعلقة بحقوق المرأة، وأصر على أن القانون المحلي التركي يوفر حماية كافية للمرأة. ونال القرار الأول إشادة من الاتحاد الأوروبي بينما أثار الأخير انتقادات، ما يؤكد حدود رغبة تركيا في مواءمة سياستها مع سياسات شركائها وجيرانها.
وتقدم الحكومة التركية الحد الأدنى من التنازلات وأغصان الزيتون الخطابية بما يمنح تركيا المرونة لمواصلة إجراءات السياسة الخارجية التي تتماشى بشكل جيد مع قاعدة حزب العدالة والتنمية في الداخل في منعطف سياسي حرج في تركيا.
وحتى الآن، يمنع الحد الأدنى من التعاون الخطابي مع الشركاء الأجانب تركيا من تأجيج توترات سياسية واقتصادية أكبر مع شركائها وجيرانها مع استمرار تمكن أنقرة من مواصلة سلوكها كما تراه مناسبا.
وفي 6 أبريل/نيسان، وعد قادة الاتحاد الأوروبي بتقديم تمويل إضافي لتركيا مقابل تجديد اتفاق اللاجئين مع الاتحاد. كما فتحت بروكسل الباب لتحديث اتفاقها الجمركي مع أنقرة، ما سيساعد في تحسين الاقتصاد التركي. ومن شأن ضخ المزيد من الأموال لتركيا والتعامل الذكي مع الاتحاد الأوروبي أن يوفر وقودا سياسيا مهما لحزب العدالة والتنمية.
ومن المحتمل أن تؤدي الدبلوماسية المتزايدة مع مصر والإمارات والسعودية إلى خلق نوع من حسن النية السياسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين انتقدا السلوك التركي في الأعوام الأخيرة باعتباره "عدوانيا ومنحازا ومزعزعا لاستقرار الأمن الإقليمي"، خاصة في الصراع في مناطق مثل ليبيا وسوريا حيث تتداخل المصالح التركية والعربية.
وسيساعد هذا في حماية تركيا من مخاطر العقوبات الغربية، حتى مع تمسكها باستراتيجيتها في مناطق الصراع تلك في إطار سعيها لتحقيق ضرورات الأمن القومي التي تتماشى بشكل جيد مع تطلعات ناخبي حزب العدالة والتنمية.
وعلى الصعيد المحلي، فإن إظهار حسن النية مع مصر سيظهر "أردوغان" باعتباره رجل دولة يسعى لخفض التوترات بينما عدوه "السيسي" هو الطرف المعتدي المستبد الذي يطيل أمد التنافس بين البلدين. وعلى الصعيد الإقليمي، أثبتت الرغبة في التواصل مع مصر بالفعل أنها مفيدة على الأرض في ليبيا، حيث أحرزت أنقرة والقاهرة تقدما نحو إجراء انتخابات طال انتظارها هذا العام.