النهارالاخباريه وكالات
فرضت فرنسا حالة الطوارئ في كاليدونيا الجديدة وأرسلت قوات شرطة جديدة إلى الجزيرة الواقعة في المحيط الهادئ، فماذا يحدث هناك؟ وكيف يمكن أن تؤثر الأحداث على باريس؟
أين تقع كاليدونيا الجديدة؟
تقع كاليدونيا الجديدة في المياه الدافئة في جنوب غرب المحيط الهادئ، على بعد أكثر من 1500 كلم من أستراليا من جهة الشرق. وهي عبارة عن أرخبيل من الجزر، والعاصمة هناك هي نيوميا. تبلغ مساحة كاليدونيا الجديدة نحو 18.5 كلم مربع وعدد سكانها 270 ألف نسمة، 41% منهم من شعب الكاناك، وهم السكان الأصليون.
كاليدونيا الجديدة هي الاسم الذي أطلقه المستكشف البريطاني على الجزيرة القبطان جيمس كوك عام 1774. وامتلكت فرنسا الجزيرة وضمتها إلى أراضيها عام 1853، وظلت مستعمرة فرنسية حتى مطلع القرن العشرين. وفي عام 1947، تم إدراج كاليدونيا الجديدة في قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، بعد أن أحالت فرنسا معلومات بشأن الجزيرة والأقاليم التابعة لها بموجب المادة 73 (هـ) من ميثاق الأمم المتحدة.
الاستعمار الفرنسي لكاليدونيا الجديدة
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، تم اكتشاف المعادن على أراضي الجزيرة، وبخاصة النيكل، ما زاد من أهمية كاليدونيا الجديدة بالنسبة لفرنسا. فالجزيرة هي المصدر العالمي رقم 3 للنيكل. ومع مرور الوقت، بدأت التوترات على الجزيرة مع ظهور حركات من الكاناك -السكان الأصليين- تسعى للاستقلال عن فرنسا.
وفي عام 1998، تم توقيع اتفاقية بين فرنسا وكاليدونيا الجديدة ساعدت في إنهاء الصراع من خلال الاتفاق على "مسار تدريجي إلى الحكم الذاتي"، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية. كان أبرز بنود هذه الاتفاقية ينص على حصر حق التصويت على الكاناك والمهاجرين -من أصول أوروبية وغالبيتهم فرنسيون- الذين كانوا يعيشون في كاليدونيا الجديدة قبل عام 1998.
وطبقاً للاتفاقية، تم إجراء 3 استفتاءات بهدف تحديد مستقبل البلاد، وتم رفض الاستقلال في الاستفتاءات الثلاثة.
ماذا حدث في كاليدونيا الجديدة؟
شهدت كاليدونيا الجديدة، بداية من يوم الثلاثاء 14 مايو/أيار الجاري، اندلاع أعمال شغب واحتجاجات عنيفة، وصفتها وسائل إعلام غربية نقلاً عن شهود عيان هناك بأنها "أقرب إلى الحرب الأهلية"، فما أسباب الشغب؟
السبب هو تبني المشرعين في البرلمان الفرنسي مشروع قانون جديد يسمح للمواطنين الفرنسيين الذين عاشوا في كاليدونيا الجديدة لمدة عشر سنوات بالتصويت في الانتخابات المحلية هناك.
هذه الخطوة أثارت حفيظة القادة المحليين، الذين رأوا فيها تقويضاً للقدرة التصويتية للسكان الأصليين -الكاناك- الساعين إلى الحصول على استقلالهم من فرنسا في نهاية المطاف.
من جانبها، ترى باريس أن اتفاقية نيوميا -نسبة إلى عاصمة كاليدونيا الجديدة- تعتبر "غير ديمقراطية"، وبالتالي أقر المشرعون الفرنسيون تعديلاً عليها يسمح بفتح حق التصويت أمام المواطنين الفرنسيين الذين انتقلوا للعيش هناك قبل عشر سنوات على الأقل.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد قال إنه لن يوقع على التشريع ليتحول إلى قانون ووجه الدعوة لممثلين محليين عن شعب الإقليم الباسيفيكي ليأتوا إلى باريس وإجراء محادثات بهدف التوصل إلى تسوية للموقف. لكن ماكرون اشترط أن يتم التوصل إلى هذه التسوية بحلول شهر يونيو/حزيران وإلا سيقوم بالتوقيع على مشروع القانون، وهي الخطوة الأخيرة لإقراره.
"حرب أهلية"!
لكن يبدو أن محاولة ماكرون لم تنجح في تهدئة الموقف، إذ تحولت الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة أثارت حالة من الذعر في الجزيرة. ليزي كاربوني، إحدى السكان المحليين، قالت لصحيفة الغارديان البريطانية إنها أدركت أن "الحياة في كاليدونيا الجديدة قد تغيرت للأبد عندما اشتعلت النيران في المدرسة التي تلقت فيها تعليمها وهي صغيرة"، وكان ذلك مساء الأربعاء.
"سمعت الناس تصيح وتصرخ وتم إلقاء القنابل اليدوية"، بحسب ليزي، مضيفة أنها شهدت "أسوأ ليلة في حياتها"، وشبهت ما تشهده العاصمة نيوميا بأنها حالة ترقى إلى "الحرب الأهلية".
هذه المشاهد العنيفة اندلعت على خلفية إقرار البرلمان الفرنسي لذلك التعديل على حقوق التصويت في الجزيرة. والآن أصبحت دوريات العربات المدرعة تجوب الشوارع وبات السكان يخشون مغادرة منازلهم.
فرنسا تعلن حالة الطوارئ
ردت فرنسا بإعلان حالة الطوارئ في الجزيرة، ووضعت ما لا يقل عن عشرة أشخاص قيد الإقامة الجبرية كما حظرت تطبيق تيك توك.
والجمعة 17 مايو/أيار، قال أكبر مسؤول فرنسي في كاليدونيا الجديدة إن طلائع تعزيزات من الشرطة الفرنسية بدأت تصل إلى كاليدونيا الجديدة في إطار عملية واسعة النطاق لاستعادة السيطرة على العاصمة نيوميا.
سيرتفع عدد أفراد الشرطة والدرك في الجزيرة الخاضعة للحكم الفرنسي إلى 2700 من 1700 بحلول مساء الجمعة. وقال المفوض السامي الفرنسي لوي لو فرانك للصحفيين في مؤتمر بثه التلفزيون إن ليلة الخميس كانت هادئة نسبياً بعد أعمال الشغب التي بدأت يوم الإثنين وأسفرت عن مقتل أربعة أشخاص واعتقال المئات، بحسب تقرير لرويترز.
لكن لا تزال هناك نقاط مواجهة وقلق في نيوميا العاصمة، بحسب فرانك، الذي أشار إلى أن عمليات لتوفير الغذاء والدواء للجمهور ستبدأ بفرق تضم متخصصين في إزالة الألغام وإزالة حواجز الطرق التي فخخها النشطاء: "تعزيزات ستصل بكثافة وبشكل فوري (وسيتم نشرها) للسيطرة على المناطق التي خرجت عن سيطرتنا في الأيام الماضية".
أما حكومة كاليدونيا الجديدة فقد أصدرت بياناً الجمعة قالت فيه إن الجزيرة لديها مخزون من الغذاء يكفي لشهرين، وإن المشكلة تكمن في التوزيع.
وتنظم الاحتجاجات في كاليدونيا الجديدة جهة تسمى "خلية تنسيق العمل الميداني" وندّد بها المفوض السامي الفرنسي ونأى بها عن حزب جبهة الكانك للتحرير الاشتراكي المؤيد للاستقلال. وقال لو فرانك إن القوات المسلحة تحمي المطارين والميناء في كاليدونيا الجديدة، كما تم وضع أربعة على الأقل يعتقد أنهم من المحرضين قيد الإقامة الجبرية.
لكن ممثلاً عن خلية تنسيق العمل الميداني قال لرويترز إنه لا علم لهم بمن هم في الإقامة الجبرية. وقال وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان الخميس: "لن ينتشر الجيش في شوارع كاليدونيا الجديدة. المسألة تتطلب فقط حفظ النظام". وأضاف أن عدد أفراد الشرطة والأمن في كاليدونيا الجديدة سيزيد من 1700 إلى 2700 بحلول مساء الجمعة مع استدعاء عدد قليل من الجنود للمساعدة.
ولقي ثلاثة شبان من السكان الأصليين حتفهم في أعمال الشغب، كما توفي مسؤول في الشرطة يبلغ من العمر 22 عاماً متأثراً بإصابته بطلق ناري. وأضاف دارمانان أن الشرطة ألقت القبض على المسؤول عن إطلاق النار على اثنين من قتلى السكان الأصليين.
اتهامات فرنسية لأطراف خارجية
وجهت فرنسا أيضاً اتهامات لجهات خارجية بإشعال الموقف في كاليدونيا الجديدة، حيث تمثل المنطقة عموماً، جنوب غرب المحيط الهادئ منطقة صراع جيوسياسي مشتعل للغاية.
الحكومة الفرنسية، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان، قالت إنها لا شك لديها أن "أذربيجان تتحمل المسؤولية عن الشغب الذي أدى لمقتل 5 أشخاص (في كاليدونيا الجديدة)" وأدى لإثارة القلق لدى باريس. لكن أذربيجان رفضت الاتهامات الفرنسية شكلاً ومضموناً.
تشير الحكومة الفرنسية إلى "الظهور المفاجئ للأعلام الأذربيجانية إلى جانب الرموز الخاصة بشعب الكاناك خلال الاحتجاجات"، إضافة إلى الدعم العلني من جانب جماعة مرتبطة بالسلطات في باكو للانفصاليين في كاليدونيا الجديدة وتوجيه انتقادات عنيفة لباريس في الوقت نفسه.
"هذا ليس خيالاً. إنها الحقيقة"، حسب ما قال دارمانيان للقناة الثانية الفرنسية عند سؤاله عن وجود دور محتمل للصين وروسيا وأذربيجان فيما تشهده كاليدونيا الجديدة من اضطرابات، مضيفاً: "يؤسفني أن بعض القادة المحليين المؤيدين للاستقلال قد عقدوا اتفاقاً مع أذربيجان. إنه أمر لا يمكن إنكاره. لكن حتى لو كانت هناك محاولات للتدخل، ففرنسا دولة ذات سيادة على أراضيها، وموقفنا هو الأفضل".
"نحن نرفض هذه الاتهامات التي لا أساس لها شكلاً ومضموناً"، هكذا رد المتحدث باسم الخارجية الأذربيجانية، أيهن حاجي زادة على فرنسا، مضيفاً: "إننا نتحدى وجود أي صلة مع قادة الصراع من أجل الحرية في كاليدونيا وأذربيجان".
كيف يمكن أن تؤثر الأحداث على فرنسا؟
إذا كانت فرنسا تركز الاتهامات نحو أذربيجان، فهذا ربما لا يكون أمراً غريباً في ظل العلاقات المتوترة بين باكو وباريس منذ عام 2020، بسبب الدعم الفرنسي لأرمينيا، إلا أن المنطقة الواقعة في جنوب غرب المحيط الهادئ منطقة صراع جيوسياسي أكبر بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى.
في هذا الإطار، حث وزير الخارجية النيوزيلندي جميع الأطراف على عدم تصعيد الوضع الذي وصفه بأنه "يتسبب في قلق كبير في أنحاء منطقة جزر المحيط الهادي". كما قال رئيس وزراء فانواتو الذي يترأس مجموعة ميلانيزيا التي تضم أيضاً فيجي وبابوا غينيا الجديدة وجزر سليمان إن التدمير العشوائي للممتلكات سيؤثر سلباً على اقتصاد كاليدونيا الجديدة وله تأثير أيضاً بالتبعية على أرواح كل سكانها بما فيهم الكانك.
وأضاف أن على فرنسا أن تجري حواراً مع حزب جبهة الكانك للتحرير الاشتراكي الذي ندد بأعمال العنف وأن تلغي التعديلات الدستورية التي تسببت في الأزمة. وقال: "كان من الممكن تجنب تلك الأحداث إذا سمعت الحكومة الفرنسية أصواتهم". من جانبه، دعا وزير الخارجية الأسترالي في البرلمان إلى تهدئة الأوضاع وقال إن بلاده تؤيد النقاش والحوار بين جميع الأطراف. لكن في ظل تمسك فرنسا بموقفها، لا يبدو أن الأمور تتجه نحو التهدئة.
كانت هذه المنطقة قد شهدت زلزالاً جيوسياسياً عام 2022 تسبب فيه إعلان الصين وجزر سليمان، المجاورة لكاليدونيا الجديدة، عن توقيع اتفاقية أمنية، وهو ما أثار الغضب في أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وباقي العواصم الغربية.
جزر سليمان Solomon Islands هي أرخبيل يتكون من نحو 990 جزيرة تشكل معاً دولة عاصمتها هونيارا، وتقع في جنوب المحيط الهادئ على بعد أقل من 2000 كلم من الساحل الشرقي لأستراليا، ويبلغ عدد سكان الأرخبيل نحو نصف مليون نسمة ومساحة الجزر مجتمعة نحو 82450 كيلومتراً مربعاً.
وجزر سليمان دولة تابعة للتاج البريطاني وتتمتع بعلاقات وثيقة مع أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، وهو ما كان يعني أن جزر سليمان ملعب غربي خالص، وموقعها الاستراتيجي في جنوب المحيط الهادئ يجعلها كنزاً من الصعب التفريط فيه.
وبالتالي تخشى الحكومة الفرنسية من أن تتصاعد الأمور وتؤدي في نهاية المطاف إلى موقف شبيه بما حدث مع أغلب المستعمرات الفرنسية السابقة في قارة أفريقيا، حيث فقدت باريس نفوذها هناك لصالح قوى أخرى أبرزها روسيا والصين.